الوضوء والتيمم من وبأجزاء الناقلات والعربات والآليات العسكرية
16 رجب 1436
د. عائض بن مقبول القرني

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فالعربات والمدرعات من الأمور الملازمة للعسكريين في ميدان القتال وتناط بها الأحكام النازلة المناسبة لها، وقد يضطر العسكري إلى نفاذ ما معه من ماء للوضوء حتى لا يجد إلا الماء الموجود في بعض أجزائها، وكذلك قد يصل به الحال إلى عدم المقدرة على النزول منها إلى الأرض، فكيف الحكم والحالة تلك، هل يتوضأ بالمياه الخاصة بهذه الآليات مع كونها آجنة لطول مدتها، أم أن استعمالها غير جائز، وهل يجوز له الضرب بيديه على الآلية العسكرية للتيمم أم أنه يسقط عنه.
هذا ما سنقف عليه في المبحثين التاليين:
المبحث الأول:
حكم التطهر بالماء الآجن الموجود في المركبات والناقلات العسكرية عند تعذر وجود ماء غيره:
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول:
هذا الماء باق على إطلاقه، واختاره ابن قدامة في المغني(1) وهو قول أكثر أهل العلم(2)، نقل الإجماع عنهم ابن المنذر حيث قال: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز(3).
القول الثاني:
يكره التوضؤ به وهو قول ابن سيرين رحمه الله(4).
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء(5).
الدليل الثاني:
لأنه تغير من غير مخالطة بشيء نجس فكان طاهراً(6).
سبب الخلاف:
هو تغير هذا الماء بكثرة بقائه في أوعية الناقلة أو الدبابة أو بعض قربها ومحركاتها هل يخرجه عن طهوريته أم لا؟
ثمرة الخلاف:
هل يحق للموجودين التيمم مع وجود هذا الماء أم لا؟
الترجيح ووجه الترجيح:
الراجح والله تعالى أعلم أن الماء إذا كان يستغنى عنه فترة طويلة وليس هناك أي ضرر في استخدامه ولم يتغير بطول مكثه إلى حد النجاسة، فإنه لا يجوز التيمم مع وجوده بل يجب الوضوء به لأن التيمم لا يكون إلا مع عدم وجود الماء وهنا قد وجد الماء واستغني عنه، فيجب الوضوء به.
التطبيقات:
خرجت مجموعة عسكرية بناقلاتهم ومراكبهم ودباباتهم العسكرية لغرض التدرب على بعض الأسلحة ولمدة يومين، وفي اليوم الثاني نفذت جميع المياه إلا مياه الشرب والموقع في الصحراء بما يقارب المائة كيلو، وبعيد من جميع الخدمات ويوجد ماء في علبة المساحات في بعض الناقلات ويمكن الاستغناء عنه ولا يوجد أي خطر، ففي هذه الحال يتعين القول بوجوب استخدام هذه المياه المخزنة وعدم التيمم، ما لم تتغير بنجاسة أو تصل بطول مكثها إلى حد النجاسة.
وإذا لم تكن هذه المياه كافية لجميع أفراد المجموعة فما حكم استعمال البعض لها دون إراقتها ثم وضوء الآخرين بها.
اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:
القول الأول:
هذا الماء المستعمل طاهر غير مطهر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً، وهو قول الليث والأوزاعي(7)، والمشهور عن أبي حنيفة(8)، وإحدى الروايتين عن مالك(9)، وظاهر مذهب الشافعي(10)، والإمام أحمد(11).
القول الثاني:
الماء هذا طاهر مطهر، وبه قال الحسن، وعطاء، والنخعي، والزهري، ومكحول(12)، وأهل الظاهر(13)، والرواية الثانية لمالك(14)، والقول الثاني للشافعي(15)، ورواية أخرى عن أحمد(16)، وهو اختيار ابن قدامة(17).
الدليل الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الماء لا يجنب"(18)، وقال: "الماء ليس عليه جناب"(19).
الدليل الثاني:
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء، فعصر شعره عليها(20).
ووجه الدلالة:
أن الماء المعصور من الشعر يعتبر مستعملاً وجاز التطهر به فدل على عدم نجاسته.
الدليل الثالث:
لأنه غسل به محل طاهر، فلم تزل به طهوريته، كما لو غسل به الثوب(21).
الدليل الرابع:
لأنه لاقى محلاً طاهراً، فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض به، كالثوب يصلى فيه مراراً(22).
الدليل الخامس:
أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه(23).
ووجه الدلالة:
أنهم تسابقوا على وضوئه وكادوا يقتتلون بحضرته عليه السلام ولو كان نجساً لنهاهم عن ذلك.
الدليل السادس:
أنه صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوئه إذ كان مريضاً(24).
ووجه الدلالة:
أن ماء وضوئه لو كان نجساً لم يجز له صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فدل على طهارته(25).
الدليل السابع:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يتوضؤون في الأقداح والأتوار ويغتسلون في الجفان(26).
وجه الدلالة:
أن مثل هذا الوضوء والغسل لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل، فلو كان المستعمل نجساً لنجس الماء الذي يقع فيه.
الدليل الثامن:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها، فقالت امرأة: "إني غمست يدي فيها، وأنا جنب فقال: الماء لا يجنب" وفي رواية: "الماء لا ينجس"(27).
الدليل التاسع:
لأنه ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً، فكان طاهراً، كالذي غسل به الثوب الطاهر، والمحدث طاهر بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: "لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنب، فانخنست منه فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله: كنت جُنباً، فكرهت أن أجالسك، فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: سبحان الله، المسلم لا ينجس"(28).
القول الثالث:
الماء المنفصل عن أعضاء الوضوء نجس لا يصح استعماله، وهو قول أبي يوسف من الحنفية ورواية عن أبي حنيفة(29).
الدليل الأول:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة"(30).
ووجه الدلالة:
حيث اقتضى الحديث أن الغسل من الجنابة في الماء الدائم، كالبول فيه؛ فدلَّ على نجاسته بعد استخدامه في الغسل(31).
وأجيب:
أن النهي يدل على أنه يؤثر في الماء، وهو المنع من التوضؤ به، والاقتران يقتضي التسوية في أصل الحكم، لا في تفصيله، وإنما سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه ينقي الذنوب والآثام، كما ورد في الأخبار(32).
الدليل الثاني:
لأنه يسمى الوضوء بها الماء طهارة والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة، إذ تطهير الطاهر لا يعقل، فيكون الماء المستعمل نجساً لا يجوز الوضوء به(33).
الدليل الثالث:
لأنه أزيل به مانع من الصلاة، فلم يجز استعماله في طهارة أخرى، كالمستعمل في إزالة النجاسة(34).
ويمكن أن يجاب عليه:
بأنه قياس مع الفارق لأن الماء المنفصل لم يلاق نجاسة بل مروره كان على أعضاء المتوضئ أو المغتسل فقط، ولو لاقى نجاسة وغيرته لقلنا بنجاسته(35).
الترجيح ووجه الترجيح:
بعد استعراض ما سبق من الأقوال يتضح لنا رجحان القول الثاني القائل بأنه طاهر مطهر يصح استعماله، وذلك لقوة أدلتهم، في مقابل ضعف الأدلة الأخرى والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني:
إذا ضاقت السبل ولم يستطع العسكري الوضوء من هذه المياه ولا النزول على الأرض للتيمم فهل يتيمم بالغبار العالق بعربته أو مدرعته العسكرية أم ماذا يفعل؟
قبل أن أبين الحكم أود أن أقف على تعريف للتيمم وبيان المراد منه في الشرع فأقول:
التيمم لغة:
القصد والتوخي والتعمد، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267].
وفي الاصطلاح: مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص(36).
وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع في آيات وأحاديث كثيرة ليس هذا مقام ذكرها. واتفق الفقهاء على أن من أركان التيمم مسح الوجه واليدين؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43]، والكفين من اليدين وليست كل اليدين لحديث عمار بن ياسر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين(37).
ويجب إزالة ما قد يمنع وصول التراب إلى العضو باتفاق الفقهاء على إزالة الحائل كنزع خاتم ونحوه، ولا يشترط إيصال التراب إلى منابت الشعر الخفيف لما في ذلك من العسر والمشقة بخلاف الوضوء.
وأما تيمم العسكري بالتراب العالق بعربته أو مدرعته العسكرية فقد ذهب الفقهاء إلى أن من تيمم من غبار تراب على صخرة أو مخدة أو ثوب أو حصير أو جدار أو أداة فإنه جائز، فقالوا(38): لو ضرب بيده على حنطة أو شعير فيه غبار، أو على لبد أو ثوب أو جوالق أو برذعة فعلق بيديه غبار فتيمم به جاز؛ لأنهم يعتبرون التراب حيث هو، فلا فرق بين أن يكون على الأرض أو على غيرها، ومثل هذا لو ضرب بيده على حائط أو على حيوان أو على أي شيء كان فصار على يده غبار، لحديث أبي جهم بن الحارث رضي الله عنه: "أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام"(39).
قال النووي: "وفي هذا الحديث جواز التيمم بالجدار إذا كان عليه غبار"(40).
وبذلك يتضح أن تيمم العسكري بالغبار العالق بآلته العسكرية جائز وأن مقصود التيمم يحصل بذلك.
وبناء على ذلك فإنه إذا لم يكن على العربة أو الآلة العسكرية الأشياء غبار يعلق على اليد فلا يجوز التيمم بها، لانتفاء محل الحكم في هذه الحال، وإذا لم يستطع النزول سواء كان طالباً أو مطلوباً وخاف فوات الوقت، فإنه يصلي بحاله ويسقط عنه التيمم والوضوء من باب أولى، وذلك لعجزه عن ذلك وقد قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والمشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والمحظور المنهي عن فعله يباح عند الضرورة.
________________
(1) المغني 1/25.
(2) المدونة 1/132، ومواهب الجليل 1/76، والأم 1/18، وبدائع الصنائع 1/15.
(3) الإجماع لابن المنذر.
(4) انظر المغني 1/26.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.
(7) انظر: المغني 1/29.
(8) انظر: شرح معاني الآثار 1/25، وبدائع الصنائع 1/18.
(9) انظر المدونة 1/115.
(10) انظر: المجموع شرح المهذب 1/211.
(11) المغني 1/29.
(12) المرجع السابق.
(13) المحلى 1/205.
(14) انظر المدونة 1/115.
(15) انظر المجموع 1/211.
(16) المغني 1/29.
(17) المغني 1/29.
(18) سنن الترمذي: الطهارة (65) سنن ابن ماجه: الطهارة وسننها (370).
(19) صحيح مسلم: الحيض (323) سنن الترمذي: الطهارة (65) سنن النسائي: المياه (325) سنن أبي داود: الطهارة (68) سنن ابن ماجه: الطهارة وسننها (370) مسند أحمد: 1/235، سنن الدارمي: الطهارة (734).
(20) سنن ابن ماجه: الطهارة وسننها (663) مسند أحمد: 1/243.
(21) انظر المجموع 1/211، والمغني 1/30.
(22) المغني 1/30، والكافي 1/5.
(23) صحيح البخاري: الشروط 2734.
(24) رواه البخاري في صحيحه.
(25) انظر أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/82.
(26) انظر طرح التثريب للعراقي 2/89، المغني 1/30.
(27) سنن الترمذي: الطهارة (65) سنن أبي داود: الطهارة (68) سنن ابن ماجه: الطهارة وسننها (370) سنن الدارمي: الطهارة (734).
(28) صحيح البخاري: الغسل (283) صحيح مسلم: الحيض (371) سنن الترمذي: الطهارة (121) سنن النسائي: الطهارة (269) سنن أبي داود: الطهارة (231) سنن ابن ماجه: الطهارة وسننها (534) مسند أحمد: 2/471.
(29) انظر العناية شرح الهداية 1/89، وبدائع الصنائع 1/18.
(30) سنن الترمذي: الطهارة (68) سنن النسائي: الطهارة (57) مسند أحمد: 2/529.
(31) انظر العناية شرح الهداية 1/89.
(32) المغني 1/30.
(33) انظر العناية شرح الهداية 1/87.
(34) المرجع السابق.
(35) المغني 1/31.
(36) انظر لسان العرب 12/27، وكشاف القناع 1/149.
(37) أخرجه البخاري في صحيحه (347).
(38) انظر المبسروط للسرخسي 1/109، والمجموع للنووي 2/253، والأم 1/50، والمغني 1/326.
(39) صحيح البخاري باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء (337)، ومسلم باب التيمم (369).
(40) شرح النووي على صحيح مسلم 4/304.