إنما الحلم بالتحلم..
29 جمادى الثانية 1437
وليد قاسم

لا شك أن تصرفاتنا وسلوكياتنا وخصالنا التي تظهر أمام الناس جميعاً هي نتاج لما انصهر في بوتقة الأخلاق، التي هي الباعث والمحرك الأساس لما يصدر عنا من أقوال وأفعال في حياتنا الخاصة والعامة..

 

وهذه السلوكيات والخصال منها ما هو فِطْرِيٌّ جِبِلِّي، عبارة عن هبة وهبها الله للإنسان، ومنها ما هو مكتسب يكتسبه الإنسان بالتعلم والدربة عليه حتى يصبح ملازماً له في كل شؤونه.

 

وحقيقةً إنَّ الإنسان إنْ لم يتحلَّ بفضائل الأخلاق الحميدة التي نستمدها من ديننا الإسلامي الحنيف، والتي توجهنا في كل ما نقوم به في جميع مجالات حياتنا، سواء في عباداتنا أو في تعاملاتنا مع أسرنا أو زملائنا في العمل أو جيراننا أو مع غيرهم أياً كان؛ فإن الإنسان يصير في هذه الحالة كالحيوان الذي لا توجهه قيم ولا مبادئ ونصبح نعيش في غابة لا حاكم لها ولا ضابط يضبطها.

 

وإن لنا في رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنة، الذي إن لم نتأسَّ به حِدْنا عن الطريق القويم وعن الأخلاق والخصال الحميدة، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21]؛ وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقالت السيدة عائشة عن رسولنا الكريم لما سُئلت عن خُلُقِه: "كان قرآناً يمشي على الأرض" و"كان خُلُقُه القرآن"..

 

وهنا نتحدث عن إحدى صفتين وخصلتين يحبهما الله، وهاتان الصفتان من الصفات والسلوكيات المكتسبة التي يمكن لأي إنسان أن يتدرب عليها ويعوِّد نفسه عليها حتى تكون سمة من سماته وصفة من صفاته يُعرف بها بين أقرانه؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم والحِلْم بالتحلُّم والصبر بالتصبُّر"..

 

هذه الأحرف الثلاثة (ح ل م) هي حروفٌ إذا اجتمعت كوَّنت كلمة واحدة، لكن حركة كل حرف تجعل هذه الكلمة الواحدة تعطي أكثر من معنى:

فـ(حُلْم) بضم الحاء وسكون اللام تكون بمعنى ما يراه النائم في منامه، سواء كانت رؤى أو أحلاماً، ومنها قوله تعالى: {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44].
والأحلام أيضاً تأتي بمعنى العقول، مثل أن تقول: سفهاء أحلام.

 

أما (حُلُم) بضم الحاء وضم اللام أيضاً، مصدر حَلَمَ، يقال: بَلَغَ الحُلُمَ : أَدْرَكَ سِنَّ البُلُوغِ، مصداقاً لقوله تعالى: {وَإذَا بَلَغ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور:59].

 

وأما (حِلْم) بكسر الحاء وسكون اللام، فهي بمعنى الأناة وضبط النفس، وهذه هي إحدى الصفتين والخصلتين التي يحبهما الله؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» [رواه مسلم]، وهي كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس المنذر بن الأشج العصري..

 

فهل لنا أن نتحلى بهذه الصفة وهذه الخصلة التي لا يحبها فقط زوج أو مدير أو والد أو والدة...؛ بل يحبها من هو أعظم من هؤلاء جميعاً، يحبها الله عز وجل، ولا ريب أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا ومعلمنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل من تحلى بهذه الخصلة؛ فقد زكاه ربه سبحانه وتعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وإن كنا فعلاً نحب الله ونريد الحصول على محبة الله لنا، علينا أن نتبع ما جاء به رسولنا الكريم؛ يقول الله عز وجل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]..

 

ونشير هنا إلى أن هناك فرقاً بين الحِلْم والصبر؛ جاء في الفروق للعسكري: (أَن الحِلْم هُوَ الْإِمْهَال بِتَأْخِير الْعقَاب الْمُسْتَحق، وَلَا يجوز الْحلم إِذا كَانَ فِيهِ فَسَاد على أحد من الْمُكَلّفين، وَلَا يَصح الْحلم إِلَّا مِمَّن يقدر على الْعقُوبَة وَمَا يجْرِي مجْراهَا من التَّأْدِيب بِالضَّرْبِ وَهُوَ مِمَّن لَا يقدر على ذَلِك، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِر: لَا صفح ذل وَلَكِن صفح أَحْلَام... وَلَا يُقَال لتارك الظُّلم حَلِيم، إِنَّمَا يُقَالَ حلم عَنهُ إِذا أخر عِقَابه، أَو عَفا عَنهُ وَلَو عاقبه كَانَ عادلا، وَالصَّبْر حبس النَّفس المصادفة المكروه، وصبر الرجل حبس نَفسه عَن إِظْهَار الْجزع والجزع إِظْهَار مَا يلْحق الْمُصَاب من المضض وَالْغَم). اهـ باختصار(1).

 

نماذج من حلم النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة مليئة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك على سبيل المثال:

-    حِلْمه وموقفه من أهل الطائف حينما ذهب لهم داعياً إلى الإسلام وقد قابلوه بمنتهى الإساءة والسب والشتم وأتبعوه سفهاءهم ورموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، وقد روى البخاري تفصيل القصة - بسنده - عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ "‏لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال‏:‏ إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‏.‏ فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال‏:‏ يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي لفعلت، والأخشبان‏:‏ هما جبلا مكة‏:‏ أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا‏ً"..

 

-    وكذلك يتجلى حِلْمه وعفوه وصفحه عندما دخل مكة فاتحاً لها، وكان هذا الموقف الشهير، فقد دخل النبي دخول نبي كريم، ولم يدخل دخول المنتصرين الجبارين الذين يبطشون وينتقمون من أعدائهم؛ فقال قولته الشهيرة لمن حاربه وآذاه هو وأصحابه: "ما ترون أني فاعل بكم ؟، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء"(2).

 

-    وكذلك قصَّة الأعرابي الذي جبذ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء"(3).

 

-    وموقفه مع أنس رضي الله عنه حين أرسله لحاجة له صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟"(4).

 

وما هذا إلا غيضٌ من فيضِ حِلْمه وأَنَاته على من جهل عليه صلوات ربي وسلامه عليه، وإلا فالأمثلة والنماذج الدالة على حِلْمه وعفوه وصفحه ما لا تسعه هذه الأسطر..

 

وممن اشتهر بالحِلْم وكان مضرباً للمثل في حِلْمه في عصره (قيس بن عاصم)؛ فكان حليماً يقتدى به؛ فقد قيل للأحنف: ممن تعلمت الحِلْم ؟ قال: من قيس بن عاصم!! رأيته يوماً محتبياً فأتي برجلٍ مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك، قتل ابنك. فالتفت إلى ابن أخيه فقال: يا ابن أخي! بئسَمَا فعلت، أثمت بربّك، وقطعت رَحِمَك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قُمْ يا بني فوارِ أخاك، وحُلَّ كتاف ابن عمّك، وسُقْ إلى أمّهِ مائةَ ناقة ديَة ابنها، فإنها غريبة.

 

مما لا شك فيه أن ليس كل منا لديه القدرة على هذه المرتبة العالية من الحِلْم، وهو أمر قد يشق على النفس البشرية، لكنه يسير لمن يسَّره الله له، ويختلف الناس ويتفاوتون في درجات ومراتب حِلْمهم، ولعلنا بشيء من الدربة والتمرن على ذلك نصل بأنفسنا إلى المراتب العلى من الحِلْم؛ فإنما الحِلم بالتحَلُّم.

 

__________________

(1)    معجم الفروق اللغوية للعسكري، 1/138.
(2)    رواه البيهقي.
(3)    رواه البخاري:3149.
(4)    رواه مسلم:2310.