* جاء في صحيح مسلم عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه، فكان إذا أتى الساحرَ مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحرَ ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيتَ الساحرَ فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ، فقال: اليوم أعلم الساحرُ أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهمّ إن كان أمر الراهبُ أحبَّ إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ، فرماها فقتلها، ومضى الناسُ، فأتى الراهبَ فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنيَّ، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى، فإن ابتُليتَ فلا تدلّ عليّ، وكان الغلامُ يُبْرئ الأكْمهَ والأبرص ويداوي الناسَ من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ فإن أنت آمنت بالله دعوتُ اللهَ فشفاك فآمن بالله فشفاه اللهُ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: مَنْ ردَّ عليك بصرَكَ؟ قال: ربّي، قال: أوَ لكَربٌّ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام، فقال له الملكُ: أي بني قد بلغ من سحرك ما تُبْرئُ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ، فأخذه فلم يزلْ يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمئشار فوضع المئشارَ في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبلَ، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فرجف بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فدفعهم إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحرَ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئتَ، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فقال للملك: إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناسَ في صعيد واحد، وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي،،،
ثم ضع ِالسهْمَ في كبد القوسِ ثم قل: باسم الله ربّ الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلتَ ذلك قتلتني، فجمع الناسَ في صعيد واحد، وصلبه على جذع ٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهمَ في كبد القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه فوضع السهمَ في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناسُ: آمنا برب الغلام ،،،آمنا برب الغلام،،، آمنا برب الغلام، فأُتيَ الملكُ فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ؟ قد والله نزل بك حذرُك، قد آمن الناسُ فأمر بالأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران، وقال: مَنْ لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها، فتقاعستْ أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمّة اصبري فإنك ِ على الحقّ)).
كلما بعد الناس عن عهد النبوة، ازدادت حاجتهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، يتفيئون في ظلالهما، ويشربون من معينهما، ويهتدون بهديهما؛ التزاماً بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) ففيهما الشفاء والغناء والهدى.وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة؛ من تكالب أعدائها عليها ورميهم إياها عن قوس واحدة، وحيث دبّ الوهنُ واليأس في قلوب بعض المسلمين، وآخرون حادوا عن الحكمة، وضلوا عن سواء السبيل، فقد قمتُ بدراسة حديث الغلام وأصحاب الأخدود، ووجدت فيه من الوقفات والدروس والعبر ما أراه علاجاً ناجعاًًًًً لكثير من مشكلات الأمة، ومن هنا رأيت أن أضع هذه الدراسة أمام أحبتي؛ لتكون لهم زاداً في الطريق، وعوناً على تخطي العقبات والصعاب، وتجاوز بنيات الطريق، وسلوكاً لنهج الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(البقرة:269) فأقول مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه؛ سائلاً إياه التوفيقَ والسداد:
(1) ما أشبه الليلة بالبارحة، فاستخدام السحرة من قِبل أهل الدنيا قديم، وكثير من زعماء العالم - اليوم - يستخدمون السحرة وأشباه السحرة، بل إن بعض ما يتخذه هؤلاء من قرارات مبني على ما يقوله السحرة ويدعونه، وهو ضلال وإفساد في الأرض، والله لا يُصلح عمل المفسدين، وكلما بعد الناس عن الدين والهدى والوحي الصادق؛ لجأوا إلى أمثال هؤلاء السحرة والكهّان، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
(2) أن الأرض لا تخلو من مؤمن بالله، ولا يكون خلوّها من المؤمنين إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة، وعندما بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هناك من الحنفاء؛ كورقة وغيره، ولذلك كان هذا الراهب على الدين الصحيح، في أمة لا تعرف لها رباً إلا الملك، مع أنه قد يكون في البلدان الأخرى من المؤمنين مَنْ لا نعلمهم.
(3) جواز تخفّي الإنسان بدينه إذا خاف على نفسه، ولذلك لم يكن الملك يعرف عن هذا الراهب شيئاً، ولذلك قال الراهب للغلام (فلا تدل عليّ)، وكان في مكة أناس مؤمنون يتخفّون بدينهم، قال سبحانه: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح: من الآية25). (4) أن هذا الراهب كان يعمل في السرّ؛ حيث يدعو إلى التوحيد وعبادة الله، وهذا من أدلة جواز العمل سراً إذا اقتضت المصلحة ذلك، والأدلة في ذلك كثيرة جداً، كما في دار الأرقم، ودعوى النسخ لا دليل عليها، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ،ومن الأدلة على ذلك حديث حذيفة: ((فابتُلينا حتى أصبح أحدنا لا يصلي إلا سراً))، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87) جواز الكذب عند الخوف على النفس ظلماً، وبخاصة أمام العدو.
(5) أهمية التربية الفردية؛ حيث إن هذا الغلام الذي أحيا اللهُ به أمةً؛ نتاج تربية الراهب ،ومن أقوى أسباب بقاء الإسلام في روسيا بعد قيام الشيوعية هو التربية الفردية سراً، بل هكذا قام الإسلام أوّلاً.
(6) ذكاء هذا الراهب وفراسته، حيث توسّّم في هذا الغلام النجابةَ والأهلية لقيادة أمته، وإخراجها من الظلمات إلى النور، فكانت فراستُه في محلها، وتوقّعُه في موضعه.
(7) وهكذا يجب أن يعتنيَ المربّون بتلاميذهم، ويختارون منهم مَنْ يُتوقّع أن يكون لهم دورٌ في قيادة أمتهم وريادتها، ويُعدّونهم لذلك كما أعد الراهبُ الغلامَ.
(8) صحة الكرامات، وأن الله يُجريها على يد مَنْ يشاء من عباده المؤمنين، وهي وسيلة من وسائل النصر والتأييد والتثبيت، ومع أهمية الإيمان بها، يجب البعد عن الغلو فيها، والاعتماد عليها، كما لا يجوز إنكارها، أو التقليل من شأنها، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.
(9) الابتلاء سنة ماضية، وكما أخبر ورقةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيُبْتلى، كذلك أخبر هذا الراهبُ الغلامَ، وهي سنة جارية، فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه، وهو مصداق قوله سبحانه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في هذا الشأن، ولذا فعلى الدعاة إلى الله أن يُعدّوا أنفسهم لذلك، ولا يعلم المسلم من أين يأتيه البلاء،،، نسأل اللهَ السلامة والعافية.
(10) قوة توحيد هذا الغلام؛ حيث أعاد الفضلَ لأهله، فقال: ((إنما يشفي اللهُ)) وهذا دليل على إيمانه وصدقه وتجرده.
(11) أهمية استخدام النعم التي يكرم الله بها المرءَ في الدعوة إلى الله والترفع عن الدنيا وحطامها، حيث استثمر الغلامُ إكرامَ الله له بشفاء المرضى من أجل خدمة دينه وعقيدته، بينما هناك آخرون يستخدمون دينهم من أجل دنياهم، بل من أجل دنيا غيرهم، وهناك من جعل العلم والدعوة وسيلة للتكسّب وجمع الحطام ((يبيع دينَه بعرض من الدنيا))، وقد استثمر يوسفُ - عليه السلام – نعمة ((تعبير الرؤيا)) من أجل دعوة أهل السجن، وإظهار براءته، وبعد ذلك سياسة الأمة، وقيادتها بالعدل والتوحيد.
(12) أنه لا مانع من إخبار الإنسان بما هو مقدم عليه من بلاء أو فتنة، حتى يستعد لذلك، ولا يُفاجأ به، حيث إن ذلك من وسائل التثبيت، والصبر على الأذى، وقد أخبر يوسفُ أحدَ صاحبي السجن بما سيحصل له، وكذلك أخبر ورقة رسـولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمد بما سيحصل له من بلاء بناءً على رؤيا رآها وهو في مصر، فأرسل إلى أحمد في ذلك.
(13) نِعْمَ الجليسُ جليسُ هذا الملك الذي حمد نعمة َالله عليه، وكان جريئاً بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وفقد منصبه ومكانته، بل ضحى بكل متع الدنيا، وتحمل الأذى والتعذيب ثم الموت، ونال الشهادة في سبيل الله، فهنيئاً له ،،، ولا نامت أعين الجبناء والمنافقين والمتكسّبين بالدين ،،، (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: من الآية79)
(14) شجاعة الغلام وقوته في الحق أمام هذا الملك الظالم، حيث أعلن توحيده، وثبت عليه، ولاقى في ذلك ما لاقى
(15) أنه لا لوم على من دل ظالماً على مسلم إذا كان هذا بسبب الأذى والتعذيب مما لا طاقة له به، فالإنسان له حد في التحمل والصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يجوز أن نلوم من عذره الله، ولذلك لم يلم ِ الغلامُ جليسَ الملك، ولا الراهبُ الغلامَ، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد بذل الوسع والطاقة، واستنفاذ الفرص
(16) مع خوف الراهب من الملك، وإشفاقه من الأذى، فقد ثبت ثباتاً عجيباً، وصمد صموداً نادراً، وهو يمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا))، وقد نال الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً؛ مقبلاً غير مدبر. وكذلك فعل بالجليس فلم يصده عن دينه مع حداثة عهده بالإسلام، وطول مجالسته للملك، فلقي ربه صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، وكذلك بشاشة ُ الإيمان إذا خالطت القلوب تمكّنتْ منها، وفي قصة الجليس وإيمانه وقتله شبه بقصة سحرة فرعون ،،، رحمهم الله أجمعين.
(17) إكرام الله للغلام بهذه الكرامات من أجل أن يتم أمر الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته على يديه، ويشرع للمؤمن أن يسأل الله أن يمده بكرامات من عنده؛ تثبيتاً لقلبه، وبرهاناً في دعوته، وكبتاً لأعدائه وخصومه، وقد سأل إبراهيم - عليه السلام - ربه، فقال: "ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"، وسأل بنو إسرائيل عيسى - عليه السلام - أن يسأل الله لهم أن ينزل عليهم مائدة من السماء" قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين "فسأل عيسى - عليه السلام - ربه فاستجاب له" قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
(18) ويدخل في ذلك: القَسَم على الله، فمن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
(19) تأمل هذا الدعاء الجامع: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) وهو أولى من كثير من الأدعية التفصيلية حيث إن تفويض الأمر لله يغني عن اجتهاد البشر، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والخير كل الخير فيما يختاره الله وقد يختار الإنسان في دعائه لهلاك عدوه أمراً لا يتحقق فيه ما أراد "وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، بل قد يكون فتنة له وبلاء، وقد قيل للحبيب -صلى الله عليه وسلم -: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
(20) كيف عرف الغلام أن الملك لن يستطيع أن يقتله، وأن طريقة قتله هي كما ذكر مع أنه ليس بنبي؟ قد يكون ذلك إلهاماً؛ حيث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فيمَنْ قبلنا محدّثون، والظاهر أن هذا منهم، وهي كرامة من الله له، يدل على ذلك ما سبق من كرامات منذ صغره؛ ابتداء من هدايته على يـد الراهب وما تـلا ذلك حتى قتـل - رحمه الله -.
(21) في هذا الحديث دليل على جواز العمليات الاستشهادية، فإذا كان هذا الغلام قد دلّ الملك على مقتله من أجل مصلحة غلب على ظنه تحققها، فمن باب أولى جواز الإقدام على ما فيه نكاية بالعدو، وتحقيق مصالح كبرى، ولو كان في ذلك قتل النفس، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، والقول بالعمليات الاستشهادية له ضوابط، ليس هذا مكان تفصيلها، ومن أهمها: غلبة الظن على تحقق النكاية بالعدو، وإرهابه، والحد من طغيانه، على ألا يترتب على ذلك مفاسد تغلب على تلك المصالح، ولذلك لا بد أن يكون القرار للقيام بمثل تلك الأعمال صادراً عن جهات تتوافر فيها شروط الأهلية لاتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة .
(22) قال سيد - رحمه الله -: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان وأن الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة .
(23) ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
(24) إن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة. إن الناس جميعاً يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضاً - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئاً آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة) أ. هـ
ما أحوجنا إلى هذا الفهم الذي يؤصل قاعدة مهمة من قواعد النصر، وهي أن الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها، فكم من قتيل قد انتصر، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام، بل أضل سبيلاً
** إن الغلام قد أدرك بتوفيق من الله وحده ـ أن كلمة واحدة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السني. إن الحياة موقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة ثمينة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: إذا هبت رياحك فاغتنمها، وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه وإنقاذ قومه وعشيرته من النار، ولو دفع حياته ثمناً في سبيل تحقيق هذه الغاية، وما أرخصها من نفس في سبيل تحقيق هذا الهدف العظيم .
** إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة، عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره .
إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
وانتصر بقوة إراداته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطّياً جميع العقبات، مستعلياً على الشهوات وحظوظ النفس، ومتع الحياة الدنيا .
وانتصر على هذا الملك الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده لا بيد غيره، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الغلام أقدم على ذلك وهو يعي حقيقة ما يفعل، أما المَلِك فأعمته سَكْرة ُالمُلْك، وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام؛ في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد، وحيت أمة، بل حتى الفرد لم يمت ،،، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(آل عمران:169)
وانتصر الغلام عندما وقع وتحقق ما كان يتصوره ويتوقعه ويخطط له، وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام .
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ وسلامة التقدير، نجاح باهر وفوز ظاهر، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم مَنْ يستشهدون.
وأخيراً انتصر عندما خلّد اللهُ ذِكْرَه فيمن بعده؛ قدوة وأسوة وذكراً حسناً للأجيال فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
(26) وتتويجاً لهذه الانتصارات المتلاحقة تأتي نهاية القصة عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جُنّ جنون الملك وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة للإبقاء على هيبته وسلطانه، وتعبيد الناس لهمن دون الله.
فها هو يحفر الأخاديد، ويوقد النيران، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين فيها، وهنا تأتي المفاجأة المذهلة، فبدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحداً منهم تراجع أو جَبُنَ أو هرب.
بل نجد الإقدام والشجاعة والاقتحام، وكأن الغلام قد بثّ فيهم البطولة والثبات، وها هم يجدّون في اللحاق به، وهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا عند خالقها. والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها - لا على نفسها - وحُقَّ لها أن تخاف، حيث إن ذلك رحمة وشفقة ًلا جُبْناً وخوفاً، ولكنها قد أرضعته الإيمانَ والشجاعة والإقدام، فطلب منها الإقدام فأقدمت.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب وجليس الملك والغلام انتصاراً فردياً، ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصاراً جماعياً، قلَّ أن يحدث له في التاريخ مثيلاً كما حدث لسحرة فرعون (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:46-47).
إن كل هذه الانتصارات المتلاحقة ثمرة طبيعية لصفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، ومن ثم الفهم العميق لحقيقة الانتصار.
فهل يعي ذلك أولئك الذين يروْن أن حياتهم تحت حماية عدوهم بذل واستصغار مع شيء قليل من حطام الدنيا؛ خير لهم من الموت بشرف وعزّ وكرامة .
ماذا حلّ بهذا الملك وحاشيته وجنده ؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا. نعمْ ،،، وردتْ آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق". ولكن سنة الله الجارية" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقال سبحانه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (الزخرف:41). وَوعْدُ الله ِالذي لا يتخلف: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14). والعزاء للمؤمنين على مرّ الأجيال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (الطارق: 15-17). والحذر الحذر من اليأس والقنوط وسوء الظن بالله: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (ابراهيم: من الآية42). (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (ابراهيم:47).
وبعد:
أخي الكريم، وبعد هذه السياحة في هذه القصة العجيبة، والجولات البطولية؛ التي لم يلتبس فيها الحق بالباطل، ولا النور بالظلام ـ اسأل نفسك بتجرّد:
مَن الذي انتصر في هذه المعركة الفاصلة؟
أهو المَلِك أم الغلام ؟
هل انتصر الملأ أو المؤمنون ؟
والتاريخ يُعيد نفسَه، وتتغير الرسوم والأشخاص والدول، وتبقى الحقائق والثوابت والمبادئ. (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: من الآية128).
* نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 4/1/1423