من المسائل المعاصرة التي أثيرت في هذه الأيام مسألة حكم زواج المرأة وهي في عدتها، ونحاول في هذه الأسطر بحث الأصل الشرعي في هذه المسألة.
نعلم أولا من التأصيل الشرعي أن الفقهاء اتفقوا على أن لعدة المرأة ثلاث حالات:
1- إن كانت من ذوات الحيض فعدتها : ثلاث حيضات ، لقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) البقرة/228 .
2- وإن كانت لا تحيض لكونها صغيرة أو آيسة ، فعدتها ثلاثة أشهر .
3- وإن كانت حاملا فعدتها وضع الحمل .
ودليل الثانية والثالثة قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الطلاق/4 .
ونجد الفقهاء اختلفوا في مسألة معنى القرء المذكور في الآية، على قولين:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية والحنابلة أن القرء هو الحيض، وعليه إذا انقضت الحيضة الثالثة للمرأة المطلقة فقد انتهت عدتها ، وجاز العقد عليها .
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أن المقصود بالقرء في الآية الكريمة هو الطهر وليس الحيض، وعليه فإن عدة المرأة تنتهي برؤية الدم من الحيضة الثالثة إن كان قد طلقها زوجها وهي طاهر ، أو برؤية الدم من الحيضة الرابعة ، إن كان قد طلقها وهي حائض . ينظر : المغني (8/81- 84).
وثمرة الخلاف السابق نقول: أنه إذا وقع النكاح بعد انقضاء العدة فالنكاح صحيح، وإذا وقع قبل انقضاء العدة فالنكاح الثاني باطل، ويترتب على البطلان التفريق بين الزوجين (الزوجة والزوج الثاني) ثم على الزوجة أن تكمل عدة طلاقها.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (29/ 346) : " اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للأجنبي نكاح المعتدة أيا كانت عدتها من طلاق أو موت أو فسخ أو شبهة ، وسواء أكان الطلاق رجعيا أم بائنا بينونة صغرى أو كبرى . وذلك لحفظ الأنساب وصونها من الاختلاط ومراعاة لحق الزوج الأول ، فإن عقد النكاح على المعتدة في عدتها ، فُرّق بينها وبين من عقد عليها ، واستدلوا بقوله تعالى : ( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) والمراد تمام العدة ، والمعنى : لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ، أو لا تعقدوا عقدة النكاح حتى ينقضي ما كتب الله عليها من العدة ... وفي الموطأ : أن طليحة الأسدية كانت زوجة رشيد الثقفي وطلقها ، فنكحت في عدتها ، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بخفقةٍ ضربات ، وفرق بينهما ، ثم قال عمر : أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم إن شاء كان خاطبا من الخطاب . وإن كان دخل بها فُرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، ثم لا ينكحها أبدا " انتهى .
وهذا الأثر عن عمر رضي الله عنه يفيد أن المطلقة إن تزوجت قبل انقضاء عدتها ، فلها حالتان :
الأولى : أن يتم العقد فقط دون الدخول : فيفرق بينهما ، وتكمل عدة الأول ، ثم للثاني أن يتزوج بها بعد ذلك .
الثانية : أن يتم العقد والدخول : فيفرق بينهما ، وتكمل عدة الأول ، ثم تعتد من الثاني ، وتحرم عليه تحريما مؤبدا ، فلا يجوز أن ينكحها بعد ذلك ، وهذا مذهب المالكية وقول عند الحنابلة .
وأما الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن الثاني له أن يتزوجها بعد انقضاء العدة .
إلا أن الحنابلة يقولون : لا يتزوجها إلا بعد انقضاء " العدتين " ، عدة الأول ، وعدة الثاني . قال في مطالب أولي النهى : "وللثاني الذي تزوجته في عدتها ووطئها أن ينكحها بعد انقضاء العدتين ، لأنه قبل انقضاء عدة الأول يكون ناكحا في عدة غيره ، وأما انقضاء عدته فلأنها عدة لم تثبت لحقه ؛ لأن نكاحه لا أثر له ، وإنما هي لحق الولد فلم يجز له النكاح فيها كعدة غيره " انتهى .
ولعل الراجح هو أنها إذا أتممت عدة الأول ، جاز أن يعقد عليك الثاني ، ولا تحتاج إلى عدة منه .
وقد سئل سماحة العلامة ابن باز رحمه الله عن حكم زواج المرأة وهي في عدة الطلاق فقال رحمه الله: "لواجب أن لا يتزوجها إلا بعد العدة، فإذا كان تزوجها وهي في عدة الزوج الثاني فالزواج باطل؛ لأن الله يقول: ..وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.. (235) سورة البقرة، يعني حتى تنتهي من العدة، وهذا أمر أجمع عليه أهل العلم، فإذا تزوجت الزوج الثاني زواجاً شرعياً ليس بقصد التحليل بل زواجاً شرعياً ووطأها الزوج الثاني فليس للزوج الأول أن يتزوجها إلا بعد خروجها من العدة بثلاثة حيض إن كانت تحيض أو بثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض. فالحاصل أن الزواج هذا باطل إذا كان في العدة، عليه أن يتجنبها ويصبر حتى تعتد، فإذا اعتدت أعاد النكاح من جديد مع التوبة والاستغفار".
بل عد بعض أهل العلم أن من تزوج معتدة وجامعها فإنهما يعدان زانيان، قال ابن قدامة في المغني: وإذا تزوج معتدة، وهما عالمان بالعدة، وتحريم النكاح فيها، ووطئها فهما زانيان عليهما حد الزنا، ولا مهر لهما، ولا يلحقه النسب، وإن كانا جاهلين بالعدة، أو بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد، ووجب المهر، وإن علم هو دونها، فعليه الحد والمهر، ولا نسب له، وإن علمت هي دونه فعليها الحد، ولا مهر لها، والنسب لاحق به، وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه، فأشبه نكاح ذوات محارمه. انتهى. [المغني لابن قدامة 8/ 127]
أما لحوق النسب : إن أتت بولد من أحدهما عينا انقضت عدتها بوضعه ممن لحق به الولد ثم اعتدت للآخر بثلاثة أقراء .
ويكون الولد للأول عينا إذا ولدته لدون ستة أشهر وعاش من وطء الثاني ويكون للثاني عينا إذا ولدته لفوق ستة أشهر من وطئه ولفوق أربع سنين من إبانة الأول لها .
وإن أمكن أن يكون الولد منهما بأن أتت به لفوق ستة أشهر من وطء الثاني ولدون أربع سنين من بينونة الأول عرض الولد على القافة مع الواطئين فألحق الولد بمن ألحقوه به منهما وانقضت عدتها به لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره .
وإن ألحقته القافة بهما أي الواطئين لحق بهما وانقضت عدتها به منهما لأن الولد محكوم به لهما فتكون قد وضعت حملها منهما وإن نفته القافه عنهما أي الواطئين أو أشكل عليها أو لم يوجد قافه ونحوه كما لو اختلف قائفان ، اعتدت بعد وضعه بثلاثة قروء؛ لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الغرض بيقين .
وعلم مما سبق أنها إذا ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول لم يلحق بواحد منهما ولا تنقضي عدتها به منه لأننا نعلم أنه منوطء آخر وكل هذا عند الجهل بالعدة أو بتحريم النكاح فيها
أما إذا تزوجت معتدة من غير صاحب العدة والعاقد والمعقود عليها عالمان بالعدة عالمان بتحريم النكاح في العدة ووطئها في العدة فهما زانيان عليهما حد الزنا ولا مهر لها لأنها زانية مطاوعة ولا نظر لشبه العقد ، لأنه باطل مجمع على بطلانه لا أثر له ولا يلحقه النسب لأنه من زنا وإن كان الناكح والمنكوحة جاهلين بالعدة أو جاهلين بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد ووجب المهر لأنه وطء شبهة وإن علم هو دونها فعليه الحد للزنا وعليه المهر وإن علمت هي دونه فعليها الحد ولا مهر لها ويلحقه النسب لأنه وطء شبهة .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
--------------------
مراجع المسألة:
المنتقى للباجي (3/ 317) ، مطالب أولي النهى (5/ 97، 577) ، أحكام القرآن للجصاص (1/ 580) ، المغني لابن قدامة 8/ 127، فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 248) ، الشرح الممتع (13/ 387) . "الموسوعة الفقهية" (29/ 346)