وقفات رمضانية

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما كان وما يكون، وما تسرون وما تعلنون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق المأمون _صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم يبعثون_.
فلا شك أن لكل غائب طالت غيبته نوع استقبال، ولكل حبيب أوشكت رجعته اهتماماً يتناسب مع مكانته ، ويتوافق مع منزلته في نفس من يستقبله ، فإذا جفوت حبيبك الغائب جفاك، وأخفى عنك هداياه وعطاياه، وادخرها ليعطيها غيرك ممن يحسن استقباله ووفادته، ويعد العدة للحفاوة به وإكرامه، وإن أعظم مسافر نزل ديارنا ، وحط رحاله في أوطاننا شهر رمضان العظيم ، سيد شهور العام، هذا الشهر الكريم الذي يأتي حاملاً معه النفحات الربانية، والعطاءات الإلهية، فتنبه الغافل، وتذكر الناسي، وتجدد همة الذاكر، وتجمع شتات المشغول، إليكم أخي القارئ هذه الوقفات حول استقبال هذا الشهر الكريم :

الوقفة الأولى : إن بلوغ هذا الشهر نعمة عظمى، وإدراكَه منة كبرى، فقد دلت على فضله ومكانته نصوص متكاثرة من الكتاب والسنة، يقول الله _جل وعلا_: "ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى 1لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" إلى أن قال : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينـت من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه" [البقرة:183]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:"الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربّ منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب، منعته النوم فشفعني فيه، فيشفعان" رواه أحمد والحاكم وصححه.
كما أن رمضان شهر العفو والرحمة والغفران، عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا جاء شهر رمضان، فُتّحت أبواب السماء – وفي رواية: أبواب الجنة، وفي رواية: أبواب الرحمة، وغلّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" أخرجه الشيخان.

ويقول _صلى الله عليه وسلم_ كما جاء في حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه .
ألا فليكن رمضان فرصةً لنا للنظر في الأحوال، والتفكر في الواقع، لنصلح ما فسد، ونعالج ما اختل ونقوِّم ما اعوج لِيكن هذا الشهر انطلاقةَ خير نحو مستقبل مشرق ، حافل بطاعة الله ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ ونقطةَ تحوّل إلى أحسن الأحوال ، وأقومِ الأقوال والأفعال .


الوقفة الثانية : إن في تقلّب الأيام معتبر، وفي انصرام الأوقات مزدجر، وفي قراءة صفحات التأريخ مدّكر، يمرّ بنا رمضان فتعود بنا الِذكرياتُ الخالدة إلى تذكر النصر في معركة بدر، نصرٌ وظفر، فوز وعزّ، غلبة وتمكين ، وكم يذكرنا رمضان بانتصاراتٍ للمسلمين، وبطولاتٍ للمؤمنين، فما فتح مكة عنا ببعيد ، ولا معركة اليرموك عنا بغائبة ، ولا القادسية بمنسية، إن أولئك الأخيار ما حققوا العزة والنصر، ولا نالوا الغلبة والتمكين ، إلا بسبب تمسكهم بالإسلام، حكماً وتحاكماً، منهجاً وسلوكاً. . . توحيدٌ خالصٌ لرب العالمين، وعزةٌ وشموخٌ بهذا الدين "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" ألا فلتعلم الأمة اليوم، وهي تعيش مصائب شتى، ونكبات لا تحصى، ذل وهوان، ضعفٌ وخذلان ، تشرذم وتفرق ألا فلتعلم علماً يقينياً أنه لا نجاة لها مما هي فيه إلا برجعة صادقة إلى الله _جل وعلا_، وبالتزام حقيقي بمنهج رسوله _صلى الله عليه وسلم_ ، فتلكم قاعدة الإصلاح، وأصل العزة والفلاح، وأساس النصر والنجاح، ولن يَصلح آخر هذه الأمة إلا بما صَلُح به أولها.

الوقفة الثالثة : شهر رمضان شهر الجود والكرم، والبذل والعطاء، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: "كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل _عليه السلام_ يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يَعرض عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ القرآن، فإذا لقيه جبريل _عليه السلام_ كان _صلى الله عليه وسلم_ أجود بالخير من الريح المرسلة" متفق عليه .
والجود أنواع متعددة، وأشكال مختلفة، وكلٌ يجود بما استطاع، ومن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالفضل والعطاء، فالجزاء من جنس العمل، وإن أعلى مراتب الجود وأسماها الجود بالنفس
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كما إن من أبرز خصال الكرم، وأنبل أنواع الجود: الإحسان إلى العباد، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائع، وقضاء حاجة، وإعانة محتاج، عن زيد بن خالد الجهني _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من فطّر صائماً كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً" رواه الترمذي وصححه .
اشتهى بعض الصالحين طعاماً وكان صائماً، فوُضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: من يُقرض المليَّ الوفَّي الغنيَّ ؟ فقال : عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه، وبات طاوياً، يقول _جلّ وعلا_: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ " [الحشر:9].
إن في عالم المسلمين اليوم فقراء لا مورد لهم، ومشردون لا أوطان لهم، يعيشون أياماً قاسية، ويذوقون مرارات متنوعة، ما بين هموم وديون، وكروب وآلام، فأين أهل الجود والكرم ؟ وأين من يحب لأخيه ما يحب لنفسه ؟

الوقفة الرابعة : ليكن صوم أحدنا جُنّة يتدرّع به من جميع المعاصي والآثام، في جميع الأوقات والأزمان، عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:"الصيام جُنّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه، فليقل: إني امرؤ صائم" متفق عليه، فمن مقاصد الصوم ضبط النفس وتهذيبُها، وصومُ الجوارح وحفظُها، يقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_ : "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري، وروي عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قوله كما عند أحمد وابن ماجه: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". قال ابن رجب _رحمه الله_: "وسر هذا أن التقرب إلى الله _تعالى_ بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل" انتهى كلامه _رحمه الله_ ، وإن مما يجب التذكير به أن في البشر قُطَّاَع طريق، يصدون الخلق عن خالقهم، ويضلونهم عن سبل رشادهم وهدايتهم، لم نزل نراهم في الصحف والمجلات، في الشوارع والطرقات، في الإذاعات والشاشات، يَعِدون ويُبشرون، ويَدْعون الناس إلى قضاء أسعد الأوقات، وعمارة ليالي رمضان ـ زعموا ـ ، والاستمتاع بمتابعة السهرات والحفلات في تلك القناة أو غيرها.
ألا فلنحذر هؤلاء اللصوص الفجرة، ولنشهر عليهم سيوف الإنكار والنصح والإرشاد علَّ الله أن يهديهم فيكف شرهم وأذاهم عن المسلمين أو على أقل تقدير أن نقوم بواجب البلاغ والدعوة "وما على الرسول إلا البلاغ المبين".

الوقفة الخامسة : شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن ، وهو النور الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعزّ الذي لا يهزم أنصاره، وهو بمثابة الروح للجسد، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يعمل به فما هو بحيّ، وإن تكلم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء أو غاص في الماء "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا" [الأنعام:122]، وقال _تعالى_: " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ" [فصلت:44]. قال الزهري _رحمه الله_ معبّراً عن شأن السلف: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام" وكان بعض السلف _رحمهم الله_ يختم القرآن في قيام رمضان في ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وإن من أعظم مقاصد التلاوةِ التدبرُ والتعقلُ والتفهمُ للمعاني والأسرار والأحكام، "كِتابٌ أَنزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ".
هذا وإن لباب تلك المقاصد وأساسها العملُ بأوامر القرآن، والامتثال لجميع ما فيه من التوجيهات الكريمة والمواعظ الشافية، فلا عِزّ ولا تمكين، ولا تقويةَ لأزر، ولا رسوخ لقدم، ولا أنس لنفس، ولا أمن من عقاب، إلا بالاتجاه الكامل إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا محمد "إِنَّ هَـذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ" الإسراء:9].

هذه بعض الوقفات اليسيرة "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ".