حكم بيع المصحف لمسلم
26 ربيع الثاني 1436
د.عبدالله آل سيف

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فالمستحب في المصحف أن يتم تبادله مجانًا، تعظيمًا لكلام الله ونشرًا للعلم، لكن إن رغب مالكه في بيعه لمسلم فهل يجوز ذلك أو يجب بذله مجانًا؟ محل خلاف بين العلماء.
اختيار ابن تيمية:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- جواز بيعه مع الكراهة، خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة [1].

تحرير محل النزاع:
أ- استحباب بذل المصحف مجانًا محل اتفاق من العلماء المختلفين في أصل المسألة، كما يفهم من استقراء كلامهم، وليس هذا محل البحث.
ب- ومحل البحث في لزوم بذله مجانًا وهل يجوز بيعه أو لا؟

أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول:
لا يجوز بيعه، وهذا مشهور مذهب الحنابلة[2] ونسب لابن القيم[3] وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين كما سيأتي في الاستدلال.

القول الثاني:
يجوز مطلقًا للمسلم بلا كراهة.

وهذا مذهب الحنفية [4]، والمالكية [5]، والظاهرية [6]، وهو قول ثانٍ عند الشافعية خلاف المشهور [7]. وهو قول بعض التابعين [8].

القول الثالث:
يجوز مع الكراهة.

وهذا مذهب الشافعية [9]، ورواية عند الحنابلة [10]، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

أدلة القول الأول:
وهم القائلون بالمنع من بيعه:
1- استدلوا من الأثر بما ورد عن ابن عمر أنه قال: "لوددت أن الأيدي قطعت في بيع المصاحف" أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي [11]، والشاهد أن القطع لا يكون إلا على فعل محرم، وهذا قول صحابي ولم يعرف له مخالف.

ونوقِش: أنه قول صحابي، فلا يعارض به ظاهر القرآن.

وأُجيب: أنه قد وافقه عليه غير واحد من الصحابة،ويشهد لهم نص آخر[12].

2- أن تعظيم المصحف واجب، وفي بيعه إهانة وابتذال فيحرم [13].

ونوقش:
لا يسلّم أنه ابتذال له، وإنما يصح ذلك إذا قصد بيع العلم، أو تمحض قصد التجارة فيه.

أدلة القول الثاني:
وهم القائلون بالجواز بلا كراهة:
1- عموم أدلة إباحة البيع كقوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [14].

وهذا لفظ عام ولا يخرج عن عمومه إلا بدليل مخصص [15].

2- قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [16].

ولو كان محرمًا لبينه الله عز وجل نظرًا لعموم البلوى بذلك، فالناس لا يستغنون عن تملك المصحف [17].

3- واستدلوا من الأثر أن ابن مصبح كان يكتب المصاحف في زمان عثمان ويبيعها ولم ينكر عليه ذلك [18].

ونوقش:
أ- أنه أثر موضوع كما قال ابن حزم [19].

ب- أنه ليس في الأثر أن عثمان علم بذلك ولا أحد من الصحابة [20].

4- ما روي أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ومروان بن الحكم سئلا عن بيع المصاحف للتجارة فيها فقالا: لا نرى أن نجعله متجرًا، ولكن ما عملت بيديك فلا بأس به.أخرجه البيهقي [21].

ونوقش:
أ- أن في سنده رجلين ضعيفين فلا يحتج به، وبهذا ضعفه ابن حزم [22].

ب- ولو صح فهو معارض بما ورد عن الصحابة من المنع من بيع المصاحف.

5- أن الذي يباع إنما هو الجلد والمداد والقرطاس والحلي - إن كانت محلاة - وهذا جائز، كما لو بيعت مفردة، أما العلم فلا يباع [23].

6- أن المصحف طاهر منتفع به، فجاز بيعه كسائر الأموال [24].

أدلة القول الثالث:
وهم القائلون بالجواز مع الكراهة:
1- ما ورد عن ابن عمر أنه كان يمر بأصحاب المصاحف فيقول: بئس التجارة" أخرجه عبدالرزاق البيهقي [25].

2- ما ورد عن عبدالله بن شقيق الأنصاري قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون بيع المصاحف" أخرجه البيهقي [26] وصححه النووي [27].

3- ما ورد عن ابن مسعود "أنه كره شراء المصاحف وبيعها" أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي [28]، وصححه النووي [29].

والكراهة في هذه الآثار تنزيهية؛ لأن مقصودهم تعظيم المصحف عن الابتذال.

ونوقش:
أ- أنها أقول صحابة عورض بها ظاهر القرآن، فلا يحتج بها.

ب- يمكن حمل الكراهة على معنى صحيح، وهو ما إذا جعل ذلك مهنته لا يبيع غيرها، أو قصد بيع العلم.

الترجيح:
والراجح - والله أعلم - هو القول الثالث:
1- لقوة أدلته وظهورها.

2- موافقته لظاهر القرآن.

3- جمعه بين الأدلة وتوليفه بينها.

4- تحقيقه لمقصد تعظيم القرآن واحترامه.

5- زيادة الحاجة لطباعة القرآن في هذا العصر لكثرة الناس وانتشارهم مع كثرة تكاليف الطباعة وارتفاعها [30]. والله أعلم.

-----------
[1] انظر: قاعدة في الاستحسان: (107)، مجموع الفتاوى: (31/212)، النكت السنية: (1/287).
[2] انظر: المحرر: (1/285، 287)، المغني: (6/367)، الكافي:(2/7)، الفروع: (4/14)، الإنصاف: (4/278)،كشاف القناع:(3/155)،دقائق أولي النهى: (2/143)،مطالب أولي النهى(3/17)،المسائل التي اختلف فيها الإقناع المنتهى (123).
[3] انظر: رحمة الأمة: (31 )، الصواعق المرسلة: (2/441). عن التقريب لعلوم ابن القيم: (235).
[4] انظر: المبسوط: (13/133)، بدائع الصنائع: (5/135)، تبيين الحقائق: (3/182)، شرح فتح القدير: (5/270)، البحر الرائق: (6/188)، حاشية ابن عابدين: (4/378)، (5/241).
[5] انظر: المدونة: (3/429)، المنتقى: (5/85)، التاج والإكليل: (6/49)، (7/546)، مواهب الجليل: (4/253)، (5/423)، شرح الخرشي: (5/10)، (7/21)، حاشية الدسوقي: (3/7)، (4/20)، منح الجليل: (7/495).
[6] انظر: المحلى: (7/544، م 1558).
[7] انظر: المجموع: (9/302)، رحمة الأمة: (131).
[8] انظر: مصنف ابن أبي شيبة: (6/46).
[9] انظر: أسنى المطالب: (2/41)، حاشية قليوبي وعميرة: (2/186، 197)، تحفة المحتاج: (4/231، 323)، نهاية المحتاج: (3/389)، حاشية الجمل: (3/21)، تحفة الحبيب: (3/14)، التجريد لنفع العبيد: (2/176).
[10] انظر: الفروع: (4/14)، الإنصاف: (4/278).
[11] مصنف ابن أبي شيبة: (6/61)، كتاب البيوع والأقضية، باب من كره شراء المصاحف، سنن البيهقي: (6/16)، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف، وسنده ظاهره الصحة، انظر: المحلى: (7/544-548).
[12] انظر: المصاحف لابن أبي داود: (175).
[13] انظر: المغني: (6/368)، كشاف القناع: (3/155)، بيع الأعيان المحرمة: (131).
[14] سورة البقرة، من الآية: (275).
[15] انظر: الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن الكريم (2/1230)، بيع الأعيان المحرمة: (132)، فقه القرآن وخصائصه: ( 372).
[16] سورة الأنعام، من الآية: (119).
[17] انظر: المحلى: (7/548).
[18] انظر: المحلى: (7/547)، وابن مصبح: ذكر ابن حزم أنه مجهول لا يدري من هو.
[19] المصدر السابق: (7/547).
[20] انظر: الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن الكريم: ( 2/123).
[21] سنن البيهقي: (6/16)، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف.
[22] انظر: المحلى: (7/547)، موسوعة الإجماع لسعدي: (2/815)..
[23] انظر: المحلى: (7/544-548).
[24] انظر: المجموع: (9/301 - 302).
[25] مصنف عبدالرزاق: (8/114)، برقم (14529)، سنن البيهقي: (6/16)، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف، وسنده صحيح.
[26] سنن البيهقي: (6/16).
[27] المجموع: (9/303).
[28] مصنف ابن أبي شيبة: (6/62)، سنن البيهقي: (6/16).
[29] انظر: المجموع: (9/302).
[30] انظر: بيع الأعيان المحرمة: (132).