لا يخفى على كل منصف أننا في زمان تيسرت فيه الشهوات والشبهات بما لم تتيسر فيه من قبل، فالفضائيات والإنترنت وغيرها من القنوات التقنية أفسحت الميدان لكل من هب ودب لأن ينشر سمومه ويبث انحرافاته السلوكية والفكرية، إضافة إلى ذلك هذا التيار الجارف من المادية الذي يعلي المحسوس والمشاهد على المغيب، ويقدس اللذة على حساب الفضيلة، حتى بتنا نسمع بعض الدعوات بإغلاق الكليات الشرعية لأن سوق العمل صار لا يحتاجها، وأن الفقه الإسلامي هو فقه البداوة الذي لا يصلح لعصرنا، فهو مجرد تراث لا منهج.. في محاولة لعزل الأمة عن إيمانياتها وعقيدتها وتاريخها.
كل هذا الطوفان بات لا يبشر بخير، فلقد أطلت الفتن برؤوسها بما لا سابق عهد لها به، وزلزلت الكثيرين من ضعاف العلم والإيمان، خاصة مع قلة العلماء الأفذاذ الذين يحرسون بيضة الدين وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فتنة قديمة:
الزلل آفة سلوكية وفتنة قديمة قدم البشرية ذاتها، خاصة وأن التكاليف تحمل في طياتها نوعاً من المشقة والصرامة بعكس الشهوات التي تهفو لها النفس الأمارة بالسوء، ولقد حدثنا القرآن الكريم عن توغل هذه الكبوة في تاريخ البشرية، فقال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175-176]، وقال تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آلأ عمران:72] أي يرجعون عن دينهم؛ إذ يقولون ما رجع هؤلاء عنه بعد دخولهم فيه وهم أولو علم إلا لعلمهم بطلانه. وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً {17/73} وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء:73-74].
وتروي كتب التاريخ أن الأعشى بن قيس شيخاً كبيراً شاعراً، خرج من اليمامة من نجد يريد النبي عليه الصلاة والسلام، راغباً في الدخول في الإسلام، فمضى على راحلته مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيها السائلي أين يممت *** فإن لها في أهل يثرب موعدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه *** أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد *** نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله *** فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار يحمله الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، راغباً في الإسلام ونبذ عبادة الأصنام، فلما كان قريباً من المدينة اعترضه بعض المشركين فسألوه عن أمره؟ فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم، فخافوا أن يسلم هذا الشاعر فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: يا أعشى، دينك ودين آبائك خير لك. قال: بل دينه خير وأقوم. فقالوا له: يا أعشى، إنه يحرم الزنا. فقال: أنا شيخ كبير، ومالي في النساء حاجة. فقالوا: إنه يحرم الخمر. فقال: إنها مذهبة للعقل، مذلة للرجل، ولا حاجة لي بها.
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام قالوا: نعطيك مئةَ بعير وترجع إلى أهلك وتترك الإسلام؟
فجعل يفكر في المال، فإذا هو ثروة عظيمة، فتغلب الشيطان على عقله، والتفت إليهم وقال: أما المال فنعم. فجمعوا له مئة بعير، فأخذها وارتد على عقبيه وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره، واستاق الإبل أمامه، فرحاً بها مستبشراً، فلما أن كاد يبلغ دياره، سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات.
قلة السالكين:
الثابتون على الحق هم أولوا العزم والفضل، الذين يهرع إليهم العامة عند الخطوب، وهم المنارة التي يقتدي بها الناس من بعدهم، يتفيؤون في ظلال ذاك الثبات وذاك الإصرار، لكنهم قلة في الخلق؛ لأن ما يحملونه من الحق يحتاج لصفات نفسية وخلقية فريدة، فضلاً عن تبعات الثبات على المبادئ التي تكلفهم الكثير من الجهد والوقت والمال.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدّاً سموا غرباء. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة.. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقّاً".
إن أصحاب الثوابت يجيدون لغة الاستعلاء على الضغوط والتحديات، والاستعصاء على الإغراء والمساومة. لا يستدرجون إلى أي نوع من التنازلات، ولا يعرفون أنصاف الحلول، ولا حتى اللون الرمادي، ولا ترقيع المناهج ولا تنطلي عليهم الأباطيل وإن سماها الأفاكون بغير اسمها (الكذب الأبيض، التقية، الفوائد البنكية، مشروبات روحية..). وقد قال الشاعر:
ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبب
وهم لا يعبؤون بمشاق الطريق ولوم البعيد والقريب؛ لأنه تتولد بدواخلهم لذة ورضى تهون عليهم الضريبة الفادحة التي يبذلونها. شعارهم (من طلب رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن طلب رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس).
أفذاذ الماضي والحاضر:
لما تمكن الإسلام في الناس، بدأت القبائل ترسل وفودها لتعلن إسلامها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل بضعة عشر رجلاً من قبيلة ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم المسجد ليسمعوا القرآن. قالوا: أفرأيت الزنا؛ فإنا قوم نغترب لا بد لنا منه، قال صلى الله عليه وسلم: "هو عليكم حرام، إن الله عز وجل يقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32]. قالوا: أفرأيت الربا؛ فإنها أموالنا كلها، قال صلى الله عليه وسلم: لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:278]. قالوا: أفرأيت الخمر؛ فإنها عصير أرضنا، ولا بد لنا منها، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]. فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه على ما سألنا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نعم لك ما سألت. فلما أرادوا إعلان إسلامهم نظر بعضهم إلى بعض فتذكروا صنمهم الذي يعبدون، وكانوا يسمونه (الربة) ويصفونه بـ(الطاغية).. وينسجون حوله القصص والحكايات للدلالة على قوته. قالوا: أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال: "اهدموها". قالوا: هيهات!! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها ومن حولها. فقال عمر رضي الله عنه: ويحكم ما أجهلكم!! إنما الربة حجر. قالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. قالوا: يا رسول الله اتركها ثلاث سنين لا تهدمها. فأبى. فقالوا: سنتين. فأبى، فقالوا سنة. فأبى، فقالوا: شهراً واحداً. فأبى أن يوقت لهم وقتاً.
ثم قالوا: يا رسول الله .. تولَّ أنت هدمها. أما نحن فإنا لن نهدمها أبداً. فقال صلى الله عليه وسلم: سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فاستأذنوه أن يرجعوا إلى قومهم، فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسلموا ومكثوا أياماً وفي قلوبهم وجل من الصنم. فقدم عليهم خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في نفر من الصحابة، فأقبلوا إلى الصنم وقد اجتمع الرجال والنساء والصبيان، وهم يرتجفون.. وقد أيقنوا أنها لن تنهدم، وسوف تقتل من يمسها، فأقبل عليها المغيرة بن شعبة.. فأخذ الفأس.. وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف.. فضربها بالفأس ثم سقط يرفس برجله.. فصاح الناس.. وظنوا أن الصنم قتله. ثم قالوا لخالد بن الوليد ومن معه: من شاء منكم فليقترب.. فلما رأى المغيرة فرحتهم بنصرة صنمهم.. قام فقال: والله يا معشر ثقيفة.. إنما هي لكاع (أي مزحة).. حجارة ومدر.. فاقبلوا عافية الله واعبدوه.. ثم ضربها فكسرها.. ثم علا الصحابة فوقها فهدموها حجراً حجراً".
وما أجمل ما طالعتنا به الحب السيارة حيث أصدر المدير الفني لإحدى فرق كرة القدم الإسبانية تعليماته بتوقف التدريبات أثناء مواعيد الصلاة، وذلك تكريماً لنجم الفريق وهدافه المالي (كانوتيه عمر فردريك) الذي اعتنق الإسلام قبل فترة، حيث كان يصر كانوتيه على أداء فريضة الصلاة كلما حان وقتها مهما كانت الظروف، وقد تعرض لأكثر من مرة لخصومات مالية كان يدفعها دون تردد، وقد هدّد اللاعب بترك الفريق في حال استمر الوضع على هذا الشكل، مما أدى في النهاية إلى إذعان المدير الفني له واحترام المبدأ الذي تمسك به وأصرّ عليه.
والأمثلة والمواقف أكثر وأشهر من أن تذكر.. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. فَتَحِيّة إجلال وإكبار لأصحاب المبادئ الثابتين على الحق ثبات الجبال، الباذلين في سبيل ثوابتهم الغالي والنفيس، الواثقين بما عند الله تعالى أنه خير وأبقى للأبرار.
وعلى النقيض احتفظ تاريخنا وعصرنا بِكَمٍّ ضخمٍ من سِيَر من أَوْغَلوا في النفاق بل الكفر، والفرق بين زماننا وزمانهم أن المنهل العذب لنهر الإسلام كان يومها صافياً، ولم يكن يضرّه كثيراً أن يبول كلب أو خنزير فيه، لكن عندما يكون الماء راكداً، وليس لدينا سواه، ونحن تائهون في البيداء وفي الهجير فكيف نسمح للكلاب أن تبول في مائنا الأخير؟!، فاللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.