مشروعية الوقف
17 محرم 1438
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي

قال - تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]، إنها التجارة مع الله - سبحانه وتعالى - وهي الطريق الصحيح لتوصيل الإنسان العاقل إلى غايته المتمثلة في السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
ولقد سأل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل أنواع التجارة حتى يعملوا بها، فنزلت الآيات الكريمات من سورة الصّف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[ الصف: ١٠ - ١١ ] (1).
لقد فهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذا النداء القرآني جيداً واستوعبوا من معلّمهم ومرشدهم ومربيهم صلى الله عليه وسلم أسس هذه التجارة وآدابها وقواعدها فانطلقوا يتسابقون ويتنافسون إلى الخير وفي الخير، لقد شمّروا عن سواعدهم، وحملوا أرواحهم على أكفّهم، وخاضوا معارك كثيرة، إعلاء للراية، ونصرة للدين وتمكيناً له في الأرض، وسعياً للشهادة، وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليـه رضي الله عنهم.
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع المثل في البذل والعطاء والتضحية والتجارة مع الله، لكن يبقى ما فعله الصحابي الجليل ثالث الخلفاء الراشدين، وثالث العشرة المبشرين بالجنة، ورمز الحياء والكرم ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه يبقى- أنموذجاً من أروع النماذج الخالدة، وصورة لتجارة رابحة مع الله - سبحانه و تعالى - بدأت قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمان مع مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عندما أقدم عثمان رضي الله عنه على شراء «بئر رومة» ليوقفه للمسلمين فيشربوا منه بلا مقابل بعد أن كان يباع لهم بما يزيد على طاقتهم.
خليفة الجود ذو النورين عـــثمانا *** بدر الصحابة إنفاقا وإحسانا
نلــت المحبة في قلب النبي ومـن *** سواك بنتاه من أزواجه كـانا
لك الحياء الذي من صدقه خجلت *** ملائك الله لما فاض إيمانا(2)

لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون رضي الله عنهم المدينة استنكر المهاجرون ماءها إذ لم يكن فيها ماء عذب إلا ماء بئر رومة وكانت على الصحيح لرجل من بني غفار يسمى رومة الغفاري، وكان لا يسمح بالشّرب منها إلا بثمن فكان يبيع منها القربة بِمُدِّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «تبيعنيها بعين في الجنة؟» فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ» وفي رواية أنه قال : «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه (3)، من صلب ماله، ولم يميّز نفسه عن أحد من روّادها بل جعل دلوه مع دلاء المسلمين ابتغاء الأجر والثّواب الذي وعده به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
ولأن القصد والغاية كانت مرضاة لله رضي الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد استمرت هذه التجارة حتى يومنا هذا بل وستظل إلى ما شاء الله لها أن تدوم، وتعتبر البئر أول سبيل لسقي الماء في الإسلام، ولقد أثمرت هذه التجارة «البئر» أشجاراً ومزارع ومباني وحدائق بل أصبحت تمثل حياً كاملاً من أراضي أحياء المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم (4).
لله درك في بذل وفي كــرم *** يا من تلوّن فيه الخير ألـــــوانا
بذلت نفسك للإسلام تنـــصره *** والمالُ ترسله حباً وقـــــربانا
يا من له بيعة الرضوان قد عقدت *** والمؤمنون جنوا عفوا وغفـرانا
وكفُّ أحمد قد نابـت مــبايعــة *** عن كفه فغدت يمناه عـــثمانا(5).
وإن من أعظم الصدقات والأوقاف ما كان في سقيا الماء، جاء في الحديث عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم وعليك بالماء »(6)،وجاء عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة سقيا الماء » (7).
بل إن الله - تعالى - يغفر للعبد الذنب بسبب سقيا الماء، ولو كان لبهيمة أو حيوان، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليهِ العطَشُ فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها فشرِبَ ثمَّ خرجَ فإذا كلبٌ يلهَثُ يأكلُ الثَّرَى منَ العطَشِ فقالَ الرَّجُلُ لقد بلغَ هذا الكلبَ منَ العطشِ مثلُ الَّذي كانَ بلغَ بِي فنزلَ البئرَ فملأ خفَّهُ ثم أمسَكهُ بفيهِ فسقى الكلبَ فشكرَ اللَّهُ لهُ فغفرَ لهُ قالوا يا رسولَ اللَّهِ وإنَّ لنا في البهائمِ أجرًا فقالَ في كلِّ ذاتِ كبِدٍ رطبةٍ أجرٌ» (8).
ويستقى مما سبق ما يلي:
• أن سقيا الماء من أعظم أسباب مغفرة الذنوب، وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب شرب ماء، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا ! بل كيف بمن حفر بئرا أو وفر برّاد ماء للمسلمين!!.
• أن البركة جند خفي من جنود الله - تعالى - يهبها لمن يشاء من عبادة، لذا على المسلم أن يسعى في الحصول عليها بالصدق مع الله وإحسان النية واللّجوء إلى الله - تعالى - وسؤاله قال – سبحانه - عن عيسى - عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: ٣١].
• الأثر البالغ والدور الكبير لناظر الوقف في نمائه وبركته وزيادته، لذا فإنّ على من تولى وقفا أن يسعى جهده في إصلاحه والعناية به كما يعتني بماله الخاص، بل أكثر من ذلك محتسباً الأجر من الله - تعالى - ومبتغيا الثواب منه - سبحانه-.
• أن الوقف في سبيل الله من أعظم أسباب دخول الجنة حيث رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في شراء بئر رومة ووعد من اشتراها أو حفرها بالجنّة.
• فضل الصّحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان من المبادرين والمسارعين إلى الخيرات.
----------
(1) ينظر : تفسير مجاهد: ( 2/671) ، جامع البيان:( 22/616 )، الدر المنثور: 14/448).
(2) من أنشودة بعنوان «ذو النورين» لمشاري العرادة.
(3) أخرجه البخاري(3/109).
(4) للاستزادة ينظر: بئر رومة , للدكتور عبدالله بن محمد الحجيلي الحربي.
(5) من أنشودة بعنوان «ذو النورين» لمشاري العرادة.
(6) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط:(8061). وصححه الألباني في الصحيحة برقم(2615).
(7) أخرجه أبو داود (1681 )، النسائي( 6/254-255 )، ابن ماجة (3684)، وحسنه الألباني.
(8) أخرجه البخاري (2363)، مسلم (2244) .