وظيفة المرأة الأولى
18 صفر 1437
أسماء عبدالرازق

حث تقرير المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة، والتنمية، والسلم/ كوبنهاجن (1400هـ - 1980م) على:

"العمل على إيجاد فرص كاملة ومتكافئة للمرأة في مجال العمل –دون أن يغرب عن البال أن ذلك يقتضي من المرأة والرجل على السواء الجمع ما بين العمل المأجور، والمسئوليات المنزلية، والعناية بالأطفال- حتى يتاح للنساء الحصول على الأعمال التي تتطلب مهارة عالية، والاندماج في تنمية بلدانهن، بهدف العمل على توفير ظروف عمل أفضل للمرأة بوجه عام".

 

وجاء في تقرير المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة، والتنمية، والسلم/ نيروبي (1405هـ -1985م):

"على الحكومات أن تشجع المشاركة الكاملة للمرأة في مجموعة المهن –لاسيما في الميادين التي كانت تعتبر فيما سبق وقفاً على الرجال- بغية تحطيم الحواجز والمحظورات المهنية! وينبغي وضع برامج لتحقيق المساواة في العمالة من أجل إشراك المرأة في جميع الأنشطة الاقتصادية على قدم المساواة مع الرجل".

 

هذه التوصيات التي خرج بها خبراء العالم المتحضر بعد الاجتماع والتداول لتفرض على العالم إما عن طريق الأمم المتحدة ومنظماتها، أو بإرغام الحكومات على تبنيها، وربط المعونات بالمسارعة في تنفيذها. أما الشعوب فسيتولى الإعلام غسل عقولها وإعادة تشكيلها حتى تسعى هي دون وعي منها لتبني مثل هذه القرارات وتطبيقها. وهذه الصياغة المنمقة في حد ذاتها هي أولى خطوات غسل الأدمغة، فهي توحي بأن: المهام التي تؤديها المرأة في كل مجتمع لم تنتكس فطرته هي مهام تقليدية، لا تحتاج مهارة عالية، ولا تسهم في تنمية البلدان، ولا تحقق أي فائدة للمرأة لأنها بدون أجر، كما أن فيها نوعاً من عدم المساواة مع الرجال الذين يعملون في ظروف عمل أفضل!

 

والعجيب أن كثيراً من النساء في مشارق الأرض ومغاربها تبنين هذا الهراء، وصارت الواحدة منهن لا تتردد في الخروج ولو إلى العمل في المطاعم، والمغاسل، ودور حضانة الأطفال وغيرها من الأعمال التي يعدونها حقيرة في المنزل رفيعة خارجه! والتي لا تتطلب أي مهارة في المنزل لكنها تحتاج ذكاء خارقاً، ومهارة عالية خارجه! بل تحرص إحداهن على العمل ولو أنفقت جل راتبها في الحركة والمطعم والمشرب والملبس خارج البيت، هذا وهي غير محتاجة للعمل لدفع عوز، أو سد خلة، ثم تعتقد بعد ذلك أنها ساهمت في تنمية البلاد! وأنها تتمتع بظروف عمل أفضل! وأنها قد حققت المساواة مع الرجال، وأنها أفلحت في تحطيم الحواجز والمحظورات المهنية!

 

إن تصوير العمل خارج المنزل أياً كان دون أي ضوابط على أنه حق أصيل للمرأة يحقق ذاتها، ويدلل على إنسانيتها، ويحررها من التبعية لزوجها هو نوع من الاستخفاف بالنساء، وسبيل لتضييع حقوقهن والجناية عليهن. فالمرأة كسائر عناصر الطبيعة مخلوقة بمواصفات معينة، يصلحها ما يناسب طبيعتها التي فطرها عليها أحسن الخالقين، ولا تنصفها إلا الشريعة التي ارتضاها أحكم الحاكمين. فالتشريع الرباني يراعي عند توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة الاستعدادات الفطرية الموهوبة لكل منهما، فإذا انقلبت المرأة على خِلقَتها وأبت إلاّ أن تكون خلقاً آخر شقيت وتعست، وربما أشقت وأتعست وكانت عاقبة أمرها خُسراً.

 

إن العنصر البشري أثمن ما في الدنيا على الإطلاق، ومؤسسة الأسرة أهم مؤسسات الدنيا قاطبة، ولذا كان لابد من تحديد المسئوليات فيها على نحو دقيق جداً، وهذا ما أحكمته شريعة الإسلام، "فالله تعالى أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة؛ كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه، لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأريج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجه، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم"(1)، فعمرك الله! هل هذه وظائف تقدر بثمن؟! ومع ذلك حقروها!

 

إن المسلمة ينبغي أن تعي جيداً أن مهمتها الحقيقة هي صياغة ضمير المجتمع وتشكيل عقله، وما أعظمها من مهمة! وما أخطره من عمل! وما أجلها من وظيفة! فلا ينبغي أن تتركها أبداً لخادمة أو موظفة من أجل أن تتفرغ هي لجمع دريهمات ثم تكتشف بعد فوات الأوان أنها لم تحسن ترتيب أولوياتها وتقسيم أوقاتها.

 

إن الخلفية الثقافية والعقدية للمربية وما يمكن أن تقدمه للطفل من هذا الباب يجب أن تدفع كل أم إلى التفكير ألف مرة قبل أن تقذف بابنها في واحدة من دور الحضانة، أو تتركهم للخادمة مهما كانت الأسباب. إن أبناءنا يجب أن يُصنعوا على أعيننا، ولا ينبغي أن نترك للخادمة من أمر الطفل شيئاً ألبتة. حتى مجرد تنظيف الطفل ليس عملاً آليا، بل يعتبره الطفل مِنَّة كُبرى لا ينبغي أن يتفضل عليه بها أحدٌ غير أبويه، ولقد رأيت أطفالاً يتوسلون إلى أمهاتهم ألا يُنِبْنَ غيرهنّ في ذلك، وآخرين يرفضون رفضاً حاسماً أن تمتد إليهم يد غريبة بمنّة لغير حاجة ملحة!

 

كما أن الأطفال لهم وراء حاجات المأكل والملبس والعناية الطبية حاجات نفسية لا تلبيها دُور الرعاية والمحاضن الاصطناعية، وهذه حقيقة يقر بها اختصاصيون راسخون. يقول الدكتور (راي ليفي) والأستاذ (بيل أوهانلون) في تعليقهما على السلوكيات المضادة للمجتمع والتي أخذت في التفشي في مدارس الولايات المتحدة: "خصص وقتاً أكثر لطفلك. إن قضاء أطول وقت مع الطفل يعتبر مهماً لاسيما مع الطفل العنيد. حتى قضاء وقت دون عمل شيء معين مع الطفل يعد مفيداً. ربما تكون قد سمعت عن نوعية وجودة الوقت ولكننا لا نتحدث عن ذلك.. إننا نتحدث عن كمية الوقت التي تقضيها مع الطفل"(2).

 

إن المربيات في دور الحضانة في أحسن الأحوال أمهات اصطناعيات، يشترك فيهن مع الطفل عشرون غيره. والفرق بين الأم والأم الاصطناعية مثل الفرق بين حليب الأم والحليب الاصطناعي!

 

إن الله تعالى لم يعف المرأة من الضرب في مناكب الأرض، وأوجب لها في مقابله من النفقة ما يكفي مثلها؛ لتتطوع هي بذلك تاركة دورها الذي تعبدها الله به لغيرها. وأقلّ ما يمكن أن يقال في هذا أنه تنكبٌ للطريق، وإعراض عن الجادة، ما لم تدع حاجتها أو حاجة أمّتها إليه، شريطة أن لا تضيّع مَنْ تَلي من أولاد.

 

الدعوة للعناية بالوظيفة الأولى لا تقتضي ترك التعلم، ولا الزهد في مزاولة بعض الأعمال الاقتصادية لأجل الكسب، ولا مقاطعة المناشط الثقافية والفكرية وغيرها، لكن المقصود  إعطاء الوظيفة الأولى الأولوية القصوى من قبل الدولة عند سن القوانين المتعلقة بعمل المرأة خارج منزلها، ومن قبل الأسرة عند اتخاذ أي قرار يؤثر عليها.

 

لقد سهلت التقنية في زماننا هذا العمل عن بعد، والاتجار عن بعد، والتعلم عن بعد، لكنها عسرت أمر التربية، وكاثرت ونوّعت المخاطر التي المحيطة بالأطفال على اختلاف أعمارهم واهتماماتهم وطباعهم. فلم التشبث بتوصيات صدرت قبل أكثر من ثلاث عقود، ولم تكن محل إجماع بين ثقافات المجتمعات المختلفة في وقتها؟

 

فلنحرص على حراسة رأس مالنا الحقيقي، ولنحمه من الضياع، ولنسع لتنميته ورعايته، ولنلهج بدعاء الأنبياء والصالحين: (ربنا هب لنا من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء)، (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، (ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء).

 

______________________

(1)    سيد قطب: في ظلال القرآن، آية الأحزاب (وقرن في بيوتكن).
(2)    راي ليفي وبيل أوهانلون: حاول أن تروضني، ص102،103، بتصرف.