رمضان الطفولة

بابا رمضان رمضاني عليك نبيع سروالي" ـ تلك هي العبارة المشهورة التي كان يرددها الأطفال في شوارع مدينة مراكش وأزقتها، معلنين عن بهجتهم وفرحهم العارم باستقبال الشهر الكريم، لم أكن أعرف لهذه العبارة معنى غير أن رمضان شهر جميل يجب أن يضحى من أجل ولو كان ببيع أخر قطعة تغطي جسمي الصغير، أما الكبار فهم يتذكرون تلك الأحجيات التي تقص إٌقدام الناس على تقديم الطعام للفقراء كل سنة، حتى أن أحدهم لم يستطع تقديم ذلك في أحد الأعوام، فباع ملابسه من أجل ألا يفوته أجر إطعام المساكين...

كثيرة هي الذكريات الجميلة التي تربطني بهذا الشهر الجميل، لكن أجملها وقع في أول يوم صيام سنة بلوغي ولي من العمر آنذاك 13 سنة، وقد صادف رمضان ذلك العام شهر غشت، يعني عز الصيف وحرارته المفرطة في مدينة مراكش الداخلية، وقد تفرق الأهل والأحباب بين مشجع وبين مشفق. لكن ما وقع في ذلك اليوم الأول تركني أكمل الشهر بقليل من العسر وبكثير من المعاني الجميلة لعلها مازالت تعينني على صيام رمضان دون عناء كثير إلى الآن.

قبل بلوغي كنت أصوم نصف اليوم، وأخيطه مع نصف يوم آخر لأحصل على يوم كامل، وكنت أحرص على ذلك في أول يوم وفي ليلة النصف وليلة السابع والعشرين، لكن هذه المرة لم يعد من الأمر مفر فقد أصبحت رجلا أو هكذا قالت لي أمي. لقد كان الجو حارا جدا، وقد أمضيت يومي كله تقريبا في المنزل، وكان كلما تجمع ريق في فمي رميته في الحين مخافة إلى أبلعه فيفسد صومي بالرغم من إرشادات أمي التي كان تقول إن بلع الريق لا يفسد الصوم، حين مللت الجلوس في المنزل خرجت إلى الزنقة لألعب لعبتي المفضلة وما يزال في قليل من الجهد لكي أرمي بالكرة أو امسكها. لكن ما بدأ الأطفال حتى انخرطت في اللعب المجهد دون التفكير في العواقب.

حين انتهت المباراة واقتربت الشمس من المغيب، رجعت إلى البيت وكان من عادة أمي أن تهيئ مائدة الإفطار مبكرا، نجلس نحكي عن اليوم وكيف مر، ما وضعت أختي كؤوس الماء على الطاولة، وقد بلغ مني العطش مبلغه حتى تحركت في نفسي شهوات سرعان ما ألجمتها، فبدا الماء لي ذلك اليوم أنقى وأصفي وأطهر ما يكون، وما زلت أتذكر تلألؤه تلألؤ النجوم في ليلة صافية، أحسست بنشوة عامرة وأنا أكتم العطش داخلي، لما أخبرته أبي بكل ما شعرت به وعن النقاء والطهارة والصفاء في ذلك الماء قال لي رحمه الله "إنه الإيمان يا بني"، وزاد شارحا إن الله ليلقي في قلب العبد حلاوة إذا ما هو ابتعد عن الحرام، وأن شهوات الدنيا لا تساوي شيئا إذا ما اقترنت بخوف الله والرجاء فيه. هذه العبارة لن أنساها ما حييت، لعلي أقولها لولدي في أول يوم صيام شرعي له،وقد يصادف يوما حارا في السنوات القليلة المقبلة..

كان من عادة أبي أن يصحبني أيضا إلى مسجد ابن يوسف غير القريب من منزلنا لأداء صلاة الصبح ولكنه كان يتعمد ذلك بالخصوص معي من أجل حضوري للدروس الرمضانية الذي كان يلقي علماء كبار ترسخت في ذهني الصغير صورهم دون أن أتذكر أسماءهم. غالبا ما كنت أغالب النوم حتى يستبد بي فأستسلم له. لكن ما وقع في ذلك اليوم الرمضاني جميل أن يحكى أيضا، بعد الصلاة والدرس، حكيت لأبي قصتي مع رعشة تملكتني وأنا أسمع قرآنا بصوت جميل تلي ذلك اليوم.. فلم يكن منه إلا أن قال لي "إنه الإيمان يا بني، وتلكم ملائكة تحف المصلين الخاشعين.