سجود الشمس تحت العرش ودعوى العلوم الحديثة!
1 محرم 1439
إبراهيم الأزرق

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فقد ثبت في صحيح البخاري عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه – أنّه قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِى ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ»؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ! فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس: 38]».

 

وبعض المشككين في السنّة أو الدين، يقولون: هذا يتعارض مع مقررات العلوم الحديثة القطعية! ثم يطعنون إما في السنَّةِ وإما في الرسول أو المرْسِل!
وكل ذلك جراء سوءِ تصوُّرِهم، بتكيفهم أمراً غيبياً ثم تماديهم في تكذيبه وإنما الكاذب ظنُّهم، وما تصوَّروه! والباطلُ فهمُهم وما توهموه.

 

وجواب إشكالهم في حرفين:
الأول: أن السجود في لغة العرب يأتي لمعاني، منها الخضوع.
والثاني: أن سجود كل شيء خضوع يختص به، ويكون لكل شيء بحسبه، يناسبه ويليق به.

 

مما يبين الأول قول الله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [الرعد: 15]، شمل العموم كلَّ عاقل في الأرض بمن فيهم الكافر الملحد، وليس المراد بالسجود هنا سجود المؤمن، بل المراد بالسجود هنا الخضوع لأمره الكوني وتدبيره وقدره ولهذا قال: (طوعاً وكرهاً)؛ فالخلق منقادون لتدبيره فيهم؛ صحة ومرضاً حياة وموتاً نشوراً وذبولاً طلوعاً وأفولاً وهلم جراً.

 

وأما الثاني: فمنه قول الله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل: 49]، فهنا السجود أخص من مطلق الخضوع، فظاهر التعبير بـ(ما) يفيد أنه خضوع مختص بالمخلوقات غير الموصوفة بالعقل من الدواب، ولهذا عطف الملائكة عليها، وهذا السجود كيفياته متباينة، قد نعلم بعضها ونجهل كثيراً منها، والآية التي قبلها جاءت بالمعنين؛ الخضوع التدبير والتسخير، والخضوع الأخص، وهي قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).

 

فسجود الدواب وما له ظل من النبات والجماد كل ذلك بحسبه، والعقل لا يملك دليلاً على نفيه، أما كيفيته فلم يأت بها خبر، ولم نعيِّنه فيما نشاهد؛ قد نرى أحوالاً للكائنات لكنا لا نعلم تفسيرها كما لا نفهم لغتها، وإن كنا ندرك أن لها تفاهماً مع جنسها، وكذلك لا نعرف كيف هو سجودها، وإن أُثرت أقوالٌ في سجود الجبال والأشياء الله أعلم بها حاصلها أنه شيء يحدث فيها، وهذا منقول عن بعض السلف ولعله مأخوذ عن أهل الكتاب، والمسلك الأحكم أن نفوض العلم بكيفيات ما لم يأت به خبر، أو يجر به نظر وقياس إلى عالمه سبحانه، والمهم أن نعلم أن العقل لا يحيله، وإن حار في إدراك وجهه! فالعقل لا يحيل مثلاً أن يكون ضرب من تصرف موج البحر المسخر سجوداً له كما نقل عن بعضهم، ولا كون ضرب من تمدد أو تقلص أجزاء الجماد كذلك لكننا لا نثبت شيئاً من ذلك سجوداً ولا ننفيه ونقول الله أعلم بحقيقة ذلك وكيفيته.

 

إذا علم هذا فسجود الشمس يأتي بالمعنيين المتقدمين، أما الخضوع بالتسخير والتدبير فواضح مشاهد لا يحتاج إلى شاهد، وأما إضافة سجود لها يناسبها، فهو من جملة تسخيرها وخضوعها، وهو المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفي نحو قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]، والحديث المذكور قد أخبر بأن الشمس تسجد في وقت وهو وقت الغروب، وذلك لا يعارض ما تقرر في العلوم الحديثة، فلا يستحيل أن يكون وقت غروبها باعتبار مكان المتحدث صلى الله عليه وسلم، هو وقت سجودها –والله أعلم كيف يكون ذلك السجود- والعرش سقف المخلوقات كلها فما من مخلوق إلاّ وهو تحته، ولايبعد أن تقرب منه الشمس وتبعد في أوقات دون أوقات، وهذه مجرد احتمالات لا نثبتها ولا ننفيها، والمهم أن لا نهجم بالجهل على النفي! وأن نفهم معنى السجود، وألا نتصور كيفية لم يأت بها الخبر ثم نزعم معارضة العلم الحديث للخبر! وإنما معارضته للكيفية المتوهمة بالجهل المركب.

 

وختاماً لابد من التنبيه على أن دعوى معارضة الشرع للعلم الصحيح بنحو هذا، محض غفلة وجهل بالشرع وبالمكتشفات! فأصل الشبهة لا تعلق له بمكتشفات العلوم الحديثة! فذكر العلم الحديث هنا دعوى خادعة وتمويه يُجْلَبُ به على المساكين كإجلاب بعضهم بذكر الدراسات والإحصاءات! أو سفه بعض من فتنوا بأمور دأبوا على حشرها في كل كلام وسياق دون وعي أو تمييز! وإلاّ فما هو مقرر العلم الحديث الذي لأجله يقال: انطلى الخبر على المتقدمين! ومَحَّصَه أصحاب العلوم المتأخرون! بل المتقدمون عالمون بما يعزوه الجهلة إلى أهل العلوم الحديثة! عارفون بأن سجود الشمس ليس مثل سجود الإنسان وأنه لا أنف لها ولا جبهة ولا يدان! لم يخبرهم بذلك آنشتاين ولا كان أول من تفوَّه به نيوتن! وهل هذا من المكتشفات الحديثة! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

 

والناس أيضاً من قديم العصور يدركون أن الغروب ينتقل في أجزاء الأرض لا يفتأ مخيما على بعضها، كل هذا وأكثر منه مقرر في علم الهيئة أو الفلك القديم! يدركه الناس في سالف الدهر قبل الإسلام! لكن لم يثر مثل هذا الإشكال عند الأولين، ولم ير فيه المشركون سانحة للطعن في الدين، لأنهم كانوا يفهمون الكلام!  كانوا أعقل لمدلول اللغة، وأعرف بمراد المتكلم فلم ينشأ عند أتباع الرسالة إشكال في التسليم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفه أعداؤها بما تسفه به فهومهم وعقولهم!

 

وأما المتأخرون فلجهلهم بمدلولات الكلام مع الغفلة والاغترار احتاجوا إلى كشف وبيان، ثم لحسن ظنهم بأنفسهم وسوء ظنهم بسلفهم، توهموا توهماً ساذجاً حاصله أن العلم الحديث اكتشف! أن الشمس لا تسجد كالإنسان! وأنها لا تزال تغرب على أجزاء من الكرة الأرضية! ولو اتسعت فكر هؤلاء يسيراً أو زادت معرفتهم قليلاً لعلموا أن ما يعرفونه مقرر معروف قبل الإسلام! وقد قرره علماء الإسلام من قديم الزمان! بل عد علماء الإسلام كروية الأرض وانتقال الزوال –ونحوه الغروب- فيها كالإجماع ونصوا على أنه لم ينكر ذلك: "أحد من نقلة الكتاب والسنة المستحقين لاسم العلم من الأئمة السالفين رضي الله عنهم أجمعين" وما بين الحاصرتين نص ابن حزم في القرن الخامس! فلو أحسن هؤلاء المتأخرون المتهوكون الظن بسلفهم، وتمعنوا في أقوالهم لكانوا أقرب لإدراك الحق وفهم الشرع، وترك الطعن بالجهل، والله هو الموفق (يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب).