الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن الأصلَ في المقبرة ألاَّ تُسوَّر ولا تُحوَّط، وعلى هذا كانت مقبرة البقيع في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإن احتاجَ الناسُ لتسوير المقابر، لحماية القبور، وحفظ كرامة أهلها من الاستطراق والامتهان، كإلقاء القمائم والتبوُّل والتغوُّط، وعبث البهائم، ووطء السيارات، ومعرفة حُدود المقبرة عند الخوف من الاعتداء عليها واغتصاب أرضها... إلخ، فالواجبُ تسويرها[1].
وينبغي أن يُراعى في تسوير المقابر: البعد عن المحاذير الشرعيَّة، كترخيمها، وتزويقها، وإنارتها، والتكلُّف في بنائها، لأنَّ التسويرَ ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو حماية لأهل المقابر، ولأنَّ الأموات ليسوا بحاجةٍ إلى الزينة والزخارف التي يعملها الأحياء.
كما أنَّ المبالغة في بناء أسوار المقابر، وزخرفتها، هو من أفعال الكُفَّار، وفيه إضاعة للمال، فضلاً عن أنَّ ذلك قد يكون ذريعة لتعظيم المقبورين، والكلامُ في أبواب المقابر كالكلام في أسوارها، فلا تُزخرف ولا تزوَّق ولا يُتكلَّف فيها.
قال ابن الحاج المالكي: (وليُحذر من هذهِ البدعةِ التي اعتادَها بعضُهُم وهيَ: جعلُ الرُّخامِ على القبورِ، وهي بدعةٌ، وسَرَفٌ، وإضاعةُ مالٍ، وفخرٌ وخُيَلاءُ، وكذلكَ كُلُّ ما حواليهِ)[2].
وقرَّر مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تحريم تبليط أرض المقبرة، لأنَّ ذلك من أبواب الشرك وذرائعه[3].
وصدَرَ قرارُ هيئة كبار العلماء رقم 49 بتاريخ 20/ 8/ 1396 بالإجماع بتحريم تبليط الممرات بالمقبرة، وهذا نصُّه: (نظراً إلى أنَّ المقابر محل للاعتبار والاتعاظ وتذكُّر الآخرة، كما في صحيح مسلم 976[4] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أُمِّه، فبكى، وأبكى مَن حوله، وقال: استأذنتُ ربِّي أن أستغفرَ لأُمِّي فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزورَ قبرَها فأذنَ لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّركُم بالموت».
وحيث إنَّ تجميلها بفرش الأشجار، وتبليط الممرات، وإنارتها بالكهرباء، وغير ذلك من أنواع التجميل، لا يتفق مع الحكمة الشرعية في زيارة القبور، وتذكُّر الآخرة بها، حيث إنَّ تجميل المقابر بما ذُكرَ يَصرفُ عن الاتعاظ والاعتبار، ويُقوِّي جوانب الاغترار بالحياة ونسيان الآخرة، فضلاً عمَّا في ذلك من تحذير النبيِّ صلى الله عليه وسلم من إنارة القبور، ولعنه فاعل ذلك، فقد وَرَدَ عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه لَعَنَ زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج»[5].
ولِما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في تشجير مقابرهم وتزيينها، وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن التشبُّه بهم[6]، ولِما في ذلك من تعريض القبور للامتهان بابتذالها، والمشي عليها، والجلوس فوقها، ونحو ذلك مما لا يتَّفق مع حُرمة الأموات، وعليه فإنَّ المجلس يُقرِّر بالإجماع: تحريم التعرُّض للمقابر، لا بتشجيرها، ولا بإنارتها، ولا بأيِّ شيءٍ من أنواع التجميل، للإبقاء على ما كان عليه السلف الصالح، ولتكون المقابر مصدر عظة وعبرة وادِّكار)[7].
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء: (ليسَ في الإسلام بناءٌ على القبور، أو تجصيص، أو ترخيمٌ لها، بل ذلك مما نهى عنه صلى الله عليه وسلم)[8].
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ( وأمَّا إضاءة المقبرة فيُخشى أن يَجُرَّ ذلك إلى إسراج القبور الذي لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعله، ولا سيَّما ونفوس الجهال تتعلَّق كثيراً بالخرافات، فتُزال هذه الأنوار سدَّاً للذريعة ) [9].
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء: ( إضاءةُ طُرق المقابر ومداخلها إضاءة مستمرة لا يجوز، وأمَّا استعمال بعض الوسائل للإضاءة المؤقتة عند الدفن ليلاً كمصابيح يدوية، فهذه لا بأس بها ) [10].
ولعلَّ من مقاصد هؤلاء الذين يُرخِّمون أسوار المقابر: تغطية المقابر لتذهب الوحشة[11]، وهذا يُخالف الحكمة التي من أجلها شُرعت زيارة المقابر وهو تذكُّر الآخرة.
فعُلمَ مما تقدَّم: تحريم التعرُّض لأسوار المقابر بترخيمها، أو إنارتها، أو أيّ شيءٍ من أنواع التجميل، لأن الترخيم والتزويق والإنارة والتجميل كما تقدَّم من أفعال اليهود والنصارى، وفيه إضاعة للمال العام، وقد يكون ذريعة لتعظيم المقبورين، وللإبقاء على ما كان عليه السلف الصالح، ولتكون المقابر مصدر عظة وعبرة وادِّكار.
والله تعالى أعلم.
اللهم أعذنا ووالدينا وأهلينا وجميع المسلمين من البدع ومُحدَثات الأمور، آمين، وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وآله وصحبه.
----------------------
[1] سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: عن حكم جعل المواشي تدخلُ المقابر وتمرُّ على القبور؟.
فأجابت: (مرور المواشي عليها حرامٌ، وأصحابها آثمون لانتهاكهم حُرمة الأموات، ويَجبُ على أهل القرية أن يُسوِّروها محافظةً على الأموات ورعاية لحرمتهم) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 9/ 126 فتوى رقم 2174 من المجموعة الأولى. برئاسة شيخنا ابن باز رحمه الله.
ويُنظر: فتاوى نور على الدرب 13/ 422 و 14/ 173 لشيخنا ابن باز رحمه الله. ترتيب محمد الشويعر، فتاوى في أحكام الجنائز ص335، فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 5/ 589 كلاهما لشيخنا محمد العثيمين رحمه الله.
[2] المدخل 3/ 272.
[3] يُنظر: مجموع فتاويه رحمه الله 3 / 202 رقم 915.
[4] 2 / 671 ح105-976 ( بابُ استئذانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ربَّهُ عزَّ وجلَّ في زيارةِ قبرِ أُمِّهِ).
[5] رواه الإمام أحمد 3/ 471 ح2030، والترمذي وحسَّنه 1/ 378-379 ح320 ( باب ما جاء في كراهيةِ أن يَتَّخذ على القبرِ مسجداً).
وذكر ابن تيمية في الفتاوى 24/ 348 أن الترمذي صحَّحه في بعض نسخه، وقال أيضاً في الفتاوى 24/ 351: (أقلّ أحوالهِ أن يكون من الحَسَنِ).
[6] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ليسَ مِنَّا مَن تشـبَّهَ بغيرنا، لا تشَـبَّهُوا باليهودِ ولا بالنصارى)رواه الترمذي وضعَّف إسناده ح2695 (باب ما جاء في كراهية إشارة اليد في السلام).
وجوَّد إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 25/ 331، وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية 3/ 496.
[7] يُنظر: توضيح الأحكام 3 / 246 للشيخ عبد الله البسام ت1423 رحمه الله.
[8] فتاوى اللجنة الدائمة 1 / 293 فتوى رقم 5339 من المجموعة الأولى. برئاسة شيخنا ابن باز رحمه الله.
[9] مجموع فتاويه 3 / 201 رقم 914.
[10] فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 7 / 374 فتوى رقم 20844 من المجموعة الثانية.
ويُنظر: مجموع فتاوى شيخنا ابن عثيمين رحمه الله 2 / 184 رقم 298.
[11] أفاده شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله.