وأما أقل الاعتكاف ففيه أربعة أوجه(*): (أحدها) وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يشترط لبث في المسجد، وأنه يجوز الكثير منه والقليل حتى ساعة أو لحظة. قال إمام الحرمين وغيره: وعلى هذا لا يكفي ما في الطمأنينة في الركوع والسجود ونحوهما بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا وإقامة. ( والوجه الثاني ) حكاه إمام الحرمين وآخرون أنه يكفي مجرد الحضور والمرور من غير لبث أصلا، كما يكفي مجرد الحضور والمرور بعرفات في الوقوف. وبه قطع البندنيجي. قال إمام الحرمين: وعلى هذا الوجه يحصل الاعتكاف بالمرور حتى ولو دخل من باب وخرج من باب ونوى فقد حصل الاعتكاف، وعلى هذا لو نذر اعتكافا مطلقا خرج عن نذره بمجرد المرور. (والوجه الثالث ) حكاه الصيدلاني وإمام الحرمين وآخرون أنه لا يصح إلا يوم أو ما يدنو من يوم. (والرابع) حكاه المتولي وغيره أنه يشترط أكثر من نصف النهار أو نصف الليل، لأن مقتضى العادة أن تخالف العبادة وعادة الناس القعود في المساجد الساعة والساعات لانتظار الصلاة، أو سماع الخطبة أو العلم أو لغير ذلك. ولا يسمى ذلك اعتكافا فشرط زيادة عليه لتتميز العبادة عن العادة. المجموع شرح المهذب (6/513). فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه: اعتكاف، وعكوف؟ فإذ لا شك في هذا، فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قل من الأزمان أو كثر، إذ لم يخص القرآن والسنة عددا من عدد، ولا وقتا من وقت، ومدعي ذلك مخطئ ; لأنه قائل بلا برهان والاعتكاف: فعل حسن، قد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه رضي الله عنهم بعده والتابعون؟ وممن قال بمثل هذا طائفة من السلف -: كما أنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصيري نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن عمران بن أبي مسلم عن سويد بن غفلة قال: من جلس في المسجد وهو طاهر فهو عاكف فيه، ما لم يحدث -: ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن يعلى بن أمية قال: إني لأمكث في المسجد ساعة وما أمكث إلا لأعتكف. قال عطاء: حسبت أن صفوان بن يعلى أخبرنيه؟ قال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف، وإلا فلا؟ قال أبو محمد: يعلى صاحب، وسويد من كبار التابعين، أفتى أيام عمر بن الخطاب، لا يعرف ليعلى في هذا مخالف من الصحابة فإن قيل: قد جاء عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر: لا اعتكاف إلا بصوم، وهذا خلاف لقول يعلى؟ قلنا: ليس كما تقول، لأنه لم يأت قط عمن ذكرت: لا اعتكاف أقل من يوم كامل، إنما جاء عنهم: أن الصوم واجب في حال الاعتكاف فقط، ولا يمتنع أن يعتكف المرء على هذا ساعة في يوم هو فيه صائم. وهو قول محمد بن الحسن، فبطل ما أوهمتم به وقوله تعالى: ? وأنتم عاكفون في المساجد ? فلم يخص تعالى مدة من مدة ? وما كان ربك نسيا ?. ومن طريق مسلم: نا زهير بن حرب نا يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله هو ابن عمر - قال أخبرني نافع عن ابن عمر قال: (( قال عمر: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك )). فهذا عموم منه عليه السلام بالأمر بالوفاء بالنذر في الاعتكاف، ولم يخص عليه السلام مدة من مدة، فبطل قول خالف قولنا - والحمد لله رب العالمين؟ وقلنا: هذا هو قول الشافعي، وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاعتكاف أقل من يوم وقال مالك: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة. ثم رجع وقال: لا اعتكاف أقل من عشر ليال. وله قول: لا اعتكاف أقل من سبع ليال، من الجمعة إلى الجمعة. وكل هذا قول بلا دليل. فإن قيل: لم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من عشر ليال؟ قلنا: نعم، ولم يمنع من أقل من ذلك، وكذلك أيضا لم يعتكف قط في غير مسجد المدينة، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير مسجده عليه السلام، ولا اعتكف قط إلا في رمضان، وشوال، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير هذين الشهرين؟ والاعتكاف في فعل خير، فلا يجوز المنع منه إلا بنص وارد بالمنع - وبالله تعالى التوفيق. فإن قالوا: قسنا على مسجده عليه السلام سائر المساجد؟ قيل لهم: فقيسوا على اعتكافه عشرا، أو عشرين: ما دون العشر. وما فوق العشرين، إذ ليس منها ساعة ولا يوم إلا وهو فيه معتكف. المحلى (3/642) وقد اختلف الفقهاء في مدة الاعتكاف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي: " له أن يعتكف يوما وما شاء " وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في من دخل في الاعتكاف من غير إيجاب، بالقول في إحدى الروايتين: " هو معتكف ما دام في المسجد وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه فيه " والرواية الأخرى، وهي في غير الأصول " أن عليه أن يتمه يوما ". وروى ابن وهب عن مالك قال: " ما سمعت أن أحدا اعتكف دون عشر، ومن صنع ذلك لم أر عليه شيئا " وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يقول: " الاعتكاف يوم وليلة " ثم رجع وقال: " لا اعتكاف أقل من عشرة أيام " وقال عبيد الله بن الحسن: " لا أستحب أن يعتكف أقل من عشرة أيام " قال أبو بكر: تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان، فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة. فإن قيل: تحديد العشرة لما روي: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ))، وروي أنه (( اعتكف العشر الأواخر من شوال في بعض السنين ))، ولم يرو أنه اعتكف أقل من ذلك، قيل له: لم يختلف الفقهاء أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف ليس على الوجوب وأنه غير موجب على أحد اعتكافا، فإذا لم يكن فعله للاعتكاف على الوجوب فتحديد العشرة أولى أن لا يثبت بفعله، ومع ذلك فإنه لم ينف عن غيره، فنحن نقول: إن اعتكاف العشرة جائز ونفي ما دونها يحتاج إلى دليل، وقد أطلق الله تعالى ذكر الاعتكاف فقال: ? ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ? ولم يحده بوقت ولم يقدره بمدة، فهو على إطلاقه وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، والله أعلم. المحلى (3/642). (*) موقع الشيخ خالد المصلح