مسألة مهمة وفيها دراسات عدة.
وفي هذه الورقة المختصرة لن أتطرق للخلاف، وإنما أحب أن أركز على مسألة، وهي أن المنقول عن الصحابة والتابعين يقوي مذهب المالكية، أن القصر في هذه الأماكن ـ لمن تلبس بالنسك ـ ليس للسفر، بل إتباعا للسنة ( أو يقال : القصر للنسك كما يعبر البعض ، لكن التعبير الأول أدق وأضبط).
جاء في كفاية الطالب الرباني (1/ 539) :
(والقصر بعرفة إنما هو للسنة وإلا فهو ليس بمسافة قصر في حق المكي وأهل المزدلفة ونحوهم)
وفي الشرح الكبير للدردير(1/ 36) : (ثم سُن القصر لمن ذكر مع قصر المسافة للسنة)
قال ابن عبد البر: ( وبما ذهب إليه مالك في هذا الباب قال الأوزاعي.
ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يصلوا في تلك المساجد كلها إلا ركعتين، وسائر الأمراء لا يصلون هناك إلا ركعتين، فعلم أن ذلك سُنَّةُ الموضع؛ لأن من الأمراء مكيا وغير مكي، وأن عبد الله بن عمر كان إذا جاوز(هكذا ولعلها : جاور) بمكة أتم، فإذا خرج إلى منى قصر.
وبه قال القاسم، وسالم، وإسحاق بن راهويه) الاستذكار (5/ 25).
وفيما يلي الآثار الدالة على قوة مذهب المالكية :
(1) روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قلت: لابن عباس أقصر إلى منى أو عرفة؟ قال: لا ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة. (إسناده صحيح).
فهنا ابن عباس يمنع القصر لمن خرج إلى هذه المشاعر في غير الحج، ولكنه يقصر هو وتلاميذه، وابن عيينه الراوي عنه، كلهم يقصرون في الحج.وهذا يدل على أن القصر في الحج ليس للسفر بل للنسك.
قال ابن تيمية معلقا على هذا الأثر : (ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى وابن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج ) مجموع الفتاوى (24/ 124)
و قال أيضاً : (وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج وكان أصحاب ابن عباس كطاووس يقول أحدهم: أترى الناس يعني أهل مكة صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) مجموع الفتاوى (24/ 125) ] يشار إلى أن ابن تيمية ينصر القول بأن سبب القصر السفر، كما هو معلوم، لكن أردت تحرير موقف ابن عباس فقط [
فتلخص من ذلك : أن ابن عباس يمنع المكي من القصر إذا خرج لهذه الأماكن في غير الحج ، ويبيحه للحاج، والفرق بين الصورتين ليس إلا إتباع السنة، في أن المحرم بالحج من المكيين وغيرهم يقصر في هذه الأماكن إتباعا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) عن حنظلة ، قال : سألت القاسم عن الصلاة مع الإمام بعرفة ؟ فقال : صل بصلاته ، فقلت : إني مكي ، قال : قد عرفت ، قال : وسألت سالما ، وطاوسا ، فقالا مثل ذلك.(إسناده صحيح).
ويلاحظ أن حنظلة يقول : ( إني مكي ) يعني أن المستقر في ذهنه أن المكي لا يقصر في هذه الأماكن، وأقره القاسم بقوله : (قد عرفت) ومع ذلك أفتاه هو، وسالم، وطاوس، أن يقصر في عرفة ، فهذا ظاهر أن القصر خاص بالحاج في عرفة إتباعاً للسنة.
(3) مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب لما قدم مكة، صلى بهم ركعتين ثم انصرف، فقال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا.( إسناده صحيح قال أحمد : إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل منه)
فهنا عمر يأمر بالإتمام في مكة دون منى ، بمعنى أن المكي وغيره يقصر في منى ، وليس في الأثر تصريح بالسبب، لكن قول سعيد :( ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا) يدل على أنه للنسك ؛ لأنه لو كان للسفر لم يحتج سعيد لهذه العبارة ؛لأنه من المعلوم أنه لن يقول لهم شيئا.
و أثر عمر صريح في أمرين :
1- أن المكيين يتمون في مكة.
2- وأنهم يقصرون في منى ، وفي هذا رد على الذين يرون أن أهل مكة أتموا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الباجي في المنتقى :
(وقوله ثم صلى بمنى ركعتين،ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا، الضمير راجع إلى أهل مكة، في قوله ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ؛لأنهم هم الذين جرى ذكرهم، وأما أهل منى فلم يجر لهم ذكر، ولا لها أهل لأنها ليست بدار استيطان وإقامة، وإن نسب إليها أحد فإنما ينسب من يقيم حواليها من الأعراب المنتقلين ،وإنما لم يأمرهم بالإتمام لما كان حكمهم التقصير الذي هو حكمه، وأمرهم بمكة بالإتمام لما كان حكمه الإتمام الذي يخالف حكمه في القصر، فنبأهم على ترك اتباعه في القصر) المنتقى شرح الموطإ (3/ 41)
وفي شرح الزرقاني على الموطأ :
(قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم صلى عمر) الرباعية (ركعتين بمنى، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا) فدل ذلك على أن أهل مكة يقصرون بمنى إذا حجوا، إذ لو لزمهم الإتمام لبينه لهم كما بينه في مكة، وزعم أنه تركه اكتفاء بالبيان بمكة ممنوع، وسنده أن الأصل عدم الاكتفاء في بيان الأحكام لا سيما مع اختلاف المحل) شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 547)
وقد علق ابن عبد البر على أثر عمر بقوله :
(وبما ذهب إليه مالك في هذا الباب قال الأوزاعي.
ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يصلوا في تلك المساجد كلها إلا ركعتين، وسائر الأمراء لا يصلون هناك إلا ركعتين، فعلم أن ذلك سُنَّةُ الموضع؛ لأن من الأمراء مكيا وغير مكي، وأن عبد الله بن عمر كان إذا جاوز(هكذا ولعلها : جاور) بمكة أتم، فإذا خرج إلى منى قصر.
وبه قال القاسم، وسالم، وإسحاق بن راهويه) الاستذكار (5/ 25).
وما نقله عن ابن عمر مهم جدا، فهو يفيد أن ابن عمر يرى أن المكي يقصر في المشاعر، ولو كان المكييون أتموا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخف ذلك على ابن عمر، كما هو معلوم إن شاء الله.
وأيضاً إذا كان ابن عمر يتم في مكة ويقصر في منى فقصره في منى ليس لأجل السفر بالتأكيد ؛لأنه صح عنه في البخاري معلقاً أنه لا يصح القصر في أقل من أربعة برد، ومنى بل عرفة أقل من ذلك، فقصره ليس للسفر بل إتباعاً للسنة.
(4) عن حارثة بن وهب الخزاعى - وكانت أمه تحت عمر فولدت له عبيد الله بن عمر - قال صليت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى بنا ركعتين فى حجة الوداع.(أخرجه مسلم ، وأبودواد، قال أبو داود : حارثة من خزاعة ودارهم بمكة)
قلت : بين أبوداود أن حارثة من خزاعة ودارهم بمكة، وحارثة له صحبة، و يعد في الكوفيين، ولعله انتقل لها من مكة ، و المهم هنا أن حارثة يذكر أن المكيين قصروا معه - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان القصر للسفر لم يكن لكلام حارثة معنى ؛ لأنه معلوم أنهم سيقصرون للسفر، فأي فائدة في كلامه، لولا أن القصر الذي كان منهم غير معتاد لمن خرج لمنى في غير الحج.
وقد بوب أبوداود على الحديث بقوله : (باب القصر لأهل مكة )
ولهذا قال ابن تيمية : (فأما منع قصر المكيين ، فهو مخالف للسنة الثابتة بلا ريب، وإنما خالف ذلك من غفل عن هذه السنة) جامع المسائل لابن تيمية (2/ 204)
تنبيه : كثير من الباحثين يذكر إيرادا على هذا القول خلاصته أنه يلزم من ذلك أن يقصر المكي في مكة إذا أحرم، وهذا غير وارد؛ لأنهم ـ أي المالكية ـ يقولون يقصر في هذه الأماكن فقط، إتباعا للسنة، والسنة دلت على القصر في هذه الأماكن دون مكة، فليس السبب مطلق النسك.
كما أن أثر عمر وابنه السابقين دليل على أن المكي لا يقصر بمكة.
الخلاصة : هذه الآثار تدل بمجموعها على أن القصر في المشاعر ليس معروفا لأهل مكة، إلا إذا خرجوا للحج، إتباعاً للسنة وليس بسبب السفر ـ لا سيما أثر ابن عباس فهو كالنص على هذا المعنى ـ وأن هذا معروف بين الصحابة والتابعين.
وبناء على ما سبق يكون أقرب الأقوال أن أهل مكة يقصرون في المشاعر في الحج إتباعاً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تدل عليه آثار الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم .