كثيرة هي الأفكار والفلسفات الوضعية ذات المنشأ الغربي أو الشيوعي التي ظهرت وانتشرت بدعوى حفظ المال وتنميته والمحافظة عليه، كالرأسمالية الغربية التي يبدو أنها تترنح اليوم بعد ثبوت فشلها الذريع في حفظ النظام المالي والاقتصادي العالمي من الانهيار، بعد أكثر من أزمة اقتصادية عالمية خانقة خلال السنوات الأخيرة، وكالاشتراكية التي أكل الدهر على فشلها وانهيارها وزوالها وشرب، وما زالت الأيام تؤكد أنها لا تصلح كنظام مالي واقتصادي بعد تجربة مريرة في كثير من الدول العربية والإسلامية.
ومع أن الإسلام قد وضع منذ أكثر من 1400 عام نظاما ماليا واقتصاديا محكما وصالحا لكل زمان ومكان، من خلال بيان حقيقة المال وكيفية التعامل معه، بالإضافة للنظرة الإسلامية المتوازنة إليه التي تعتبر وسطا بين الإفراط والتفريط، ناهيك عن التشريعات الكثيرة الكفيلة بحفظه من التلف والضياع، ومعاقبة كل من تمتد يده إلى مال غيره دون وجه حق، الأمر الذي يحقق الاستفادة المتوخاة من هذه الوسيلة التي تعتبر عصب الحياة كما يقال..... إلا أن أعداء هذا الدين الحنيف قد منعوا المنهج الاقتصادي الإسلامي من التطبيق على أرض الواقع، وحرموا ملايين الناس من الاستفادة من هذا المنهج الإلهي المحكم، لتعيث مذاهبهم الباطلة - الرأسمالية والشيوعية وغيرها من الفلسفات المالية - فسادا في الأرض، والتي ما زالت البشرية تحصد ثمارها المرة وآثارها الكارثية حتى الآن.
لقد فشلت المذاهب الفكرية القديمة والمعاصرة في وضع تشريع يحفظ المال وينميه بصورة متوازنة، وأيقن أعداء الإسلام أن النظام المالي الإسلامي هو طوق النجاة للبشرية، وأن التشريعات الإسلامية فيما يخص المال هي التشريعات المثلى لحفظه كما ينبغي، ومن هنا تنبع ضرورة إلقاء الضوء على موضوع: حفظ المال في المفهوم الإسلامي، والتشريعات التي وضعها لضبط وحماية هذه المسألة الخطيرة.
أهمية المال في الإسلام:
ورد لفظ المال في القرآن الكريم 86 مرة، مفردا وجمعا، معرفا ونكرة، وفي ذلك بلا شك دليل على الاهتمام القرآني الشديد بالمال، والنظرة الإسلامية الخاصة إلى ما يعتبر اليوم عصب الحياة.
لقد أولى الإسلام المال اهتماما واضحا لا يخفى على عاقل، فاعتبره القرآن قوام الحياة الدنيا، قال تعالى: { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا.... } النساء/5، قال ابن كثير: "قياما" أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها. (1)
ولم يقتصر اهتمام الإسلام بالمال باعتباره عصب الحياة وقوامها فحسب، بل جعل المال ركنا من أركان الإسلام من خلال فريضة الزكاة، ناهيك عن دخول المال في كثير من فرائض الإسلام وعباداتها، فالحج يتوقف أمر فرضيته على شرط وجود الاستطاعة المالية، والجهاد في سبيل الله يحتاج في إقامته إلى المال لتأمين العدة والعتاد، وهكذا كثير من الفرائض والواجبات تفتقر إلى وجود المال لإقامتها وأدائها حق الأداء، الأمر الذي يؤكد أهمية المال ومحوريته في الإسلام.
ومن هنا يمكن فهم الكثير من الأحاديث التي تتحدث عن أهمية المال في حياة المسلم، ومنها حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) (2)
بل إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قرن بين فضيلة إنفاق المال في الحق والخير ومنفعة عباد الله في الأرض، وبين نعمة نشر العلم والحكمة والقضاء بها فقال صلى الله عليه وسلم: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (3)
تشريعات الإسلام لحفظ المال:
لم يتوقف اهتمام الإسلام بقضية المال عند اعتباره مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بها، بل وضع من التشريعات ما يضبط وسائل إيجاد المال وتحصيله من الانحراف، وما يحفظ بقاء المال واستمراره من التعدي أو الضياع.
ويمكن صياغة التشريعات التي وضعها الإسلام لحفظ المال – وغيره من الضروريات الخمس - بصياغة علماء المقاصد: حفظ من جانب الوجود، وحفظ من جانب العدم، وفي ذلك يقول الشاطبي: " والحفظ لها – أي الضروريات الخمس – يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" (4)
تشريعات حفظ المال وجودا وتحصيلا:
1- الحث على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش: قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } الملك/15، قال ابن كثير: " أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم " (5)
كما أن الإسلام رفع من مكانة العمل وعظّم من شأنه، وجعله المصدر الأساس لكسب المال وتحصيله، ففي الحديث عن المقدام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) (6)
ومن عظمة هذا الدين أن جعل للنية الصالحة في كسب المال - إن كان ضمن الطرق المباحة – دورا كبيرا في تحويل الأعمال المباحة إلى عبادة من العبادات يثاب عليها المسلم، ففي الحديث عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) (7)
2- إباحة المعاملات التي يحتاج إليها الناس لمعاشهم دون أن يكون فيها ظلم أو اعتداء على حقوق الآخرين، وقد شرع الإسلام وأباح أنواعا كثيرة من العقود: كالبيع والإجارة والرهن والشركة والمساقاة والمزارعة و...... غيرها.
ومن عظمة الإسلام ومرونته في باب المعاملات أن فتح المجال أمام ما تكشف عنه التجارب الاجتماعية من عقود شريطة أن لا تنطوي على الظلم أو الإجحاف بطرف من الأطراف، أو يكون فيها نوع من أكل أموال الناس بالباطل، ومن هنا يمكن فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم فيما أحل) (8)
3- الحث على تحري المال الحلال المشروع في الكسب واجتناب الحرام: وفي ذلك يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } البقرة/172
وفي الحديث عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ). (9)
قال النووي: " فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه". (10)
ولا شك أن تحري الحلال المشروع في كسب المال خير وسيلة لحفظ مال الآخرين من الاعتداء، حيث إن الرقيب في الامتناع عن مال الغير في الإسلام رقيب داخلي دائم وحاضر في كل وقت، نظرا لارتباط الكسب الحلال باستجابة الدعاء، وارتباط الكسب غير المشروع بالحرمان ن إجابة الدعاء.
تشريعات لمنع الإخلال بحفظ المال:
1- تحريم إضاعة المال: من خلال تحريم الإسراف والتبذير، قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف/31، وقال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } الإسراء/26.
وفي الحديث عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) (11)
قال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره....." (12)
2- منع المال عن السفهاء لحفظها من التلف: قال تعالى: { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } النساء/5.
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم" (13)
3- تحريم السرقة وإيجاد الحد على السارق: قال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } المائدة/38، ولا شك أن في تحريم السرقة في الشريعة الإسلامية واعتبارها من الكبائر، بل وإيجاب حد قطع يد السارق – إن اكتملت شروط إقامة الحد – فيه من الردع ما يكفي لحفظ أموال الناس من الاعتداء.
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق....... فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه" (14)
4- تحريم قطع الطريق وإيجاب الحد عليه: ومن المعلوم أن من أهم أهداف وغايات قطاع الطريق هو الاعتداء على أموال الناس، وقد شرع الإسلام عقوبة شديدة رادعة على هذه الجريمة، لحفظ الأمن والأمان في المجتمع، والذي منه حماية أموال الناس.
قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } المائدة/ 33
وقد ذكر القرطبي حكم قطاع الطريق وآراء العلماء في ذلك فقال: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَامُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ ثُمَّ صُلِبَ، فَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. (15)
ولا شك أن عقوبة بهذه الشدة وذلك الحسم كافية لحفظ أموال الناس من الاعتداء، ناهيك عن حماية المجتمع بأسره من غائلة اختلال أمنهم.
5- تحريم أكل أموال الناس بالباطل: قال الله تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة/188.
قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ. (16)
6- تحريم إتلاف أموال الناس وإيجاب الضمان على ذلك: ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) (17)
فإن خالف أحد هذه الآية وأتلف مال غيره بأي وسيلة أو طريقة من الطرق، فقد أوجب الإسلام عليه الضمان حفاظا على حماية أموال الناس، ومن هنا قرر الفقهاء قاعدة فقهية عظيمة في هذا الباب هي: "الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالمتقوم" (18)
وقد شرح ابن قدامة مسألة ضمان المتلف فقال: " فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى {.....فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ....} البقرة/194، ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله، لأن المثل أقرب إليه من القيمة، وإن كان غير متقارب الصفات - وهو ما عدا المكيل والموزون - وجبت القيمة في قول الجماعة". (19)
وختاما لا بد من التأكيد على أن التشريعات الإسلامية لحفظ المال ليس لها مثيل في التشريعات الوضعية القديمة والمعاصرة، وإن قال قائل بأن جميع التشريعات الوضعية الحالية تجرم السرقة وتعاقب عليها مثلا، كما تجرم وتعاقب قطع الطريق وأخذ أموال الآخرين بغير حق.......فالجواب أن الامتناع عن السرقة وغيرها في الشريعة الإسلامية ذاتي ديني، بينما الدافع الغربي خارجي وضعي، كما أن العقوبة في الإسلام رادعة حاسمة، بينما العقوبة في التشريعات الوضعية بخلاف ذلك.
____________________
(1) تفسير ابن كثير 2/214
(2) صحيح البخاري برقم/1427
(3) صحيح البخاري برقم/1409
(4) الموافقات 2/8
(5) تفسير ابن كثير 4/424
(6) صحيح البخاري برقم/2072
(7) الطبراني في المعجم برقم/15619 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم/1428
(8) صحيح الجامع للألباني برقم/6715
(9) صحيح مسلم برقم/2393
(10) شرح مسلم للنووي 7/100
(11) صحيح البخاري برقم/2408
(12) فتح الباري 10/422
(13) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص164
(14) شرح صحيح مسلم 11/181
(15) الجامع لأحكام القرآن 6/151
(16) تفسير ابن كثير 1/521
(17) صحيح البخاري برقم/2387
(18) الأشباه والنظائر للسيوطي 2/2
(19) المغني 7/361