الانتفاع بالنجاسات - كالميتة أو الخنزير وغيرها - له صور عدة: منها الاستصباح بها أو دهن السفن أو التداوي بها بالتلطخ بها بدون أكل ولا شرب ونحو ذلك. وهذا الانتفاع محل خلاف بين العلماء.
اختيار ابن تيمية:-
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جواز الانتفاع بشحوم الميتة عموماً للحاجة خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1].
تحرير محل النزاع في المسألة:
1- الكلام في الانتفاع بالنجاسات فرع عن الخلاف في طهارة هذه الأعيان ونجاستها، ويفصله الفقهاء في باب الآنية، كما تفرع عن الخلاف في طهارتها أو نجاستها: الخلاف في بيعها، ويفصله الفقهاء في باب البيع، وموطن الخلاف هنا في شحم الميتة ونحوها.
2- استعمال شعر نجس في يابس جائز على المشهور من مذهب الحنابلة [2] وفاقاً للحنفية [3]، وليس هذا محل البحث هنا.
3- الأدهان المتنجسة وهي التي أصلها طاهر ثم طرأت عليها النجاسة ويمكن تطهيرها فهذه يجوز الانتفاع بها عند عامة العلماء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة [4]، وهو قول كثير من الصحابة والتابعين، ومن ذلك جلود الميتة لأنها طرأت عليها النجاسة ويمكن تطهيرها بالدباغ، ومنها الأدهان الطاهرة التي أصابتها نجاسة، على تفصيلات وفروع لكل مذهب يطول سردها [5]، وابن تيمية موافق في هذا كله، وليس هذا محل البحث.
4- ومحل الخلاف هو الأعيان النجسة كشحوم الميتة وشحوم الخنزير والكلب ونحوها، وهي محل خلاف على أقوال عدة.
أقوال العلماء في المسألة:-
القول الأول:
أنه لا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة ونحوها باستصباح أو نحوه.
وهذا القول هو المذهب عند علماء الحنابلة قولاً واحداً، وقد نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله -[6].
وهو قول عند الشافعية خلاف المشهور [7].
وهو القول المشهور عند المالكية وخاصة في التلطخ بالنجاسة حيث قالوا بتحريمه، ونصوا على جواز الانتفاع بالمتنجس وتحريم الانتفاع بالنجس [8].
ونسبه الحافظ ابن حجر للجمهور في الانتفاع بالميتة [9].
القول الثاني:
أنه لا يجوز استعمال أجزاء الكلب أو الخنزير في ثوب أو بدن إلا لضرورة، ويجوز في غيرهما إن كانت نجاسة مخففة، وبناء على هذا فيجوز طلي السفن بشحم الميتة ودهن الدواب به، ويجوز الاستصباح به ولو كان نجس العين.
وهذا مذهب الشافعية وقد نص عليه الإمام الشافعي - رحمه الله - [10].
القول الثالث:
أنه يجوز الانتفاع بالنجاسات في الاستصباح وما في معناه.
وهذا مذهب الحنفية، ولذا جوّزوا الاستفادة من شعر الخنزير في اليابس، وجوزوا الانتفاع بالكلب؛ لأنه طاهر العين على المذهب، وجوّزوا الانتفاع بأجزاء الميتة لقولهم بطهارة لواحقها [11].
وهذا القول أومأ إليه الإمام أحمد - رحمه الله - [12]، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم [13].
أدلة القول الأول:-
أولاً: من الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [14].
والرجس: النجس، وهذا يقتضي نجاسة الخنزير والميتة وأجزائهما، والنجس لا يجوز ملابسته.
ونوقش:
أ- بأنه دليل عام مخصص بأدلة خاصة وستأتي.
ب- أن المراد المنع من الأكل، أما الانتفاع فلم يرد النهي عنه، وفرق بين الأمرين، وإذا كان الانتفاع لا يلزم منه الملابسة كالاستصباح فما المانع منه؟
ثانياً: من السنة:
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه" أخرجه الإمام أحمد وأبو داود[15] وغيرهما.
2- حديث جابر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا. هو حرام" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه" متفق عليه [16].
ووجه الدلالة من الحديثين أنهما دلا على تحريم هذه الأعيان بيعاً وملابسة وانتفاعاً، والضمير في قوله "هو حرام" يعود على الانتفاع.
ونوقش:
أ- أن تحريم البيع لا يلزم منه تحريم الانتفاع كبيع المصحف عند من حرمه، وكبيع الآدمي الحر.
ب- لا نسلم أن الضمير يرجع إلى الانتفاع، بل يرجع إلى البيع لأنه ذكَّر الضمير، ولو أراد الانتفاع بشحوم الميتة لقال: هي حرام، وهذا الذي رجَّحه الشافعي وابن تيمية في مرجع الضمير [17].
ثالثاً: القياس:
قالوا: يحرم قياساً على تحريم الانتفاع بالخمر مع تحريم بيع الاثنين.
ونوقش:
أ- أن قياسه على الخمر ليس بأولى من قياسه على الثوب النجس، والذي يجوز الانتفاع به.
ب- أن الخمر يجوز الانتفاع بها للضرورة لدفع لقمة غص بها، ولم يحضره غيره.
ج- أن الخمر يجب إتلاف عينها؛ لأنها منكر، بخلاف شحوم الميتة والكلب ونحوه.
أدلة القول الثاني:-
وقد استدلوا بأدلة المجوزين على جواز ما عدا الكلب والخنزير.
أما استثناؤهم الكلب والخنزير فلأدلة:
أولاً: من الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [18].
فدلت الآية على نجاسة عين الخنزير، والنجس لا يجوز ملابسته إلا ما ورد به النص، ولم يرد في استثناء الخنزير نص، بخلاف الميتة فقد ورد فيها نص.
ونوقش:
الاستدلال بالآية يقضي بإدخال الميتة أيضاً في الدلالة، فإذا كان التعليل بالنجاسة فهما مشتركان فيها، وإذا اشتركا فيها وسلمنا تخصيص الميتة فيلزم قياس الخنزير عليه بجامع العلة المذكورة المخصصة، وهي الانتفاع بلا مماسة من النجس العين للحاجة.
ثانياً: من السنة:
1- عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن" متفق عليه [19] .
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات"متفق عليه[20].
ووجه الدلالة منها: أنهما دلا على نجاسة الكلب وأن نجاسته تزيد على نجاسة غيره، ولذا حرم بيعه وأخذ ثمنه، وما عدا الكلب لا يشاركه في ذلك.
ونوقش:
أنه يلزمكم ذلك في الميتة فهي محرمة البيع ونجسة العين، ولا يوجد فارق مؤثر هنا.
ثالثاً: القياس:-
قالوا الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، وكذلك الكلب إلا في مواطن مخصوصة، فمن باب أولى إذا مات [21].
أدلة القول الثالث:-
أولاً: من السنة:
1- أحاديث الأمر بالانتفاع بالميتة ومنها: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعنز ميتة فقال: "ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها" متفق عليه [22]. وفي بعض الروايات قال: "إنما حرم أكلها".
ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأن المحرم هو الأكل دون ما سوى ذلك من أنواع الانتفاع، وأداة الحصر "إنما" تعتبر من أقوى دلالات المفهوم حتى تقارب المنطوق في القوة، ودلالة المفهوم لأداة الحصر تقتضي جوازه فيما سوى ذلك.
2- حديث جابر السابق قال: أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: "لا. هو حرام" [23].
ووجه الدلالة منه أن الضمير يرجع إلى البيع، وهذا يعني جواز الانتفاع المذكور، لأنه أقرهم عليه، وحرم بيعه فقط [24].
ثانياً: القياس:-
1- أن العلماء أجمعوا على جواز الانتفاع بالسرجين [25]، وإذا جاز الانتفاع به فمسألتنا في معناه بجامع النجاسة في كلٍ، ولا فرق [26].
2- القياس على الثوب المتنجس ونحوه، فإذا جاز الانتفاع به مع نجاسته فغيره في معناه، ومثله الدهن المتنجس [27].
ونوقش:
بوجود فارق مؤثر.
وأجيب عن هذا:
بعدم التأثير في الفارق.
3- واستدل ابن تيمية رحمه الله بالقياس على الاستنجاء باليد، مع إمكان الحجر والمنديل، والقياس على إزالة النجاسة عموماً [28].
ثالثا: من المعنى والنظر:-
1- أن الانتفاع بهذه النجاسات ممكن مع عدم مباشرة وملابسة، فما المانع من ذلك، هذا لو سلمنا المنع من المباشرة.
2- أن استعمال النجاسة يجري مجرى الإتلاف، كما ذكر ابن تيمية، وليس في ذلك ضرر، والشريعة لا تحرم مثل هذا [29] .
الترجيح:-
والراجح والله أعلم هو القول الثالث وهو جواز الانتفاع بالنجاسات للحاجة:
1- لقوة أدلته وسلامة أكثرها من الاعتراض، وإمكان الإجابة عما ورد عليه من الاعتراضات.
2- مناقشة أدلة الأقوال الأخرى بما يفيد عدم دلالتها على مرادهم.
3- و يؤيد هذا أن قاعدة الانتفاع في الشريعة أوسع من قاعدة البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، كبيع المصحف عند من حرم بيعه، وكبيع الآدمي الحر ونحو ذلك [30] .
ولعل من أسباب الخلاف في المسألة:
الخلاف في طهارة بعض هذه النجاسات حيث قال بعض العلماء بطهارة الخنزير، وبعضهم قال بطهارة الكلب، ولا شك أن من قال بطهارة شيء فيلزمه القول بجواز الانتفاع به [31].
ومن أسباب الخلاف:
الخلاف في علة هذه النجاسات هل هي كونها نجسة بعينها، أو خشية مباشرة النجاسة أو غير ذلك؟.
ولعل من أسباب الخلاف:
الخلاف في استحالة النجاسة إلى جنس آخر هل يغير حكمها أو لا؟.مثل السرجين النجس بعد أن يسمد به هل يطهر بالاستحالة أو لا؟.
وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا جوزنا الانتفاع به في حكم المعاوضة به بغير البيع كالهدية والهبة لينتفع به المهدى إليه فهل يجوز أو لا؟. [32] ينبني على الخلاف في المسألة.
_________________________
[1] انظر: مجموع الفتاوى: (21/83)، (24/270 - 271)، زاد المعاد: (5/749 - 750)، مختصر الفتاوى المصرية: (34)، الاختيارات: (26)، الإنصاف: (4/283)، (1/88) المستدرك لابن قاسم: (5/6)،.
[2] انظر: كشاف القناع: (1/56).
[3] انظر: تبيين الحقائق: (4/51)، شرح فتح القدير: (6/425)، بدائع الصنائع: (1/63)، (2/142).
[4] انظر: الفتاوى الكبرى: (1/258-260)، الفروع: (4/19) (1/106)، الإنصاف: (4/282) (1/88)،، تصحيح الفروع: (4/20)، شرح المنتهى: (2/143)، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: (4/338).
[5] انظر: المحلى: (1/144 م 136)، المبسوط: (1/95)، بدائع الصنائع: (1/79)، المجموع للنووي: (9/283)، تبيين الحقائق: (4/51)، مواهب الجليل: (1/59)، حاشية الخرشي: (1/90)، التاج والإكليل: ( 1/163)، حاشية الدسوقي: ( 1/212)، القواعد لابن رجب: (92)، موسوعة الإجماع، سعدي أبو جيب: (1/182).
[6] انظر: القواعد لابن رجب: (192)الإنصاف: (4/283)، كشاف القناع: (3/156)، الروض المربع: (4/339).
[7] انظر: المجموع: (4/335)، روضة الطالبين:( 2/66).
[8] انظر: مواهب الجليل: (1/59)، حاشية الخرشي: (1/90)، حاشية الدسوقي: (1/60)، التاج والإكليل: (1/168).
[9] فتح الباري: (4/425).
[10] انظر: روضة الطالبين: (2/66)، المجموع للنووي: (4/335)، أسنى المطالب: (1/277)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: (1/184)، تحفة الحبيب: (2/232)، الوسيط: (2/311).
[11] انظر: تبيـين الحقائق: (6/26)، بـدائع الصنائع: ( 1/63 )، ( 5 / 57 )، البناية: (1/368، 377)، البـحر الرائـق: ( 1 /106)، شـرح فتـح القدير: (6 /425 ).
[12] انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين: (1/66)، الفروع: (1/106)، القواعد لابن رجب: (192)، الإنصاف: (4/283)، الاختيارات: (26).
[13] جامع الفقه لابن القيم: (4/126).
[14] سورة الأنعام: (145).
[15] مسند أحمد: (1/293)، سنن أبي داود: (3/280) رقم (3488)، كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، ورجاله ثقات كما قال في التعليق المغني: (3/7)، وصححه ابن حبان: (11/312)، والحديث أخرجه أيضاً الدارقطني في سننه: ( 3/7)، كتاب البيوع، رقم (20) والجعد في مسنده: ( 2/1153) برقم ( 3442)، والطبراني في الكبير:( 12/200)، والحديث أصله في الصحيحين بدون الزيادة الأخيرة. انظر: فتح الباري: )4/414).
[16] صحيح البخاري: (4/424)، كتاب البيوع (34)، باب بيع الميتة(112)، رقم الحديث (2239)، صحيح مسلم: (3/1207)، رقم (1581)، كتاب المساقاة (22)، باب رقم (13).
[17] انظر: زاد المعاد: (5/749)، فتح الباري: (4/425).
[18] سورة الأنعام: (145).
[19] صحيح البخاري: (4/426)، كتاب البيوع: (34)، باب (113)، حديث رقم (2237) وأطرافه في (2282، 5346، 5761)، صحيح مسلم: (3/1198)، كتاب المساقاة (22)، باب رقم (9)، حديث رقم (1567).
[20] صحيح البخاري: (1/274)، كتاب الوضوء، باب رقم (33)، حديث رقم (172)، صحيح مسلم: (1/234)، كتاب الطهارة (2)، باب رقم (7)، حديث رقم (279).
[21] انظر: المجموع: (4/335).
[22] صحيح البخاري: (9/659)، كتاب الذبائح والصيد، باب رقم (30) حديث رقم (5532)، صحيح مسلم: ( 1/276 ) كتاب الحيض (3)، باب رقم (27)، حديث رقم (363).
[23] سبق تخريجه: (207).
[24] انظر: زاد المعاد: (5/749).
[25] السرجين بفتح السين وكسرها هو الزبل، ويقال السرقين، انظر: المطلع: (229)، تحرير ألفاظ التنبيه: (176)، الدقائق على المنهاج للنووي: (51).
[26] موسوعة الإجماع: (1/181)، سعدي أبو جيب.
[27] انظر: زاد المعاد: (5/751).
[28] انظر: مجموع الفتاوى: (24/270).
[29] انظر: مجموع الفتاوى: (21/83).
[30] انظر: زاد المعاد: (5/753).
[31] انظر: فتح الباري: (4/425).
[32] انظر: الإنصاف: (7/131)، وانظر في استعمال النجاسة عموماً والتداوي بها: حكم التداوي بالمحرمات، د. عبد الفتاح محمود إدريس، المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء، د. نزيه حماد، استعمال المواد النجسة والمحرمة في الغذاء والدواء، أ. د. محمود محمد حسن، بحث علمي نشر في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد 30، عام 1417هـ، بيع الأعيان المحرمة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، د. محمد وفا، أحكام الأطعمة في الإسلام، د. كامل موسى.