إن الأمانة من الأخلاق الفاضلة، وأصل من أصول الديانة، وضرورية للمجتمع، لا فرق فيها بين حاكم وموظف وصانع وتاجر ومزارع، وغني وفقير، وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير، وواجب الموظف ورأس مال التجار، وسر نجاح العامل ومصدر كل سعادة وفلاح بإذن الله، ويجب على المسلم أن يستحضر الأمانة في كل ساعة، وفي كل نظرة ولفتة وفي كل إشارة وعبارة وفي كل حركة وسكون، فلسانه أمانة، إن حفظه من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى الله عنه واستعمله في ذكر الله وتلاوة كلامه فقد حفظ هذه الأمانة، والأذن أمانة، إن جنبها استماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء واستعملها في استماع ما ينفعه في الدنيا والآخرة فقد حفظ الأمانة، ورجله أمانة عنده إن استعملها بالمشي إلى ما أمر الله كإكثار الخطوات إلى المساجد لحضور الصلاة مع الجماعة أو منعتها من السير إلى كل ما يغضب الله فقد حفظها، وكذلك الفرج، إن جنبه الزنا وكل ما نهى الله عنه واستعمله فيما أباحه الله فقد حفظه، قال تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6].
ومن الأمانة المحافظة على أسرار العمل فهي من مقتضيات الوفاء بالعقود التي عقدها الموظف مع جهة الإدارة التي وظفته ليرعى مصالحها كما يرعى مصالح نفسه وأسرته، ويتأكد ذلك في حق العسكري لأهمية موقعه الذي يشغله، ويتوجب عليه المحافظة عليه، حيث إنه مستهدف من عدوه. وقد جاء الإسلام بالحث على أهمية حفظ الأسرار، وكتمانها، وخطورة الإثم في نشرها وإشاعتها حتى تستقيم المصالح وتُدرأ المفاسد، قال تعالى: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. فالعهود والعقود كل منهما يسأل صاحبه عن الوفاء به، فإن وَفَّى فله الثواب الجزيل، وإن لم يفعل فعليه الإثم العظيم، وللمحافظة على الأسرار دور فعال وكبير في نجاح أعمالنا، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعين على قضاء حوائجه بالسر والكتمان، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يُريد غزوةً يغزوها إلى وَرَّى بغيرها" متفق عليه. وعندما يتعاقد موظف مع جهة ما بمحض إرادته فهو يعلم أنه يجب أن يتحمل الأمانة والمسؤولية الأخلاقية والدينية تجاه وظيفته ومهامه التي وكلت إليه، ويتوجب عليه القيام بمقتضى هذه الأمانة والمسؤولية، والحفاظ على أسرار الوظيفة فحفظ أسرار العمل دليل على قيمة المرء وخلقه وقوة شخصيته، ووفائه بالعهد، وقيامه بالأمانة التي يجب حفظها، قال تعالى عن المؤمنين الصادقين: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]. ولا شك أن إفشاء أسرار العمل إخلال بالأمانة، وتبعاته جسيمة، وأنه غش واحتيال، بل هو من علامات النفاق وسوء الأخلاق؛ قال صلى الله عليه وسلم: "أية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذَب وإذا وَعَد أخْلَف وإذا اؤتُمن خان". وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. وإفشاء أسرار العمل والوظيفة غدر، وجزاء الغادرين الفضيحة يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواءٌ فقيل هذه غَدْرة فلان بن فلان" متفق عليه.
إذا تبين هذا فيجب أن نعلم أن الأسرار تتفاوت وليست على درجة واحدة، وكذلك أمر إفشائها ليس على درجة واحدة، فشناعة إفشائه على حسب الضرر المترتب عليه، أو نظراً لحساسية السر وخصوصيته، فكلما عظم الضرر كان الجزاء أشد وأشنع، وأما تحديد ما هو سر، وما ليس بسر فلا يخضع لقواعد ثابتة، ولا تعليمات مطلقة ودائمة. والذي يحدد ذلك هو صاحب الشأن الخاص أو صاحب القرار في الدائرة الحكومية أو الشركة أو المؤسسة أو الهيئة.. سواء طلب ذلك صراحة، أو بدلالة الحال بأن يتعمد الحديث عنها حال الانفراد مثلاً. أو تدل القرينة على سريته مثل أن يخبر به خافضاً صوته، ومتحفظاً به عن غيره؛ وكذلك ما يريد الإنسان عمله مما تدعو المصلحة إلى كتمانه. ومن ذلك ما أمر الشرع بكتمانه وعدم إذاعته، ومنه ما كان الأصل إخفاؤه واطلع عليه شخص بسبب مهنته. فيجب على الموظف المسلم أن يعلم أن المعلومات تكون سرية أحياناً بطبيعتها، وأحياناً تكون سرية بسبب صدور قرارات بذلك، وفي كلتا الحالتين فإن على الموظف المحافظة على سريتها. أما إذا كان الإفشاء مانعاً من ارتكاب جريمة أو نحو ذلك فإنه يجوز إفشاؤه بل ربما كان إفشاؤه واجباً. وهذه المسألة ليست خاصة بالعسكريين، بل هي عامة، فالحفاظ على الأسرار يكون واجباً ما لم يلحق ضرراً بالآخرين.
ومع التقدم العلمي وسهولة تواصل الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تتزايد ما بين وقت وآخر فإن مسألة حفظ الأسرار وإفشائها تكتسب أبعاداً جديدة وحساسة للغاية. ولذلك فإن إعطاء أي معلومات للصحف ووسائل الإعلام، أو أي جهة يُعتقد بأن اطلاعها على تلك المعلومات يؤدي إلى حدوث نوع من الضرر للجهة التي يعمل فيها، أو إفشاء أي معلومات تتعلق بالوضع المالي لجهة العمل، أو تتعلق بإنتاجيتها أو المشكلات التي تواجهها، أو تسريب أي معلومات سرية تتعلق بالأبحاث العلمية أو الأرقام والإحصاءات التابعة للعمل والنتائج التي توصلت إليها، أو نشر أسرار تحالفات جهة العمل مع الجهات الأخرى، وأي علاقات تجارية أو إدارية غير معلنة، أو إفشاء أخبار الخطط التطويرية في العمل والتطلعات المستقبلية، مما يؤثر على ميزاتها التنافسية، أو تسريب أخبار عن العلاقات القائمة داخل العمل، وما يسودها من خلافات في الرأي، مما يؤثر على سمعة العمل في المجتمع، أو احتفاظ الموظف لنفسه بأصل أي ورقة من الأوراق الرسمية، أو نزع هذا الأصل من الملفات المخصصة لحفظه، أو مخالفة إجراءات أمن معلومات العمل الخاصة والعامة ولا سيما التي تصدر فيها قرارات من السلطة المسؤولة. كل هذا من الأمور المحظورة شرعاً والتي يدخل صاحبها في الوعيد من الله جل وعلا.
ومن الأمانة المحافظة على أوقات العمل والحضور مبكراً ثم أداء العمل بكل اهتمام وعدم تهاون، وأن لا يلجأ الموظف إلى الطرق الملتوية لزيادة راتبه بخارج دوام لا يحضره أو بانتداب لا يباشر فيه، وكما أن من الأمانة الابتعاد عن سبل الحرام وعدم أخذ الرشوة فإن الأمة التي لا أمانة لها هي التي تنتشر فيها الرشوة وتهمل الأكفاء وتبعدهم وتقدم الذين ليسوا أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة التي قد وقعت فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن الساعة فقال: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف إضاعتُها؟ قال: إذا وسِدَ الأمرُ لغير أهله فانتظِرْ الساعة"، ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه من أجل منفعة له أو لقريبه، كاستغلال منصبه في سفريات باسم جهته التي ينتمي إليها مع عدم الحاجة لذلكن ثم مع هذا يريد أن يحللها بنوع من أنواع التأويلات. ألا فليعلم أن كل ذلك غش وخيانة وتلاعب بالدنيا، وما أخذ فهو سحت وأكل أموال الناس بالباطل لأنه ثمرة خيانة وغدر واستغلال للمنصب، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة". وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على جمع الصدقة فلما رجع هذا الرجل قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي. فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "... فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقر له خوار أو شاة تيعر"، إن الذي ينظر في معاملة الناس اليوم يجد معاملتهم غير شرعية، وأفعالهم غير مرضية، فلو أخذ المسلمون بتعاليم دينهم والتزموا أحكام شريعتهم فحافظوا على الأمانات سواء في العبادات أو المعاملات لربحت تجارتهم وحفظت حقوقهم وغني فقيرهم، وبورك لهم في أرزاقهم وسلموا من المكر والخداع، ومن أكل أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى:20].
نسأل الله أن يوفقنا لأداء الأمانة على الوجه الذي يرضيه عنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.