مراد الفقهاء بقولهم: (النفقة في مقابل الاستمتاع)
13 جمادى الأول 1436
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام قد شرّف المرأة ورفع شأنها، وأنزلها المنزلها الرفيعة التي تليق بها، ولا أدلَّ على ذلك ما أوجبه سبحانه من حقوق لها على زوجها، فإن للزوجة على زوجها حقوقاً يلزمه القيام بها، وهذه الحقوق بعضها حقوق مالية مثل المهر والنفقة، وحقوق غير مالية كالعدل والإحسان في المعاملة، فالنفقة واجبة للزوجة على زوجها باعتبار ذلك حكماً من أحكام عقد الزواج الصحيح ، وحقاً من حقوقه الثابتة للزوجة على زوجها بمقتضى ذلك العقد، ولذلك تجب على الزوج ولو كانت الزوجة غنية، والمراد بنفقة الزوجة: ما تحتاج إليه لمعيشتها من الطعام والكسوة والسكن والخدمة، وكل ما يلزم من فرش وغطاء وأدوات منزلية بحسب المتعارف بين الناس(1).
فإنه لما كانت المرأة حبيسة عند زوجها ، وله القوامة عليه، لا تخرج إلا بإذنه، كان من المناسب أن يُلزم الزوج بالنفقة عليها والكسوة لها.
ووجوب النفقة على الزوجة دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {لينفق ذو سعةٍ من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها}(2)، وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}(3)، وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}(4) .
ففي هذه الآيات كلها أمر منه سبحانه للأزواج بأن يسكنوا المطلقات في أثناء العدة على قدر طاقتهم، والآية في معرض النفقة على المطلقة، فإذا كانت الزوجة المطلقة تجب النفقة لها فغيرها من الزوجات من أولى.
وأما السنة: فقد دلت أحاديث كثيرة على وجوب النفقة منها حديث عائشة رضي الله عنها أن هند رضي الله عنها أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي • فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(5).
قال ابن قدامة: (وفيه دلالة على وجوب النفقة على زوجها، وأن ذلك مقدر بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم، وأن ذلك بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه"(6).
ومنها ما روي عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(7).
وأما الإجماع : فقد نقله غير واحد من أهل أهل الإجماع على وجوب نفقة الرجل على من تلزمه نفقته كالزوجة، والولد الصغير والأب، وذلك من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وأنه إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته بدون حق شرعي كان ظالماً، ويفرض القاضي نفقتها عليه إذا طلبت ذلك؛ لأن المرأة محبوسة على الزواج بمنعها من التصرف والاكتساب، فلابد من أن ينفق عليها(8).
ومما يدل على وجوب النفقة من المعقول ما تقرر من القواعد الشرعية أن من حبس لحق غيره فنفقته واجبة على ذلك الغير، فالمفتي والوالي والقاضي، وغيرهم من العاملين في الدولة لمنفعة المجتمع تجب نفقاتهم في بيت المال بقدر كفايتهم، وإن المرأة محبوسة على الزوج للقيام على البيت، ورعاية شئونه، وفرغت نفسها لمنفعة زوجها، ومنعها من التصرف والاكتساب، فتكون نفقتها واجبة عليه(9).
وقد ذكر بعض أهل العلم أن عقد الزوجية عقد على منافع، والنفقة في مقابل استدامة تلك المنافع؛ وهي أيضا جزاء الاحتباس، حيث تكون المرأة رهن بيت زوجها، لخدمة الزوج وأولاده، والقيام بحقوقه(10).
فإذا تم عقد النكاح الصحيح وحصل تمكين الزوج من زوجته فإن النفقة تجب عليه، أما إذا لم يمكن الزوج من زوجته فإنه لا نفقة لها عليه؛ كما قال سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}(11).
فعقد النكاح الصحيح ليس سبباً لوجوب النفقة ، وإنما هو بسبب ما يترتب على ذلك العقد من حق الزوج في احتباس زوجته عليه ، ودخولها في طاعته ، ليتمكن من جني ثمرات زواجه ، واستيفاء حقوق الزوجية • فإذا كان عقد الزواج صحيحاً، وترتب عليه احتباس الزوجة على زوجها ، بحيث يؤدي هذا الاحتباس إلى استيفاء المقصود من الزواج ، وذلك بتسليم المرأة نفسها حقيقة أو حكماً، بأن تكون مستعدة للدخول في طاعة الزوج ، وغير ممتنعة من الانتقال إليه، ومن دخوله بها ، وجبت لها النفقة على الزوج(12).
وما سبق هو مراد الفقهاء من قولهم: (النفقة مقابل الاستمتاع) فإنه إذا مكّن أهل الزوجة الزوج من الدخول على زوجته تجب النفقة حينئذ، يؤيد هذا ما ورد في كتب الفقهاء رحمهم الله من النص على وقوف هذا الحق على التمكين(13).
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمعوا على أن الرجل إذا تزوج المرأة فلم يدخل بها فإن كان الحبس من قبلها فلا ينفق عليها ، وإن كان من قبله فعليه النفقة"(14). والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
---------
( ) ينظر: سبل السلام : (3/314)
(2) سورة الطلاق من الآية 7 •
(3) سورة البقرة من الآية 233 •
(4) سورة الطلاق من الآية 6 •
(5) أخرجه البخاري، في كتاب النفقات، بَابُ إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ، (7/65)، رقم (5364).
(6) المغني لابن قدامة ( 8/ 195).
(7) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج، بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2/886)، (1218).
(8) المغني : 11/843
(9) ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته، الزحيلي، ( 7/787 ).
(10) الهداية (2/39)
(1 ) الآية رقم (2284)، من سورة البقرة.
(12)ينظر: الأحوال الفقه المقارن للأحوال الشخصية ، بدران أبو العينين ص432
(13) يتظر: بدائع الصنائع (2/332)، المعونة (2/782)، المهذب (3/554)، مختص الخرقي، ص (103).
(14) الإجماع ، ابن المنذر، ص (97).