نعمة الأمن وشؤم الفتن والضلالات
10 شوال 1436
محمد بن عبد الرحمن السعدان

إن من يتأمل التاريخ الغابر والحاضر ببداهة فهم واتزان نظر، ويتعرف على واقع الأمم السالفة والمجتمعات الحاضرة فلن يتطرق إليه شك البتة في وجود حقيقة ثابتة، ومراد لا يتغير ولا يتبدل مهما توالت عليه العصور وعصفت به رياح الأيام التي يداولها الله بين الناس. ألا وهو مطلب الأمن والأمان؛ ففي ظل الأمن تحفظ الحقوق والأعراض، وينتشر العلم والدين، ويتفرغ الناس لعبادة ربهم وخالقهم ورعاية مصالح دنياهم وأخراهم، وتعمر الأرض، فالأمن والأمان مطلبٌ ضروريٌّ من مطالب الإنسان، وهو ثلث العيش، فقد جاء في مشكاة النبوّة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزَت له الدنيا" رواه الترمذي وابن ماجه. فجعلَ أصول حيازة الدنيا ثلاثة أشياء: الأمن في الأوطان والمعافاة في الأبدان والرزق والكفاف، ففَقْدُ الأمن فقدٌ لثُلُث الحياة، والثلثُ كثير؛ لذا كانت دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126]. فانظر كيف قدّم الأمنَ على طلب الرزق؛ لأنه لا يهنأ عيشٌ بلا أمان.

 

ولا يعرف فضل نعمة الأمن إلا من اكتوى بنارِ الخوف والرُّعب، والفوضى والتشريد والغُربة، وشاهِدوا – أيها القراء الكرام – بعين الشُّكر والبصيرة ما تنقله لكم وسائل الإعلام نقلاً حيّاً مباشراً. عالمٌ من حولنا تجتاحه فتن وحروب، ومجاعات وقلاقل، يحيط بالناس الخوف والجوع، واليأس والقلق، سلْبٌ ونهْبٌ، في فوضى عارمة، وغابة موحِشة، فكم من مسلوب دينه، ومنزوع مُلكه، ومهتوك سِتره، ومقصوم ظهره، دماءٌ تُراق، ورقاب إلى الموت تُساق، في أعمالٍ نكراء، وفتن عمياء، كل ذلك بسبب فقدان الأمن وذهاب الأمان.

 

وإن من أعظم المصائب والفتن التي ابتليت بها أمتنا الإسلامية على مر القرون وعبر تاريخها الحافل الطويل وحتى وقتنا الحاضر ولم يسلم منها بلد إسلامي قط وكانت سبباً في ضعف الأمن، والإخلال بالأمان – تلك الفتنة الكبرى – التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة وصحيحة ألا وهي فتنة الخوارج التي هي من أشد الفتن ضراوةً وأكثرها فتكاً بالإسلام والمسلمين، وهم قوم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ويأكلون من خيرات بلادنا، يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم ونساءهم، ويكفرون الناس بالكبائر، ويخرجون على ولاة أمور المسلمين بالسلاح، ويحتقرون العلماء وأهل الفضل، قوم ليس لسيوفهم وأسلحتهم إلا رقاب المسلمين وصدورهم، وليس لمخططاتهم هدف إلا بلاد الإسلام، هم شرُّ الخلق والخليقة، وفتنتهم من أعظم الفتن وأقساها؛ لأنهم يُلبسونها لباس الدين والجهاد وإنكار المنكر، والغيرة على المحارم، فتميل إليهم قلوبُ حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام فيرمونهم في جبهات القتال، ويوردونهم المهالك، ولقد جرُّوا على أمتنا الإسلامية التمزق والفرقة، وخلفوا وراءهم الأحزان والحرقة، وجلبوا لنا المصائب والبلايا، فأفسدوا الدين والدنيا، وخربوا البلاد وروعوا العباد، وخالفوا عقيدة أهل السنة والجماعة، وانتهكوا حرمات المسلمين.

 

ولعل من أشد صفاتهم وأعظمها التصاقاً بهم، حبهم الخروج على الأئمة وولاة أمور المسلمين مهما علا شأن الحاكم وارتفعت مكانته بين المسلمين، ومن ذلك خروجهم على عثمان رضي الله عنه وقتلهم إياه، وخروجهم على علي رضي الله عنه وقتلهم إياه أيضاً، وحاولوا قتل معاوية رضي الله عنه فلم يتمكنوا من ذلك، وتاريخهم مليء بالثورات والخروج على حكام المسلمين، فما أعظم فتنتهم وما أشد ما لقي منهم المسلمون من البلاء والمحنة.

 

هذه الجرأة على ولاة الأمر وعلى عباد الله الصالحين واحتقارهم وقلة الاحترام لأهل العلم والفضل هي شعار الخوارج على مر التاريخ وبها استُبيحت دماء أكابر الأمة وساداتها فقد قاتلوا الصحابة رضي الله عنهم وكفَّروا خيرتهم واستباحوا دماءهم، فأي انحرافٍ أشد من هذا الانحراف وأي خطر على الإسلام والمسلمين أشد من خطر هؤلاء الخوارج البغاة.

 

وما تلك الفئة الضالة الباغية في بلاد الشام والعراق والتي تسمى بدولة داعش إلا مثالاً واقعياً وسورة حقيقة لفرقة الخوارج المارقين عن الدين المستبيحين لحرمات المسلمين شِرذمةٌ قليلة جاهلة، أضاعوا دينهم ودنياهم، لعبَت بعقولهم مخابرات العدوِّ لُعبتَها، ووجدتْ في جهلهم وخوائهم من العلم والبصيرة بُغيتَها ونصَّبَت عليهم شياطين من الإنس في هيئة علماء يُفتونهم وليس بجهلٍ فحسب؛ وإنما بتضليل مُتعمَّد، يستحلون الدماء المحرمة بأبشع قِتلة، ويُبيحون انتهاك الأعراض بأغرب الأسباب، ويسلبون الأموال الحلال بأبخس حيلة، في أحوالٍ تجلّى معها استحقاقُهم وصفَ النبي صلى الله عليه وسلم: "هم شر الخليقة"، وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح ابن ماجه: "الخوارج كلاب النار" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم يَقتُلون أهلَ الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتُلنَّهم قتلَ عاد" وللأسف الشديد فقد انخدع بهم شبابٌ من بلاد المسلمين، ولحِقوا بهم فمسخوا أفهامهم، وغسلوا عقولهم، ونجحوا في إقناعهم بأن بلادهم التي قدِموا منها دارُ حرب، وأن آباءهم وإخوانهم وأقاربهم أعداءٌ محارِبون ومستباحة دماؤهم وأموالهم، وأن أمهاتهم وأخواتهم وقريباتهم حقُّهنُّ السَّبي والعياذ بالله، وقد طال بلادَنا الكثير من شرورهم، وآخرها: ما حدث في جنوب المملكة وفي مدينة شرورة تحديداً؛ من قتل لأنفسٍ معصومة في نهار رمضان المبارك فأحدثوا حدثاً عظيماً في شهر كريم، وأزهقوا أنفساً صائمة حارسةً للمسلمين.. نعوذ بالله من سوء الخاتمة وشؤم المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

اللهم احمِ بلادَنا وبلادَ المسلمين من كل شر وسوء، وأَدِمْ علينا وعلى المسلمين الأمنَ والإيمان، والسلامة والإسلام.