الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد، فقد كنت أقرأ في ما كتبه بعض الغربيين المعاصرين للدولة السعودية الأولى عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ومنهم الشانئ للإسلام وفيهم المقتصد، وما لحظته اتفاقهم على وضوح دعوته، ووصفهم الجيد -في الجملة- لها، بل وحكمهم بكونها أقرب إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مما عليه كثيرون في دولة الخلافة دع البوادي وما شاكلها.
وهذا واقع في وصف من عرف الدعوة عن كثب ولم يكتف بالسماع من أعدائها، فإن الكتاب الغربيين في هذا الصدد صنفان: صنف حرص على مخالطة بعض أهل الدعوة وتفهم حقيقة دعوتهم، وصنف اكتفى بتدوين ما سمعه من عدوهم، فصور الدعوة وكأنها دين جديد، وهذا لا قيمة لكتابته والشأن في القسم الأول.
ثم لفت نظري في آخر كتاب الرحالة بوركهارت –وهو من أكثرهم إنصافاً للدعوة- إرفاقه نص الأصول الثلاثة (مترجمة) كنموذج لما وزعه القوم لما فتحوا الحجاز، كما لفت نظري في أثناء ما كتبه ملاحظته أهم الفروق بينهم وبين مخالفيهم.
وهنا تذكرت بعض من لم يعرف قدر كتيبات الشيخ الصغيرة! فتجلّت لي عبقريته وغفلتهم! انظر كيف استطاع أن يعرض دعوته جلية بحيث يفهما الغربي الذي يروم معرفتها دون كبير عناء، ويعرف الفرق بينها وبين غيرها!
إن تيسير العلم للناس هو الثمرة القريبة التي يرنوا إليها كل معلم يروم النفع ويحتسب أجره.
ومن عبقرية الإمام محمد في التأليف والدعوة خلوصه إلى تلك الثمرة برسائله الصغيرة كالثلاثة الأصول والقواعد الأربعة والمسائل الأربعة الملحقة بالأولى بل وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات.
هذا مع أن الناظر في كتاب التوحيد عرياً عن مسائله لا يخفى عليه ما في الأبواب وتتابعها من المناسبة التي تنم عن جودة تصنيف، مع ما في التبويب من فقه قريب، أما المسائل ففي بعضها فقه لايُدْرِك غوره إلاّ من أنعم النظر وأعمل الفكر، وربما نظر الباحث في شروح متأخرة فوجد أن بعض أصحابها جانفه الصواب في درك فقه الشيخ ومراده من بعض المسائل مع جلالة الشراح ومكانتهم.. وليس غرضي ذلك وإنما الغرض هنا الإشادة بعبقريَّته في تذليله المنهاج الأول الذي يحاول رد الأمة إليه، مع الإشارة إلى قدرة الشيخ وتفننه.
وقد سَدَّ رحمه الله بتلك المؤلفات الميسرة أجل ما يحتاجه الناس لإصلاح واقعهم، وعالج بها أعظم خطر يتهددهم، بتقريره أعظم الأصول.
أما أصحاب الغفلة الذين يستصغرون تلك (الكتيبات) فما حققوا، ومن حقق علم أن الشيخ صاحب مشروع أراد تقرير مبادئه في أمة عظم فيها الجهل وكثُرت البداوة.. وكثْرة البحث لاتناسب مشروعاً يروم نفع تلك الأمة.
ولو كان قصده التَّكثر بالعلم وإظهار القدرة بالتفريع فما كان أيسره! ومن نظر في ما للشيخ من الأسانيد، وما عنده من البحوث، ولما في انتزاعه لكثير من المسائل من إحكام النظر، عرف أنه ليس بعاجز عن تكثير البحث بالإنشاء والتشقيق!
ومن نظر أيضاً في علو كعب بعض تلامذته -المقدِّمِين له- في البيان والبحث علم أنه لو أراد تطويل البحوث وتحرير الخلاف بعد استيعاب الأقاويل لفعل، لكنه لايخدم غرضه الأهم ولا يسد واجب وقته. فكثرة البحث وتطويله بالاستقصاء لا تناسب عامة الناس، ولا تجدي كثيرا في المشاريع العملية التي تستهدف تغيير أمة وتجديد ملة.
وقد كانت رسائله موجهة إلى أمة غرب فيها التوحيد الخالص، وعظم فيها الجهل بالأصل الأول، لتعلمها أهم المهمات في حقها، وقد أنجحت الرسائل مقصوده كثيراً، وعلى الدعاة اليوم الاستفادة من طريقته في إيجاد رسائل مُيَسَّرات تعالج إشكالات أمتنا المعاصرة! يسهل عرضها عبر وسائل الإعلام وأدوات العصر التي تناسب أبناء الجيل.
إن المعرفة بما يلائم الأمة ويعالج إشكالاتها مهمة تحتاج إلى علم راسخ وعبقرية كعبقرية الشيخ، وقبل ذلك توفيق من الرحمن.
إن الراسخ الصادق لايتخذ من التأليف مجالا للاستعراض المعرفي، بل يؤلف لغرض، وعبقريته في مواءمة التأليف لينسجم مع ذلك الغرض، والمحقق يدرك ذلك بالنظر فيعظم التأليف وإن صغر حجمه، أو يستصغره وإن عظم جسمه وأحكم بناؤه!
ومع الأسف فإن كثيرا من تآليف المعاصرين الفكرية نخبوية وُضِعت لتخاطب أقواماً أصحابَ جدل، وهم مع قلَّتهم قل أن ينتفع المناقَشُ منهم، فتبذلَ الجهود ويَضْعُفَ المردودُ، وقد يكون مقتضى العقل في توجه آخر!
وختاما إني لأحمد الله عند مطالعة بعض بحوث أهل الضلالة الذين همُّهم أن يَصُفَّهم الدهماء في عداد العظماء! إذا رأيتُ فيها من التفيهق وتكلف التعسير والإغراب والاستعجام ما يجعلها تعزب عن أفهام العوام فسبحان من وفق الإمام وخذلهم!
والحمد لله رب العالمين!