الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد(*):
فالتنظير هو إجراء طبي يتيح للطبيب النظر في المنطقة المعديمعوية: المعدة والاثني عشر وجزء بسيط من الأمعاء الدقيقة، وذلك بواسطة أداة تسمى المنظار. ويستفاد من إجراءات التنظير في تشخيص الاعتلالات الجسدية، وفي الكشف عن بعض الأمراض كالسرطانات، وفي استئصال الأجرام الغريبة، وفي معالجة العديد من الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي العلوي، والقناة الصفراوية والبنكرياس.
والتنظير أنواع عديدة تختلف باختلاف العضو المراد تنظيره، والذي يعنينا في هذا المبحث هو التنظير الهضمي الذي يتم عن طريق الفمن وهو نوعان: التنظير الهضمي العلوي للمنطقة المعديمعوية Esophagogastroduodenoscopy (FGD)، والتنظير الهضمي للقناة الصفراوية وقناة البنكرياس Cholangiopancreatography (ERCP).
يقوم التنظير العلوي (EGD) بفحص بطانة الجزء العلوي من المسلك المعديمعوي والذي يتكون من المريء، المعدة والإثني عشر، وذلك باستخدام المنظار، وهو عبارة عن أنبوب رقيق مرن قطره نصف بوصة وطوله كافٍ لأن يدخل من الفم وعبر المعدة إلى الإثني عشر(1)، وهو مزود بعدسة تصوير ومصدر للإضاءة ويرسل الصور التي يقوم بالتقاطها إلى شاشة تليفزيونية.
كذلك فإن في هذا الأنبوب عدة ثقوب في نهايته لتمكن الطبيب من ضخ الهواء في الأمعاء، أو رش الماء لتنظيف عدسة التصوير، أو شفط الماء أو الهواء(2).
ويساعد التنظير الهضمي العلوي الطبيب على تقييم الأعراض المستمرة للآلام في أعلى البطن، الغثيان، القيء، أو صعوبة البلع، كما أنه وسيلة فاعلة للبحث عن سبب النزف في الجزء العلوي من المسالك الهضمية، بالإضافة إلى أنه أكثر دقة من أشعة إكس x-ray لتقصي التهابات، وقرحات وأورام المريء، والمعدة والإثني عشر.
كذلك فإن التنظير العلوي يمكّن الطبيب من أخذ عينات (خزعات) يستعملها للتفريق بين الأنسجة الحميدة والأنسجة المميتة (السرطانية).
وأضف إلى كل ما سبق فإن الطبيب بإمكانه معالجة بعض الحالات المرضية في الجزء العلوي من الجهاز الهضمي وذلك عن طريق إدخال الأدوات اللازمة بواسطة المنظار ومعالجة الكثير من الحالات المضطربة فوراً بالقليل من الألم أو بعدمه، كتوسعة المناطق الضيقة أو المسدودة، إزالة النتوءات اللحمية في القولون Polyps، أو معالجة النزيف(3).
كيف تتم عملية التنظير؟
يُطلب من المريض الصوم عن الطعام والشراب قبل إجراء عملية التنظير بسب ساعات على الأقل، وقبل إجراء العملية قد يُعطى المريض مسكناً عن طريق الأوردة(4)، ثم يقوم الطبيب برش مخدر موضعي في حنجرة المريض لتجنيبه التقيؤ أو السعال – كردة فعل طبيعية – أثناء إدخال المنظار، وبعد ذلك يستلقي المريض على جنبه الأيسر ويقوم الطبيب بتميرير المنظار عبر فمه ومنه إلى المريء والمعدة، ثم الإثني عشر(5)، ويوجه الطبيب المنظار بتحريك الطرف الخارجي منه عن طريق جذبه ودفعه، وتوجيه الطرف الداخلي بجهاز للتحكم.
وأما تنظير القناة الصفراوية والبنكرياس (ERCP) فيساعد في تشخيص وعلاج المشاكل المسببة لليرقان أو آلام البطن.
ولفهم كيفية هذه المساعدة فإنه علينا أولاً معرفة بعض الأمور المتعلقة بالقناة الصفراوية والبنكرياس.
الصفراء هي عبارة عن مادة تفرزها الكبد وتساعد على هضم وامتصاص الدهون. وتنتقل الصفراء من الكبد عبر مجموعة من القنوات تسمى القناة الصفراوية، أحد هذه القنوات ويسمى القناة المرارية تصل المرارة بالقناة الصفراوية الرئيسية، تختزن المرارة مادة الصفراء بين الوجبات ثم تفرغها في القناة الصفراوية بعد حرق الطعام، وبعد ذلك تقوم القناة الصفراوية المشتركة بإفراغ العصارة الصفراء في الإثني عشر حيث تخترقه عند منطقة ذات شكل حلمي تسمى الحلمة Papilla، وهناك تنضم القناة الرئيسية قادمة من البنكرياس إلى القناة المشتركة لتمر عبر الحلمة، وهذا الممر يتيح الفرصة للعصارات التي يفرزها البنكرياس للاختلاط بالطعام في الأمعاء.
الكثير من المشاكل التي قد تؤثر على شبكة البنكرياس والقناة الصفراوية من الممكن تشخيصها وعلاجها عبر التنظير الخاص بها ERCP.
مثلاً، يفيدنا الـERCP في حالة وجود انسداد في القناة الصفراوية أو تضيقها بسبب الحصوات المرارية، أو الأورام، أو الندوب، ومثل ذلك يقال في انسداد القناة البنكرياسية بسبب الحصوات أو الأورام والتي يمكن تشخيصها أو علاجها بواسطة ERCP.
كيف تتم عملية التنظير للقناة الصفراوية والبنكرياس؟
تشبه عملية التنظير للقناة الصفراوية والبنكرياس عملية التنظير الهضمي العلوي في الكثير من إجراءاتها، ففيها كذلك ينبغي على المريض ألا يتناول طعاماً أو شراباً قبل العملية بست ساعات على الأقل، ويُعطى المريض مهدئاً عن طريق الأوردة فيشعر المريض بالنعاس إلا أنه يظل متيقظاً وفعالاً أثناء العملية.
ثم يرش الطبيب مخدراً موضعياً في حنجرة المريض للتخفيف من الضيق الناجم عن إدخال المنظار إلى المريء ومنه إلى المعدة والإثني عشر.
في الإثني عشر يتثبت المنظار بالقرب من الحلمة Papilla حيث تفرغ القناة الرئيسية محتوياتها في الأمعاء، ثم تشق حقنة صغيرة طريقها عبر المنظار حيث توجه إلى القناة البنكرياسية أو القناة الصفراوية، وهناك تبث الحقنة صبغة خاصة في القناة المراد فحصها.
وبعد ذلك تستخدم أشعة إكس x-ray لأخذ الصور في المنطقة المصبوغة في القناة، وبهذه الطريقة فإن أي توسع، تضايق، أو انسداد في القناة سيظهر في الصورة.
وكذلك فإن بإمكان الطبيب معالجة بعض المشاكل التي يتم التعرف عليها أثناء التنظير كالحصوات التي تسد القناة البنكرياسية أو القناة الصفراوية المشتركة فيتم أولاً توسعة فتحة الحلمة Papilla ثم يدخل الطبيب جهازاً خاصاً لالتقاط الحصوة(6).
أثر التنظير الطبي في الصيام:
الكلام في عمليتي التنظير من محورين:
المخدر الموضعي الذي يرش في الحلق:
اتفق الفقهاء على أن كل سائل وصل إلى الحلق في فترة الصوم فإنه يفطر في الجملة(7)، وعلى هذا فإن رش المخدر الموضعي في حنجرة المريض يفسد الصوم لأنه جزء من الحلق ولا يمكن مجه لو وصل إليه لا يؤمن دخول أجزاء منه إلى المعدة.
دخول المنظار إلى الحلق ومنه إلى المعدة:
إذا كان لا بد من رش الحلق بالمخدر الموضعي ففيه الفطر على ما تقدم آنفاً.
لكن لو فُرض أنه أدخل المنظار بلا رش الحلق بالمخدر، فالذي يظهر اختلاف الفقهاء على قولين:
القول الأول: لا يفطر، وهو قول الحنفية، وقول خلاف المختار عند المالكية.
قال في بدائع الصنائع: "ولو أكل حصاة أو نواة أو خشباً أو حشيشاً أو نحو ذلك مما لا يؤكل عادة ولا يحصل به قوام البدن يفسد صومه لوجود الأكل صورة"(8)، وقد قال قبله بأسطر: "وكذا قالوا – يعني مشايخ الحنفية – فيمن ابتلع لحماً مربوطاً على خيط ثم انتزعه من ساعته أنه لا يفسد، وإن تركه فسد... وهذا يدل على أن استقرار الداخل في الجوف شرط فساد الصوم"(9).
وقال في الدر المختار بعد أن ذكر كلاماً شبيهاً بما تقدم: "ومفاده أن استقرار الداخل في الجوف شرط للفساد. بدائع"(10).
وقد قال ابن عابدين على ذلك: "قوله (مفاده) أي مفاد ما ذكر متناً وشرحاً وهو أن ما دخل في الجوف إن غاب فيه فسد وهو المراد بالاستقرار، وإن لم يغب بل بقي طرف منه في الخارج أو كان متصلاً بشيء خارج لا يفسد لعدم استقراره"(11).
والمنظار لا يستقر ويبقى طرف منه في الخارج فعلى هذا فالظاهر أنه لا يفسد الصوم.
وأما القول عند المالكية فقد نصوا على أن الجامد كالدرهم والحصاة إذا وصل إلى المعدة لا يفطر على خلاف المختار(12).
القول الثاني: يفطر، وهو قول كل من الشافعية والحنابلة، وهو المختار عند المالكية.
أما الشافعية فقد نصوا على أن الإنسان لو ابتلع طرف خيط وطرفه الآخر بارز أفطر بوصول الطرف الواصل(13).
وأما الحنابلة فقد نصوا أيضاً على أن من ابتلع خيطاً كله أو بعضه أفطر(14).
ولا شك أن المنظار بمنزلة الخيط(15).
وأما المالكية فقد نصوا على أن الجامد كالدرهم والحصاة إذا وصل إلى المعدة يفطر على المختار(16).
والذي يترجح أن عملية التنظير لا تفطر الصائم، لأنها تدفع بالمنظار عبر الفهم إلى الحلق إلا أنه لا يستقر فيه وإنما يقوم بمهمة التنظير ثم يُخرج.
لكن لو رُش المخدر في حنجرة المريض، أو جُعل على رأس الأنبوب مادة لزجة لتسهيل توجيه المنظار، أو قام الطبيب ببث الصبغة الخاصة بالأشعة فإن هذا مما يفطر لدخول مواد تستقر في الجوف ولا تخرج بخروج الأنبوب.
وإلى ذلك ذهب المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة: أن منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى فإنه لا يفطر(17).
______________________________
(*) بحث مستل من كتاب النوازل الفقهية المعاصرة المتعلقة بالتداوي أثناء الصيام للمؤلف حفظه الله.
(1) موقع الجمعية الأمريكية لمناظير الجهاز الهضمي على الإنترنت: American Society for Gastrointenstinal Endoscope www.asge.org.
(2) موقع مدرسة هارفرد الطبية على الإنترنت: The Harvard Medical School، www.health.harvard.edu.
(3) من بحث الدكتور حسان شمسي باشا في مجلة المجمع الفقهي، العدد العاشر، الجزء الثاني، ص256.
(4) موقع مدرسة هارفارد الطبية على الإنترنت www.health.harvard.edu.
(5) موقع الجمعية الأمريكية لمناظير الجهاز الهضمي www.asge.org.
(6) موقع الاتحاد الأمريكي لأطباء أمراض الجهاز الهضمي Association The American Gastroenterological www.gastro.org.
(7) بدائع الصنائع، كتاب الصيام، فصل في بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله 2/170، حاشية الدسوقي، كتاب الصيام 2/152، المعونة، كتاب الصوم، فصل فيما يجب الإمساك عنه 1/466، المجموع، كتاب الصوم، فصل: ما يحرم على الصائم فعله 6/335، المغني، كتاب الصوم، مسألة 489، 4/353.
(8) بدائع الصنائع، كتاب الصوم، فصل في ركن الصيام 2/149.
(9) المصدر السابق 2/148.
(10) الدر المختار، كتاب الصوم، باب ما يفسد الصوم وما لا يفسده 3/369.
(11) رد المحتار، كتاب الصوم، باب ما يفسد الصوم وما لا يفسده 3/369.
(12) المعونة، كتاب الصيام، باب الصوم الشرعي 1/468، الذخيرة، كتاب الصيام، باب في حقيقته 2/507، جامع الأمهات، كتاب الصيام ص172.
(13) المجموع، كتاب الصوم، فصل ما يحرم على الصائم 6/336، وفيه أن الحناطي حكى وجهاً أنه لا يفطر، ثم قال النووي: "والمشهور الأول"، وينظر أيضاً التهذيب، كتاب الصوم، فصل فيما يبطل الصوم 3/163، الوسيط، كتاب الصوم، باب الإمساك عن المفطرات، وتقدم ذكر ذلك في مناط فساد الصوم ص135.
(14) المبدع، كتاب الصيام 3/22، الفروع، كتاب الصيام، باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة 5/7، كشاف القناع، كتاب الصوم، باب ما يفسد الصيام 3/975، وتقدم ذكر ذلك في مناط فساد الصوم، ص142، 143.
(15) تقدم ذكر ذلك في مناط فساد الصوم، ص142.
(16) التاج والإكليل، كتاب الصيام 3/345، شرح الخرشي، باب الصوم 3/32، الذخيرة، كتاب الصيام، باب في حقيقته 2/507، حاشية الدسوقي، باب الصيام 2/151، وينظر ما تقدم في مناط فساد الصوم عندهم ص136.
(17) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص214.