تشخيص الشك المدّعى وتمييز الدواء
23 جمادى الثانية 1438
إبراهيم الأزرق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن من المهم أن يميز الداعية بين نوعين من القلق اللذين ينتابان بعض الناس في أصول الدين وقضايا الإيمان، فإن من لم يحسن التشخيص لن يحسن العلاج!
فمتى طَلب منك قلِقٌ النقاش بدعوى الشك فميّز هل شكه حقيقي أو هو مجرد قلق وادعاء؟

 

ومن تجربة محدودة مع بعضهم وجدت أن الأكثر في المسلمين هو القلق، وأن ما هم فيه ليس شكاً على الحقيقة، وإنما هي خواطر غير مبنية على براهين، هو تشويش ووساوس وتحزين من الشيطان، وهم من شدة رفضهم لها يؤثر ذلك في نفوسهم ويحزنهم، وربما يأَّسهم وقنّطهم وذلك مراد عدوهم! وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: "وقد وجدتموه"؟ قالوا: نعم! قال: "ذاك صريح الإيمان"، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به! فقال: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة".

 

فمهما وجدت الشاكي واجداً في نفسه على ما يلقي الشيطان، ومتى نظرت إلى ما معه فلم تجد إلاّ وساوس وأفكاراً حائرة ليست مبنية على حجج وبراهين أو تبنٍ لبعض مذاهب الملاحدة الأفاكين من نحو الداروينية المتعصبين أو أدعياء الأكوان المتوازية أو غيرهم! فاعلم أن ما يلزمك إرشاده إليه هو العلاج الشرعي للخواطر التي تنتاب المسلم، وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إليه وحاصله إرشاد القلق إلى أن:

1- ينتهي عن الاسترسال، ويُعرض عن الخواطر فهي هواجس لا تستحق المناقشة.
2- يلتجئ إلى الله تعالى ويدعوه أن يصرف عنه تلك الوساوس، ويستعيذ به سبحانه من الشيطان.
3- يعلن الإيمان إرغاماً للشيطان بأن يقول: آمنت بالله.

 

ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل آمنت بالله"، وفي الرواية الأخرى: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته".

 

ثم ليتحصن بالأذكار ليسد الباب، ويغلّق على الشيطان مداخله، ومن خيرها ما تضمنته أوراد الصباح والمساء، فليحافظ عليهما، وليقبل على القرآن فإنه يطرد الشيطان، وفي تدبره الشفاء لمن ألم به طائف من مسّه.

 

وكل ما تقدم إذا كان السؤال سؤال إقلاق وتحزين، لا ادعاء فيه لدليل تشغيبي أو إقناعي على أنه ليس ثمة خالق، بل البرهان العقلي والدليل الفطري قائم عنده على وجود خالق موجد للأشياء، أولٍ ليس قبله شيء، وإن كنّا لا نعلم كيف، فعدم علمنا بذلك لا يؤثر في حقيقة أن المخلوق لابد له من خالق، والحادث لابد له من محدث، وأن الموجود إما أن يكون حادثاً بعد أن لم يكن وهذا دل العقل على أن له خالقاً أو موجداً، وإما أن يكون الموجود قديماً أزلياً وهذا دل العقل على وجوبه -بدليل المحدثات- وأنه ليس بمخلوق وليس له موجد، بل هو الخالق الموجد للأشياء، وإن جهلنا كنهه.

 

والمهم الأخير الذي يحسن أن ينبه عليه القلق ألا يدفعه ذاك القلق والاضطراب إلى تصرف مردي، استجابة للشيطان بتفلُّت من حدود الشرع، وقوعٍ في الكبائر ومقارفة للموبقات، فذلك هو الغرض الذي يريده منه عدو الله! فإن بدرت من المرء بادرة فليرشد إلى المبادرة بالتوبة والإنابة، وإرغام أنف الشيطان في كل مرة بالفيئة، والله غفور رحيم، والمرء على خير ما دام يرجع ويؤوب، وفي الحديث الذي رواه الطبراني وصححه الألباني: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْه, لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدُّنْيَا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا تَوَّابًا، نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ".

 

ومهما أتى العبد فعليه ألا يقنط من رحمة الله، وألا ييأس من رحمته ومغفرته وقبوله، وقد أثنى الله على قوم وأشاد بهم فلم يقل: إنهم الذين لا يذنبون! بل قال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران].

 

أما إن كان السؤال شكاً حقيقياً، فالاحتمال –لا الوهم- قائم عند صاحبه على وجود بلا موجد لدليل تشغيبي أو إقناعي أو لما يراه صاحبه برهاناً، فهنا لابد من بحث الشبهة، وإعادته إلى دليل الفطرة بالبراهين المبسوطة في كتب الأصول أو الكتب المعاصرة المعنية بذلك، وهي كثيرة أهمها قديماً وحديثاً كتاب الله عز وجل! ومخطئ من يظن أن الملحد لا يخاطب بالقرآن! بل مِنْ جَهْلِ بعضهم قولهم: هو كافر بالقرآن فكيف يخاطب بالقرآن؟!

 

وهل خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث بالقرآن إلاّ مشركين كافرين مكذبين به!
ولم يزل أهل الخبرة يقولون لم نجد في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام مثلَ القرآن.

 

وسبب ذلك ظاهر، فالكتاب والسنة قد جمعا أنواع الأدلة الصحيحة العقلية والفطرية والطبعية، فدليل الحدوث مقرر في القرآن على أحسن ما يكون، وكذلك قل في دليل التسوية والتقدير والتنظيم أو التصميم الذكي، وكذلك أدلة الحس الإعجازية وغيرها، كل ذلك مقرر في القرآن تقريراً محكماً في خطاب بديع يراعي العقل والروح، من خبير بنفس الإنسان وما يعتمل داخلها وما تقبل به وتدبر، أو تُشَغِّبُ به وتُراوغ!

 

ولهذا قال بعض العلماء: "إنّ كل ما صح ببرهان –أيَّ شيء كان- فهو في القرآن والسنّة منصوص مسطور، يعلمه كل من أمعن النّظر، وأيَّده الله تعالى بفهم. وما عدا القرآن وما يصح في السنة، فإنما هو إقناع [يريد الإلزام بمذهب المتكلم وإن كان باطلاً] أو شغب [كالمغالطات الخطابية]".

 

وقال غيره: " الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته"، وقال أيضاً: " من تدبر القرآن طالبا للهدى منه تبين له طريق الحق"، فلا تغفل أخا الدعوة عن الإرشاد إلى خير ما يهتدي به المهتدون، ولا عن الدعوة به، فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أعاذني الله وإياك من أسباب الغواية، وهدانا بالقرآن وهدى بنا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، والحمد لله رب العالمين.