الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد، فقد سعى كثير من دعاة الاتجاه العقلاني والمتأثرين بهم إلى التهوين من النصوص الشرعية؛ ولذلك مظاهر من أهمها:
1-محاصرة النصوص الشرعية بهالة من القيود والمخصصات:
فالكاتب "فهمي هويدي" مثلا يطالبنا بعدم المسارعة بالاستدلال بالنصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، حتى ننظر بشأنها: هل هي تشريعية أم غير تشريعية؟ ثم ننظر إلى عللها والمصالح التي قامت عليها تلك الأحاديث، وهل المصلحة واردة في زمن ومنتفية عن الزمن الآخر؟ وهل الإجراء أملته الضرورة في مرحلة ما؟(1).
إلى غير ذلك من المخصصات المحدثة التي ينادي بعضهم بها، والتي تؤدي إلى إبطال العمل بكثير من التشريعات الإسلامية بدعوى أنها من السنن غير التشريعية، وأنها مؤقتة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن تشريعا عاما(2). وهي في حقيقتها تحكم بالأهواء وإلاّ فقواعد الفقه مستقرة في التمييز بين الخاص والعام، والتشريع الخاص بالرجل أو المرأة أو النبي أو غير ذلك والتشريع الكلي العام الذي هو الأصل الملتزم ما لم يقم دليل على خلافه كما قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [النساء: 105]، فلم يستثن أحداً من الناس من كان حاضراً ومن سيحدث بعدهم، وبين في آية أخرى أنه ما أرسل الرسل إلاّ ليطاعوا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) [النساء: 64]، وهؤلاء يقولون إذا جاءنا بأمر توقفنا ولم نطعه حتى نعلم أنه تشريع! وهل أرسلت الرسل إلاّ لذلك! قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7]، فهذا هو الأصل العام أن كل ما جاءنا منه صلى الله عليه وسلم وجب أخذه، والعمل به، وكل ما نهانا عنه وجب تركه والانتهاء عنه، يشمل التشريع كل الناس حتى الأنبياء أنفسهم ولهذا قال شعيب: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هود: 88]، ثم إذا قام دليل خصوصية التزم، أما التوقف أو التحكم بالهوى والتشهي فخلاف أصل عموم الرسالة، وخلاف مقتضى الإيمان بالرسل فإن من مقتضيات شهادة الرسالة طاعة الرسول فيما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر.. في أمور السياسات والمعاملات والعبادات وكل شؤون الحياة.
2- التشكيك والتأول في التعامل مع النص:
فكل نص يتقاطع مع مقرراتهم العقلية يكون نصيبه التشكيك به، أو تكلف تأويله بما يتفق مع مسلماتهم، ومثال ذلك واضحٌ في تعامل المدرسة العقلية الحديثة التي تزعمها "محمد عبده"، وسار على نهجها دعاة الإصلاح العقلاني المعاصر، في تعاملهم مع الغيبيات، ونصوص الولاء والبراء وغيرها.
وعقولهم في الغالب خاضعة لضغط واقع معين، ومصلحة آنية بخلاف ما جاءت به الرسل، فإن الشرائع النبوية تراعي المصلحة العامة ولأجل ذلك وضعت، المصلحة المنفكة عن ضغط واقع معين، والواجب على المسلم تطويع الواقع للشريعة، وإصلاحه بها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فإن عجز عذر في القدر الذي عجز فيه وبقي الباطل باطلاً في الحكم يعذر في تركه كذلك إلى حين القدرة، لكن لا عذر له في جعل الشريعة نفسها بسبب الرضوخ للواقع تارة اشتراكية وتارة رأسمالية وتارة لبرالية وتارة مَلَكِية وهلم جراً!
3- غلوهم في الدعوة إلى فهم المقاصدي للنص:
حتى لا تقف النصوص عقبة أمام مقرراتهم، لذلك دعا أصحاب الاتجاه العقلاني المعاصر إلى اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام، وأن تفهم النصوص وتأول على ضوء المقاصد الكبرى للإسلام(3)، وأن يحكم على الأخبار صحة وضعفاً لا حسب منهج المحدثين في تحقيق الروايات، وإنما حسب موافقتها ومخالفتها للمقاصد.
يقول الدكتور "حسن الترابي": (ومن الدعاة من يؤثر ألا يلتزم بمنهج مقيد، بل يظل طليقاً من الآراء ما يناسبه، ويتخذ من مصادر فكره وطرائقه حيث شاء في صفحات الكتب، ويعرض آراءه حسبما يتناسب مع الموقف في إطار الالتزام بالإسلام عامة.
وبعض الدعاة يتخذ منهجاً واسعاً لا ينطلق إلا من روح الإسلام العامة، ومقاصد الدين الكلية)(4).. وحاصل هذا أن ما جاءت به الرسل من تفاصيل الشرائع والأحكام ليست لنا به حاجة، والتعويل على المقاصد وما ترشد إليه العقول، وفي ذلك من معارضة النصوص المتظاهرة الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجعل رد هذه الدعوى ضرورياً عند المسلم.
التهوين من عقيد السلف
أما التهوين من أمر السلف فيعد من أبرز السمات لدى بعض أصحاب هذا الاتجاه، فتارة يصفون عقيدة السلف بالجمود والرجعية، وتارة أخرى بالتكفير والغلو.
يقول "فهمي هويدي": (تيارات تكفير المجتمع وجماعات الغلو والتشنج والهلوسة باسم الدين –يقصد بهم دعاة السلفية-، هؤلاء جميعا لم يظهروا إلى الوجود إلا في المرحلة التي صودرت فيها حرية العمل الإسلامي الشرعي)(5).
ودأب الدكتور "أحمد كمال أبو المجد" في كتاباته على التقليل من شأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وانتقاد منهجهم، والزهد بعلمهم، والتنصل من أقوالهم واجتهاداتهم.
ومن ذلك على سبيل المثال قوله في الدعوة إلى التحديث التوسع في باب الاجتهاد: (أما اجتهاد القدماء من السلف فإنه يظل تجربة غير ملزمة... وتاريخ المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا تأريخ أمة من البشر عامر بالخير والشر معاً، فإلى جوار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، عاش أبو جهل وأبو لهب وأميه بن خلف، وإل جانب العدل الذي قام عليه الحكم في أيام الخلافة الراشدة وجدنا من يصف الحاكم بأنه ظل الله في الأرض.... وكما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، خلف من بعدهم خلف رجعوا كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعض، وصار بأسهم بينهم أشد من بأسهم على عدوهم... تلك إذن أمم قد خلت لها ما كسبت ولنا اليوم ما كسبنا، والتراث تجارب، واجتهاد السلف سوابق، والحاضر لا يصلح له إلا اجتهاد جديد)(6).
ويصنف "أحمد كمال أبو المجد" عناصر الجمود التي أراد مواجهتها إلى أربعة تيارات معاصرة، ويجعل على رأسها "التيار المحافظ" الذي يعرّف منهجه بأنه منهج السلف الذي هو: (التزام ما انتهى إليه الأولون من السلف من آراء ومواقف وأحكام؛ لاينكر جواز الاختيار بينهما ولكنه يرى في تجاوزها تجاوزا للإسلام وابتداعاً فيه، وفتحاً لأبواب الهوى وتحكيماً للمعقول في الشريعة، وقد جاءت حاكمة للناس لا محكومة بعقولهم وأهوائهم...)(7)
ويمتد رواق السخرية لدى أبو المجد ليصم دعاة السلفية بالحرفية والجمود، ويسخر منهم بقوله: (الشورى غائبة عن أكثر دول العالم الإسلامي، التقدم الاقتصادي ناقص جدا، التبعية تكاد تلف العالم الإسلامي من أوله إلى آخره، الجهل ونسبة الأمية عالية جداً، وتجد دعاة على المنابر لا تهتز في رأسهم شعرة للقمع ولا لغياب الشورى، ولا للتأخر، ولا للتبعية، مشغولون بقضيتين: تقصير الثوب ومنع الموسيقى!
كنا في اجتماع للجنة محترمة تابعة لليونسكو، نناقش موضوع الموسيقى، علماء موسيقى أتوا من المغرب، ومن تونس، ومن ليبيا، ومن الأردن، ومن مصر، ومن سوريا، وإذا بشاب ملتح –بالمناسبة أنا دائماً أقسم اللحى قسمين: لحى ودية ولحى عدوانية- يدخل وبيده ورقة كبيرة جداً قائلاً: أخرجوا أولادكم من المدارس التي تعلم الموسيقى، لماذا؟ من قال لك: إن الموسيقى حرام؟ غلبتني لغة السجع، فقلت له: سيدي الموسيقى حلال كالماء الزلال!....)(8).
ويحذر الدكتور "محمد عمارة" من مذهب السلف، ويصفه بقوله: (نحن في مواجهة خطر السلفية النصوصية)(9).
وفي هذا الكلام من الجور وعدم الإنصاف لأعمق هذه الأمة علماً وأقلها تكلفاً وأهداها سبيلاً ما لا يخفى، ويكفي في رده أمر الله لنا باتباع سبيل أولئك السلف المرضيين كما قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]، والغرض هنا بيان مقالة القوم وسوء رأيهم في من أثنى الله عليهم، وبين أن الفلاح سبيلهم وسبيل من اتبعهم! (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157]، وخلاصة دعوى هؤلاء أن نترك اجتهاد السلف المرضيين المفلحين الذين أثنى الله عليهم لنتبع فهم هؤلاء المحدثين واجتهادهم الذي حاصله التحريف للنصوص بالأهواء والآراء، فليست المسألة عندهم اجتهادات السلف غير ملزمة والنص هو الملزم، فالسلف لا يجتمعون على مخالفة النص هذا مجرد فرض متوهم! لكن حاصل دعوتهم اجتهادات السلف فهم غير ملزمة، وفهمنا المحدث الجديد هو الحق الملزم! فإن لم توافقهم وبينت بطلانه فأنت رجعي وفيك وفيك! وحاصل هذا إزراء بالأمة وادعاء لاجتماعها في الماضي على ضلالة! وعدم احترام لعقول غيرهم من معاصريهم، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115]، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
---------
(1) انظر: "مواطنون لا ذميون"، فهمي هويدي (178- 180).
(2) انظر مثلا على ذلك في كتاب "التدين المنقوص" لفهمي هويدي (187)، حيث أبطل من الأحكام، بسبب أنها غير تشريعية في نظره، و"السنة التشريعية وغير التشريعية"، لمحمد عمارة ومحمد العوا، حيث قاما بتحجيم كثير من الأحكام الشرعية، والدعوة إلى الاجتهاد المعاصر فيها؛ بدعوى أنها من السنن غير التشريعية.
(3) كـ (العدل، والحرية، والمساواة، والانسانية،... وغيرها) انظر: "تحليل العناصر المكونة للظاهرة الإسلامية بتونس"، للغنوشي (78).
(4) "تجديد أصول الفقه "، الترابي (10).
(5) "مجلة العربية"، العدد (265)، (ص 25-26)، ونجده يسخر بشدة من أحد دعاة السلفية وهو "أبو إسحاق الحويني"؛ لاهتمامه بالسنة كما في "مجلة العربية"، العدد (290)، (ص 82-86).
(6) "حوار لا مواجهة"، د. أحمد كمال أو المجد (ص 242).
(7) "مجلة العربي"، مقال بعنوان "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر"، العدد (222)، الصادر في مايو 1977م، (ص16).
(8) "رؤية إسلامية معاصرة"، د. أحمد كمال أو المجد (ص 34).
(9) "نظرة جديدة إلى التراث"، د. محمد عمارة (ص 13)، وانظر: "الإسلام والمستقبل" د. محمد عمارة (249)