طرق إثبات رمضان
2 رمضان 1438
أ. د. عبد الله الزبير عبد الرحمن

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد(*):

 

فجاء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقان لإثبات الشهر المعظّم، هما: طريق الرؤية، وطريق التقدير.

 

الطريق الأول: طريق الرؤية:

فالرؤية هي الأصل المتفق عليه بين الناس في إثبات هلال رمضان وشوال، وقد جاء الأمر بالرؤية صريحاً في السنة الشريفة وواضحاً في القرآن الكريم، ففي القرآن الكريم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. و{شَهِدَ} فيه معنى الشهود أي الحضور، وفيه معنى الشهادة والمشاهدة وهي الرؤية، فالرؤية سواءٌ أكانت بالمشاهدة أو بسماع الشهادة بالرؤية يصحّ إثبات الشهر بها.

 

وفي السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم أحاديث، منها:

1 – قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه"(1).

2 – وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"(2).

3 – وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا.."(3).

 

أما الرؤية في الأحاديث الشريفة فهي الرؤية البصرية غالباً، لأنها كانت المتاحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الأصل المتفق عليه بين الأمة.

 

والطريق الثاني: التقدير:

وفي مراده ومعناه اختلف العلماء إلى أربعة أقوال:

القول الأول: إن التقدير من القدر وهو العدّ، فيكون بإكمال عدة شعبان ثلاثين، والمعنى: قدّروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً. وهذا القول هو مذهب الجمهور "الحنفية والمالكية والشافعية" جمعاً بين الحديثين السابقين: حديث "فإن غم عليكم فاقدروا له" وحديث: "فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

فقالوا: الحديث الأول مجمل، فجاء الحديث الثاني مفسراً له، فأراد بالتقدير في الحديث الأول إكمال عدة شعبان ثلاثين كما نصّ الحديث الثاني.

 

والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة وطاووس اليماني رحمهم الله، فذهبوا إلى أن التقدير هو التضييق(4)، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16]، أي ضيّق عليه رزقه، وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، والمعنى: من ضيّق عليه رزقه، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي يضيق.

 

هذا المعنى هو ما قالت به عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وابن عمر رضي الله عنهما كما روى عنه نافع رحمه الله أنه رضي الله عنه إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً بعث من يتحرّى، فإذا لم يُر الهلال، وكانت السماء صحواً، أفطر، وإلا أصبح صائماً(5).

 

ومعنى التضييق أن يضيّق الشهر بسبب الغيم فيجعل شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً إذا كانت السماء غيماً، لاحتمال أن يكون عدم الرؤية بسبب غياب الهلال وراء الغيوم وأن معنى "فاقدروا له" أي فقدروه تحت السحاب، وعلى أن الأصل في الشهر القمري أنه تسعة وعشرون يوماً، ولعلهم أخذوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون ليلة، لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، إلا أنْ يغمّ عليكم، فإن غمّ عليكم فاقدروا له"(6)، وحديث ابن عمر أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، عشراً وعشراً وتسعاً"(7).

 

والقول الثالث: إن التقدير هو النظر والتدبّر، من قدّرت الأمر إذا نظرت فيه ودبرته، ويكون هنا بالنظر في الشهور السابقة لشعبان، فإن كان توالى منها ثلاثة أشهر كاملة عمل على أن شعبان ناقص، أي تسعة وعشرون يوماً، فيصبح الناس صياماً، وإذا كان توالى ثلاثة أشهر قبل شعبان ناقصة أي تسعة وعشرون يوماً، اعتبر شعبان ثلاثين يوماً فيصبح الناس مفطرين، لأنه لا تتوالى أربعة شهور ناقصة ولا كاملة إلا في النادر، وإن لم تتوالَ الشهور السابقة لشعبان كملت عدة شعبان ثلاثين، لأنه اليقين.

هذا في الصيام، أما في الفطر؛ فلا يؤخذ بالتقدير الذي يُظنّ فيه أن رمضان ناقص(8).

 

القول الرابع: إن المراد بالتقدير في الحديث حسابا لمنازل، فمعنى: "فاقدروا له" أي قدِّروه بمنازل القمر.

وهؤلاء جمعوا بين القرآن والسنة، وقالوا: السنة مفسرة للقرآن وموضحة له كما أن القرآن موضح للسنة، ولا تعارض بينهما، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" أي للهلال، موافق لقول الله تعالى في شأن القمر {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]. وتقدير المنازل كما نصّ القرآن موصل للعلم، فيكون التقدير بالحساب.

 

وهذا مذهب: مطرِّف بن عبد الله بن الشخير من جلّة التابعين، وابن قتيبة من المحدثين، ومن الفقهاء: ابن سريج وابن دقيق العيد والسبكي من الشافعية، وحكي عن الإمام الشافعي، وبه قال بعض الحنفية كما جاء في الفتاوى الهندية، كما ذكره ابن عابدين في رسالته "تنبيه الغافل والوسنان في أحكام هلال رمضان" وفي حاشيته على الدر المختار، وهو قول بعض المالكية البغداديين. وهو قول القاضي عبد الجبار ومحمد بن مقاتل الرازي وغيرهم.

 

ومن المعاصرين: المحدث العلامة أحمد محمد شاكر، ومحمد رشيد رضا، وطنطاوي جوهري، ومصطفى أحمد الزرقا. ومن شيوخ الأزهر: الشيخ المراغي، والمطيعي مفتي الديار المصرية في زمانه، وجاد الحق علي جاد الحق، وهو رأي الشيخ علي الطنطاوي، ومحمد سلامة جبر، والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم(9). والله تعالى أعلم.

 

________________________________

(*) هذا البحث أصله فتوى مفصلة أجاب فيه الشيخ على سائل كما هو موجود في كتاب سؤالات للصائمين للمؤلف حفظه الله وقد أذن لنا مشكوراً بنشره. وكان السؤال:

في كل عام حين يقرب مجيء شهر رمضان المعظّم يطلب مجمع الفقه الإسلامي من الناس التحري ورؤية هلال شهر رمضان، فأحياناً يعلنون أنهم رأوا الهلال، ومرات يعلنون أنهم سيكملون شهر شعبان، أرجو أن تبينوا لنا طرق إثبات دخول شهر رمضان حتى نكون على علم ومعرفة، جزاكم الله خيراً.

  1. أخرجه البخاري كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" برقم 1906، ومسلم كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، برقم 2495-1/3، ج7 ص188 بشرح النووي، والنسائي كتاب الصوم باب ذكر الاختلاف على الزهري برقم 2120. واللفظ لمسلم.
  2. أخرجه البخاري الكتاب والباب السابق، برقم 1909، ومسلم نفس الكتاب والباب السابق، برقم 2512-19/18، ج7 ص193 بشرح النووي.
  3. أخرجه مسلم كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، برقم 2510، ج7 ص193 بشرح النووي، والنسائي كتاب الصيام باب ذكر الاختلاف على الزهري برقم 2118، وابن ماجة في الصيام باب إكمال شعبان ثلاثين.. برقم 2116، 2117.
  4. راجع: شرح النووي لصحيح مسلم، ج7 ص189.
  5. انظر: التمهيد لابن عبد البر، ج14 ص348، ومصنف عبد الرزاق، ج4 ص161، والسنن الكبرى للبيهقي، ج4 ص209.
  6. مسلم كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، حديث رقم 2502-9/8، ج7 ص190 بشرح النووي.
  7. مسلم كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان، برقم 2505-12/11، ج7 ص191 بشرح النووي.
  8. يراجع: العذب الزلال، للمراكشي، ج1 ص294.

راجع الأقوال كلها في: حاشية ابن عابدين (رد المختار على الدر المختار) ج2 ص91-93-96-97، والمبسوط للسرخسي ج4 ص61، والبحر الرائق لابن نجيم ج6 ص160، وحاشية الطحطحاوي على مراقي الفلاح ج1 ص435، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو ج2 ص452، وشرح النووي لصحيح مسلم ج7 ص188-189، وفتح الباري ج4 ص146-147، والاستذكار لابن عبد البر ج10 ص16/19، والتمهيد لابن عبد البر ج14 ص350، وروضة المستبين في شرح كتاب التلقين، لابن بريزة السنوسي ج1 ص515، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد، ج2 ص8 حديث رقم 179، ونهاية المحتاج للرملي ج3 ص148، وأوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباته بالحساب الفلكي، للمحدث أحمد محمد شاكر، وفقه الصيام، د. يوسف القرضاوي ص89 وما بعدها، والفتاوى الشرعية محمد سلامة جبر ص56-58، مكتبة عالم ثقافة الطفل الكويت الطبعة الأولى 1409هـ -1989م، وفتاوى علي الطنطاوي، دار المنارة جدة السعودية ص221، تعيين أوائل الشهور القمرية بين الرؤية والحساب، أ.د. محمد الهواري، ص24 وما بعدها.