إن أعظم القادة الذين يتأسى بهم هم رسل الله، أكمل الخلق إيماناً وعلماً وعملاً، وهم هداة الناس إلى كل خير، وقادة الأمم إلى ما فيه صلاحهم، ولقد أكثر القرآن من ذكر صفات هؤلاء الرسل، وذكر أخلاقهم وسجاياهم وأعمالهم وصبرهم، وأكد القرآن على أن جاذبية هؤلاء الرسل لا تنبعث من مغريات مادية، ولا جاه عريض أو لقب كبير، وليس عندهم مال يوزعونه، وليست لهم خزائن الأرض، ولا في أيديهم الأرزاق، وقد عرض القرآن صفاتهم ونفى أن تكون لهم لأكثرهم تلك المغريات، وواجه الأمم في ذلك، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: "وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ" [هود:31].
وقال تعالى: " وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً" [الفرقان:7-9].
إن هؤلاء السذج ربطوا بين الماديات ومغريات الحياة وبين الأحقية في القيادة والتوجيه الرشيد، وهذا ربط ساذج قديم كما قال بنو إسرائيل لنبيهم: "ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [البقرة: 246] فلما بعث لهم الله طالوت ملكا قالوا: "أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ" [البقرة: 247]! فبين لهم نبيهم أن ما ذكرتم من صفات تعيبونها عليه لا تمت بصلة إلى الصفات المطلوبة في القائد فقال: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 247].
وقد أبعد الله أكثر الرسل عن تلك المغريات وكذب الله ظن الظانين أن الرسل يجب أن يكونوا من أصحاب السلطان والجاه العظيم، "وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" [الزخرف: 31]. والذين قالوا: "لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً" [الإسراء: 90-93]. وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ" [الأنعام: 50].
نعم قد يؤتي الله بعض رسله من خزائن الأرض ما شاء كما آتى سليمان بن داود عليه السلام قال الله تعالى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" [النمل: 16، 17]، وقال تعالى: "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص: 35-39].
ولكن ليس هذا من شرط القائد، ولا من شرط منعه القيادة.
فالصفات المؤثرة صفات أخرى، وفرق بين أن نقول قد لا يملك القائد من كبير مال، وبين أن ننفي أن يكون القائد ذو مال أو قد فتحت له أبواب السماء والأرض.
والمعول على صفات وأخلاق هي التي يناط بها الحكم على نجاح القائد، ولذا فإن جاذبية القائد يجب أن تكون من أخلاقه وأعماله وارتباطه بالله سبحانه وتعالى، لا يريد جزاء ولا شكوراً، لا يجمع الأتباع بالمغريات المادية، أو بالمناصب يوزعها عليهم ولا بالمداهنة ومحاولة استمالة الجموع وستر أخطائها وإخفاء أغلاطها، وتجاهل مواضع ضعفها، فهذه قيادة مزيفة لا تستطيع أن تخفي عوارها طويلاً، وسرعان ما تنفض الجموع من حولها.
لقد أقام الله تعالى رسله الكرام عليهم السلام في مقام القدوة قال الله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ" [الممتحنة:4] وقال عز وجل: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21]، وقال الله تعالى لنبيه الكريم عندما قص عليه من قصص الأنبياء: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" [الأنعام: 90].
وبسبب هذه الأسوة فقد كملت شمائل هؤلاء الرسل، وعظمت همتهم ونجدتـهم وألقي في نفوسهم الاستعداد لاحتمال الآلام، والصبر على العظائم فلا يبطرهم نصر، ولا يطمعون في حياة خالية من الشدائد، يطلبون الحق ولو ضل عنه جميع الناس.
وعندما قرر القرآن بشرية هؤلاء الرسل، إنما أراد أن يتم الإقتداء بهم وأن يبطل حجة المعاندين المراوغين عن الحق، فهم بشر ينتابهم ما ينتاب البشر ويعتريهم ما يعتري الناس ولذا يصلح أن يقتدي بهم ويهتدي بهديهم لأن تجربتهم تجربة إنسانية وليست ملائكية.
وكما أن الرسل هم قادة الأمم فإن من سار على دربهم واقتفى أثرهم وقاد الناس بمنهجهم سيقود الأمم كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه قادة للأمم والشعوب بعد أن كانوا رعاة للبهائم.
إن للأنبياء منهجاً هو سر صلاحهم ونجاحهم في قيادة الناس للخير والأمم للسعادة، ومتى ما عمل أتباعهم به وترسموا خطاهم تحقق لهم ما تحقق للأنبياء الكرام من النجاحات العظام.