علة تحريم اللعب بالنرد
5 رمضان 1437
د. أحمد الخليل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
فمعرفة علة تحريم اللعب بالنرد مسألة مهمة، وتحريرها مفيد جداً ؛لأنه ينبني عليها معرفة حكم ألعاب كثيرة حديثة وجدت في عصرنا لم تعرف من قبل، و ذلك من باب القياس.
وقد طرحتُ هذه المسألة على طلابي في مرحلة الدكتوراه للمدارسة وكتب أحد الطلاب النجباء فيها بحثاً حسناً، ثم تمت مدارسة البحث في القاعة، وحصلت في الحوار فوائد وتحريرات تقتضيها طبيعة الحوار العلمي، وتم ضمن ذلك مناقشة البحث الذي كتبه الشيخ عبدالله زقيل بعنوان: "حكم لعب النرد وما شابهها من الألعاب" وقد نشر في عدد من المواقع، وهو بحث محرر جزى الله كاتبه كل خير ، إلا أنه لم يعتن بتحرير علة التحريم بالشكل الكافي ، بل اكتفى بذكر علة واحدة، مع أن العلماء أشاروا إلى علل أخرى مختلف فيها كان يحسن ذكر الخلاف فيها لأهميته.
ثم بعد ذلك طرحتُ هذا الموضوع للنقاش في لقاء علمي دوري مع عدد من المشايخ .
ثم راجعت المسألة وزدت عليها بعض الزيادات والنقولات والمناقشات.
وأنا أسجل خلاصة ذلك كله هنا بشكل نقاط موجزة مع الإشارة إلى ما أراه راجحاً من الأقوال في المسائل الخلافية وبالله تعالى التوفيق :
1- النرد: لعبة ذات صندوق، وحجارة،وفصين، تعتمد على الحظ، وتنقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفص (الزهر) وتعرف عند العامة ب (الطاولة) القاموس الفقهي (ص: 350).
وزهر النَّرْد(وهما الفصان) قطعتان من الْعظم صغيرتان مكعبتان حفر على الْأَوْجه السِّتَّة لكل مِنْهُمَا نقط سود من وَاحِدَة إِلَى سِتّ. المعجم الوسيط (1/ 404)
2- أجمع العلماء على تحريم النرد إذا كان بعوض.
3- أجمع العماء على تحريم النرد إذا أدى لترك واجب أو فعل محرم.
4- ذهب جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى تحريم النرد ولو كان بغير عوض واختلفوا في علة تحريمه على أقوال :
القول الأول: أن علة التحريم ما فيه من الحرز والتخمين والحظ لأنها تعتمد على ما يخرج الفصان (أو الزهر) .
وعلى هذا تحرم كل لعبة تعتمد على الحظ والتخمين.
القول الثاني: العلة التشبه بالمجوس أو التشبه بأهل الكتاب أو التشبه بأهل الفسق.
وهذه أقوال متقاربة لذلك جعلتها قولا واحدا لأنه يجمعها التشبه بمن لا يجوز التشبه به.
القول الثالث: كونه ميسر العجم كما جاء عن الحسن.
وهذا يرجع لمسألة القمار فهو خارج عن محل البحث .
القول الرابع: كونها وضعت على عقيدة المجوس.
القول الخامس: كونها وسيلة وذريعة للقمار والميسر أو للصد عن ذكر الله.
وممن اعتبر هذا علة ابن تيمية فهو يقول :
(فهذا " الميسر " المقرون " بالخمر " إذا قدر أن علة تحريمه أكل المال بالباطل وما في ذلك من حصول المفسدة وترك المنفعة. ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض كما جرت به العادة وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع: مثل المسابقة والمصارعة ونحو ذلك فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها) مجموع الفتاوى (32/ 226)
القول السادس: أن علة التحريم كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة غالباً وتسبب العداوة والبغضاء.
وهذه العلة ذكرها ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم :
قال ابن قدامة في سياق حكم الشطرنج :
(ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ، فأشبه اللعب بالنرد)
المغني لابن قدامة (14/ 156)
وقال ابن تيمية :
(فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومن إيقاع العداوة والبغضاء: هو في الشطرنج أكثر بلا ريب وهي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس. فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة) مجموع الفتاوى (32/ 221)
وقال ابن القيم ـ في سياق بيان تحريم النرد والشطرج ولو بدون عوض ـ :
(وسر المسألة وفقهها أن الله سبحانه لماذا حرم الميسر هل هو لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمنة لأكل المال بالباطل فعلى هذا إذا خلا عن العوض لم يكن حراما فلهذا طرد من طرد ذلك هذا الأصل وقال إذا خلا النرد والشطرنج عن العوض لم يكونا حراما ولكن هذا القول خلاف النص والقياس كما سنذكره أو حرمه لما يشتمل عليه في نفسه من المفسدة وإن خلا عن العوض فتحريمه من جنس تحريم الخمر فإنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة... وهذا المأخذ أصح نصا وقياسا نعم وأصول الشريعة وتصرفاتها تشهد له بالاعتبار) الفروسية (ص: 307)
المناقشة والترجيح :
لا شك أن هذه المسألة مشكلة، وبعد التأمل يظهر أن أقوى العلل العلة الأولى والأخيرة فيكون الترجيح بينهما:
أما العلة الأولى فالظاهر أنها ليست علة التحريم بمجردها، فإن مجرد التخمين الذي ليس معه مفسدة لا يحرم، ولهذا أجاز الشارع القرعة في مواضع مع أنها نوع من الحظ والتخمين.
وعليه تكون العلة الأخيرة هي أقوى العلل لاسيما وأن هذه العلة تشهد لها نصوص كثيرة كما تقدم في النقل عن ابن تيمية وابن القيم فهي علة معتبرة شرعا بخلاف علة التخمين.
وعلى هذا تكون الخلاصة كما يلي :
- كل لعبة تؤدي إلى العداوة والبغضاء أو الصد عن ذكر الله و التساهل في الصلاة وفساد القلب فهي حرام ، فمثلا اللعبة التي تسمى (البلوت) شديدة الشبه بالنرد فهي تسبب العداوة وتسبب الصد عن ذكر الله وتأخير الصلاة وترك الواجبات العائلية والسهر كما هو مشاهد غالبا فهي محرمة، أما اللعبة التي تسمى الطاولة فهي النرد بعينها.
- أما الألعاب اليسيرة التي لا تستغرق وقتاً طويلاً عادة ولا يعرف أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا تؤدي إلى العداوة والبغضاء مثل هذه الألعاب التي يستعملها الأطفال (كالتي يسمونها الدومينو مثلا) فلا حرج فيها إن شاء الله ؛لانتفاء العلة.
قال ابن تيمة ملخصا هذه المسألة :
(المغالبات ثلاثة أنواع:
فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} جاز بجعل وبغير جعل.
وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه: كالنرد والشطرنج: فمنهي عنه بجعل وبغير جعل.
وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة: كالمسابقة والمصارعة: جاز بلا جعل)
مجموع الفتاوى (32/ 227)
والله تعالى أعلم بالصواب