التحريق بالنار
6 ذو القعدة 1436
د. أحمد بن ناصر الغامدي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد : فإن الإسلام دين الرحمة ، أمر عند قتل من يستحق ذلك بإحسان القِتلة ، ونهى عن التعذيب بالنار ، وقد اختلف العلماء في فعل ذلك (أي : التحريق) بمن فعله ، أو كان من الأعداء ، أو ارتكب جرما كبيرا كما سيأتي ، ويشتمل هذا البحث على مسائل هي :

1- تحريق الأعداء في الجهاد . 2- تحريق أموالهم . 3- تحريق المرتد . 4- تحريق البغاة وأموالهم . 5- التحريق في حد اللواط . 6- التحريق في القصاص . 7- تحريق الحشرات .

تحريق الأعداء في الجهاد :

قال العلماء : لا يجوز تحريق الأعداء بعد القدرة عليهم ، وأما قبل ذلك وفي أثناء المعركة فقد اختلفوا في التحريق على أقوال :

1- فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقًا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصاً ([1]) ، ويروى عن مالك ([2]) . قال ابن قدامة : (أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه ، وقد كان أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- يأمر بتحريق أهل الردة ، وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره ، فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافاً ([3]) ... فأما حرقهم قبل أخذهم بالنار فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها ، لأنهم في معنى المقدور عليه ، وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم) ثم ذكر قول عبد الله بن قيس : لم يزل أمر الناس على هذا ([4]) .

2- وأجاز ذلك سفيان الثوري ([5]) ، وأجازه علي ، وخالد بن الوليد ، وغيرهما ([6]) ‏.

3- وقال بعضهم : إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا ([7]) .

أدلة المحرمين :

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال " ‏بعثنا رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- في بعث فقال‏:‏ إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين فأحرقوهما بالنار ، ثم قال حين أردنا الخروج : إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا ، وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه ، فإن وجدتموهما فاقتلوهما" ([8]) ، وهو خبر بمعنى النهي ([9]) .

المناقشة : قال ابن حجر ([10]) : " قال المهلب : ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة ، وقد سمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعين العرنيين بالحديد المحمي ، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة ، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة " .

أدلة المجوزين :

1- قوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولم يستثن قتلا من قتل ([11]) .

ويجاب بأن هذا العموم مخصوص بحديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار

2- حديث العرنيين ، وسيأتي في القصاص ، فالكفار المحاربين من باب أولى .

وأجيب بأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة ([12]) .

3- قياسا على فعل الصحابة مع المرتدين ، وستأتي مناقشته في تحريق المرتد .

أدلة من قال بالتفصيل : قول الله تعالى : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به) [13].

والراجح جواز فعل ذلك بهم إن فعلوه بالمسلمين معاملة بالمثل للآية ، وقياسا على القصاص كما سيأتي .

تحريق أموالهم :

وأما تحريق أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك :

1- فذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو ([14]) . وأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر ، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النحل ([15]) .

2- وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر ، وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك ، وكرهه الليث وأبو ثور ([16]) . قال الترمذي ([17]) : قال الأوْزَاعِيّ : ونَهَى أبو بَكْرٍ الصّدّيقُ يزيد أنْ يقْطَعَ شجراً مُثْمِراً ، أو يُخَرّبَ عامراً ، وعمِلَ بذلكَ المُسْلِمُونَ بعدَه .

3- وقال الشافعي : تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل ، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل . قال الترمذي : وقال أحمدُ : وقد تكُونُ في مَوَاضِعَ لا يَجِدُونَ مِنْهُ بُدّا ، فأما بالعَبثِ فلا تُحَرّقُ . وقال إسحاقُ : التّحْرِيقُ سُنّةٌ إذا كانَ أنْكَى فيهِم . وذكر ابن قدامة أنه ينقسم إلى ما تدعوا الحاجة إلى إتلافه فجائز ، وما يتضرر المسلمون بقطعه فلا يجوز ، وما عدا هذين القسمين ففيه روايتان ([18])

دليل القائلين بالجواز :

1- أنه ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير" ([19]) . وليس قول أحد ولا فعله حجة عليه .

المناقشة : أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم .

وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك ، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف ([20]) ، وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل النساء الصبيان ، وبهذا قال أكثر أهل العلم ([21]) . وقيل إن قصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو ، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان ([22]) .

2- أنه عليه الصلاة والسلام أمر أسامة بن زيد - رضي الله عنه - بأن يحرِّق ([23]) .

دليل المحرمين : ثبت عن أبي بكر أنه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان : لا تقطعوا شجرا مثمراً ، ولا تخربوا عامرا ، ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل ، ولا تغرقوا نحلاً ولا تحرقوه ([24]) .

وفعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه -صلى الله عليه وسلم- إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله .

الجواب : لا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي ([25]) . وقيل : إنما نهى أبو بكر عن ذلك لأنه قد علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على المسلمين ([26]) .

وأما مالك فإنما فرق بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة ، ولم يأت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قتل حيوانا .

والراجح عدم جواز تحريق وقطع الأشجار إلا للضرورة ، كأن تكون لهم معاقل ، جمعا بين الأدلة ، والأمر في تحريق الحيوانات أشد .

تحريق المرتدين :

أدلة الجواز

1- فعل علي (رضي الله عنه) فعن عكرمة قال : أُتي أمير المؤمنين علي –رضي الله عنه- بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله e قال : لا تعذبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من بّدل دينه فاقتلوه ، رواه البخاري ([27]) .

ونوقش بأن تجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر ([28]) ، فإن ابن عباس لم يوافقه ([29]) .

2- أن أبا بكر أمر بتحريق المرتدين بالنار ، وحرق الفجاءة من بني سليم بالنار جمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار ([30]) ، وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره ([31]) .‏

المناقشة : يمكن أن يجاب بأنه ربما لم يبلغه النهي ، لكن هذا الجواب لا يستقيم إذ لم يرد أن غيره خالفه ، ويمكن أن يجاب بأنه فعل ذلك قصاصا وهو جائز فيه لكن هذا يحتاج إلى العلم بأن الأعراب فعلوا ذلك بالمسلمين ، وقد ذكر ابن كثير أنهم قتلوا المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم ، وأن أبا بكر فعل بهم ذلك ثأرا منهم ، ولإخافة الأعراب الآخرين . أو نقول أن ذاك ظرف استثنائي فلا يقاس عليه ، لأن أبا بكر لما حدثت الردة خشي على بيضة الإسلام فرأى التنكيل بهم ([32]) ، ويدل عليه كلام ابن قدامة السابق حيث ذكر أنه لا خلاف الآن في عدم الجواز .

أدلة التحريم :

الأدلة في النهي عن التعذيب بالنار ، وقد سبق بعضها .

الترجيح : الراجح عدم الجواز لكن يبقى الإشكال في فعل أبي بكر ، فيحمل على أنه فعله استثناء للضرورة .

تحريق البغاة وأموالهم

قال العلماء : لا يجوز تحريقهم وأموالهم ، جاء في مغني المحتاج ([33]) : ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق " وإرسال سيل وأسود وحيات ونحوها من المهلكات ، لأن المقصود من حالهم ردهم إلى الطاعة كما مر ، وقد يرجعون فلا يجدون للنجاة سبيلا ، وفي الحديث الصحيح لا يعذب بالنار إلا ربها ... ولا يجوز عقر خيولهم إلا إذا قاتلوا عليها ، ولا قطع أشجارهم وزروعهم .

التحريق في حد اللواط :

اختلف العلماء في الحد في اللواط على أقوال :

1- فقيل : الرجم بكرا كان أو ثيباً . وقال ابن عباس : يُلقى من أعلى بناء في البلد ([34]) .

2- وروي عن أبي بكر أنه أمر بتحريق اللوطي ، وهو قول ابن الزبير ([35]) ، قال المنذري ‏:‏ حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء : أبو بكر ، وعلي ، وعبد اللّه بن الزبير ، وهشام بن عبد الملك ([36]) .

3- وقيل : يعزر ([37]) ، وقيل : حده حد الزاني .

الأدلة

دليل القول بالقتل والرجم :

حديث : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به ، رواه أبو داود ([38]) .

دليل القول بالتحريق : أخرج البيهقي ([39]) عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء ، فسأل أصحاب رسول اللّه e عن ذلك ، فكان أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال ‏:‏ هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة ، صنع اللّه بها ما قد علمتم ، نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار ‏([40]) .‏

الراجح أنه يقتل ولا يحرق بالنار للنهي عنه ، ولأن التحريق لم يذكر في الحديث ، ولأن الأصل إحسان القتلة ، فيقدم على ما روي عن الصحابة والذين إنما حرقوا لاستشناعهم لهذا الفعل الذي لم يعهدوه .

التحريق في القصاص ([41]) :

أقوال العلماء :

1- قال الشافعي : إن طرحه في النار عمدا طرحه في النار حتى يموت ، وذكره الوقار في مختصره عن مالك ، وهو قول محمد بن عبد الحكم ([42]) .

2- وقال أبو حنيفة : لا يقتص إلا بالسيف ([43]) .

الأدلة على الجواز :

1- يدل عليه عموم القرآن ، كقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [44].

2- واستدلوا بقول الرسول e : (من غرق غرقناه ، ومن حرق حرقناه ، ومن قتل عبداً قتلناه) ([45]) . وأجيب بأنه ضعيف ، قال ابن حجر في التلخيص (4/19) : في الإسناد بعض من يجهل ، وإنما قاله زياد في خطبته . ثم إنه يلزم على قولهم أنه يجوز التحريق بالتحريق ، وهو منهي عنه شرعاً، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تعذبوا أحداً بعذاب اللّه) .

أو أن الحديث محمول على السياسة، حيث أضافه -صلى الله عليه وسلم- إلى نفسه فقال : (غرقنا) ولم يقل صلوات اللّه وسلامه عليه (حرقوه أو غرقوه) ([46]) .

3- حديث العرنيّين ، وهو صحيح أخرجه الأئمة ([47]) ، وفي رواية عند مسلم عن أنس أنه قال : (إنما سمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعين العرنيين ، لأنهم سملوا أعين الرعاء) .

وأجيب بأنه منسوخ ([48]) .

الأدلة على التحريم :

1- لحديث : (لا يعذب بالنار إلا رب النار) .

وأجيب بأنه صحيح إذا لم يحرق ، فإن حرق حُرِّق .

2- ولأنه مثلة وقد نهي عنها .

وأجيب بأن النهي عن المثلة نقول أيضا بموجبه إذا لم يمثل ، فإذا مثل مثلنا به ([49]) .

3- ولحديث : لا قود إلا بالسيف ([50]) .

4- ولأنه لا يؤمن الحيف فيجب التحرز عنه ، كما في كسر العظم ([51]) .

وأجيب بأن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان ، وأما كون القصاص لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد فلتعذر المماثلة ، ولئلا يزيد المقتص على مقدار الجناية ([52]) .

الراجح : جوازه معاملة بالمثل ، لحديث العرنيين .

تحريق الحشرات كالنمل ونحوه :

سبق معنا حديث : لا يعذب بالنار إلا ربها ، قال ابن حجر : وفيه كراهة قتل مثل البرغوث بالنار ([53]) . لكن روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه : أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟) وفي طريق آخر: "فهلا نملة واحدة". قال النووي ([54]) : قال العلماء : وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي e كان فيه جواز قتل النمل وجواز الإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق بل في الزيادة على نملة واحدة. وقوله تعالى : فهلا نملة واحدة ؟ أي فهلا عاقبت نملة واحدة ، هي التي قرصتك لأنها الجانية وأما غيرها فليس لها جناية، وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان إلا إذا أحرق إنساناً فمات بالإحراق فلوليه الاقتصاص بإحراق الجاني، وسواء في منع الإحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور: "لا يعذب بالنار إلا الله" وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز، واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد" رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وقوله -صلى الله عليه وسلم- : "فأمر بقرية النمل فأحرقت" وفي رواية : " فأمر بجهازه فأخرج من تحت الشجرة" أما قرية النمل فهي منزلهن، والجهاز بفتح الجيم وكسرها وهو المتاع.

وقال القرطبي ([55]) : قال علماؤنا : يقال إن هذا النبي هو موسى -عليه السلام- وإنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع . فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده ، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها ، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروي عن إبراهيم : ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله: (ألا نملة واحدة) دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء . وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها ؛ لأنه ليس المراد القصاص؛ لأنه لو أراده لقال : ألا نملتك التي لدغتك ، ولكن قال : ألا نملة مكان نملة؛ فعم البريء والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: (فهلا نملة واحدة) أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي e قد نهى عن التعذيب بالنار . وقال: (لا يعذب بالنار إلا الله). وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل: إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد ، وكان الأولى الصبر والصفح؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق ، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب ، والله أعلم ، لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه .

ويتلخص مما سبق أن تحريق الحشرات بالنار لا يجوز ، وأما فعل ذلك النبي فهو منسوخ بشرعنا .

الخاتمة : أن التحريق بالنار لا يجوز إلا من السلطان إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك نكاية أو معاملة بالمثل ، أو لمن فعل أمرا منكرا ، والشجر كذلك ، وأما الحيوان فلا يفعل به ذلك ، لأنه مثلة وتعذيب بلا فائدة ، إلا إذا استعمله الكفار في العدوان على المسلمين ، ولم يوجد بدٌ من التحريق ، والله أعلم ، وصلى الله على بينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

([1]) فتح الباري (6/174)

([2]) بداية المجتهد (2/339)

([3]) وهذا مثل الخروج بالسيف على الحاكم الجائر فهو مذهب لبعض السلف قديم تركوه لما رأوا ما في الخروج من المفاسد .

([4]) المغني (13/138 ، 139) ، وانظر : نيل الأوطار (7/248)

([5]) بداية المجتهد (2/339)

([6]) فتح الباري (6/174)

([7]) بداية المجتهد (2/339)

([8]) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب لا يعذَّب بعذاب الله (3016) ، ورواه أحمد (3/124) ، وأبو داود (2673) ، والترمذي (1619) ‏.‏

([9]) فتح الباري (6/174)

([10]) فتح الباري (6/174)

([11]) بداية المجتهد (2/339 ، 340) .

([12]) فتح الباري (6/175)

[13] ) النحل (126)

([14]) فتح الباري (6/179)

([15]) بداية المجتهد (2/340) ، وانظر : فتح القدير لابن الهمام (5/447) ، والمغني لابن قدامة (13/146)

([16]) فتح الباري (6/179)

([17]) انظر الحديث (1555)

([18]) المغني (13/146)

([19]) رواه البخاري (4031 ، 4032) ، ومسلم (1746)

([20]) رواه الترمذي في ضمن باب ما جاء في الأخذ من اللحية ، في كتاب الاستئذان والأدب (2912) وقال الزيلعي في نصب الراية (3/382) : معضل . وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/306) : بإسناد جيد ، ورواه أبو داود في المراسيل (335) ، وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (3886) : مرسل .

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : المنجنيق بفتح ميم وجيم وسكون نون بينهما : ما يرمي به الحجارة ، قاله في المجمع . وقال في القاموس : المنجنيق بكسر الميم آلة ترمي بها الحجارة كالمنجنوق معربة ، وقد تذكر فارسيتها من جه نيك ، أي أنا ما أجودني ، جمعه منجنيقات ومجانق ومجانيق ، انتهى .

([21]) فتح الباري (6/179)

([22]) فتح الباري (6/175)

([23]) روى أبو داود في باب في الحرق في بلاد العدو ، من كتاب الجهاد (2616) ، وابن أبي شيبة في المصنف 6/486 (33150) عن أسامة أن رسول الله r عهد إليه فقال : أغر على إلى أرض يقال لها : أُبنى صباحا وحرق . وأُبنى : اسم موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة ، وحرِّق بصيغة الأمر أي : زروعهم وأشجارهم وديارهم . انظر : عون العبود (7/197) والحديث ضعفه الألباني . قال ابن رشد : وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين ، فقالت طائفة : يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي . وقال الليث : ذلك جائز . ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} الآية . وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة .

([24]) رواه مالك في الموطأ في كتاب الجهاد ، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو رقم (10) ، وابن أبي شيبة في المصنف في كتاب الجهاد ، باب من ينهى عن قتله في دار الحرب (33121) ، ورواه البيهقي في كتاب السير ، باب ترك قتل الخ (9/90) ، قال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/320) : روي هذا عن أبي بكر الصديق من وجوه كثيرة ، وانظر : نصب الراية (3/406)

([25]) في حجية قول الصحابي خلاف ينظر في كتب أصول الفقه ، وقد أطال ابن القيم في الأعلام في الاستدلال على حجيته إذا لم يخالفه صحابي آخر .

([26]) فتح الباري (6/179)

([27]) رواه البخاري عن عكرمة في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6922) . وفي نيل الأوطار (7/193) : وقع في بعض طرق الحديث أن أمير المؤمنين عليا رضي اللّه عنه استتابهم كما في الفتح من طريق عبد اللّه بن شريك العامري عن أبيه قال : قيل لعلي : إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم : ويلكم ما تقولون ؟ قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا قال : ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعت اللّه أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا اللّه وارجعوا فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال : قد واللّه رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال : أدخلهم ، فقالوا كذلك ، فلما كان الثالث قال : لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فأمر علي أن يخد لهم أخدود بين باب المسجد والقصر وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم : إني طارحكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال : إني إذا رأيت أمرا منكرا ** أوقدت ناري ودعوت قنبرا . قال ابن حجر في الفتح (12/282) : (وهذا سند حسن) . والأثر عن علي رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه (33153) ، وانظر : كنز العمال (31579) . وقال ابن حجر في الفتح (12/282) : وزعم أبو مظفر الأسفرايني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي -رضي اللّه عنه- طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية وكان كبيرهم عبد اللّه بن سبا يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة ، انتهى . وانظر : الملل والأهواء والنحل ، لابن حزم (3/120) .

([28]) فتح الباري (6/175)

([29]) وانظر أيضا : مصنف ابن أبي شيبة (33143) .

([30]) البداية والنهاية (6/237 ، 239) ، وذلك لإخافة الأعراب الذين تجرؤوا على المدينة وطمعوا في المسلمين .

([31]) البداية والنهاية (6/239 ، 241)

([32]) حاشية النجدي على الروض المربع (7/406)

([33]) مغني المحتاج (4/127 ، 128) ، فلا يرمون بما يعم إتلافه ، انظر : المغني (12/247)

([34]) نيل الأوطار (7/117)

([35]) المغني (12/349)

([36]) الترغيب والترهيب (3/198)

([37]) فتح القدير (5/262)

([38]) سنن أبي داود (4462) ، وقال الألباني : حسن صحيح ، وانظر : الإرواء (2348)

([39]) السنن الكبرى للبيهقي (8/232)

([40]) قال الشوكاني : وفي إسناده إرسال ، وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي في هذه القصة قال : يرجم ويحرق بالنار . نيل الأوطار (7/117)

([41]) ينظر كلام ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود عند شرحه لحديث أبي سعيد (4527) ، والفتاوى (28/380) (34/162) ، وانظر تفسير القرطبي لقوله تعالى : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة (194) ، ولقوله سبحانه : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عاقبتم به) النحل (126) ، وانظر أيضا : سبل السلام ، والفقه على المذاهب الأربعة .

([42]) جامع أحكام القرآن ، تفسير الآية (194) من البقرة (2/239 ، 240) ، وقد قال مالك بالمماثلة في القصاص واختلف أصحابه في التحريق ، انظر : بداية المجتهد (4/309) ، وعند أحمد روايتان ، المغني (11/513)

([43]) فتح القدير (10/222)

[44] - البقرة (194)

([45]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (8/43)

([46]) الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزء الخامس ، مبحث صفة القصاص في النفس .

([47]) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرَّق (3018) .

([48]) فتح الباري (6/175)

([49]) قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود (12/173) : وقد أباح الله للمسلمين أن يمثلوا بالكفار إذا مثلوا بهم ، وإن كانت المثلة منهيا عنها فقال تعالى : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عاقبتم به) .

وأما ذبحه كالبهيمة فلم أجد سوى ما قاله الجزيري عند مبحث صفة القصاص في النفس حيث قال : أما إذا عدل (يريد : ولي الدم) إلى ذبحه كالبهيمة لم يجز ، لهتكه الحرمة .

([50]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الديات ، باب لا قود إلا بالسيف رقم (2667) وقال في الزوائد : في إسناده جابر الجعفي وهو كذاب .

([51]) فتح القدير (10/222)

([52]) تهذيب سنن أبي داود (12/177)

([53]) فتح الباري (6/175) ، وانظر : مصنف ابن أبي شيبة (6/485 ، 486)

([54]) شرح النووي لصحيح مسلم (14/239) ونقلته بطوله وكذا كلام القرطبي –رحمهما الله- لتتضح المسألة

([55]) انظر تفسير القرطبي ، في تفسير (الآية 18) من سورة النمل (13/116 ، 117)