هذه الحلقة ،هي الجزء الأول من الحديث عن لب هذه الورقة ، وبيت القصيد فيها ، ألا وهو ذكر بعض آثار الحج السلوكية.
وقبل أن أذكر هذه الآثار ، يقال : لا يخفى أن الحج عبادة من أعظم العبادات ، رتب الشرع عليه ثواباً عظيماً لمن كان حجه مبروراً ، كما قال _عليه الصلاة و السلام_ فيما رواه الشيخان:" الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، وعندهما أيضاً أنه _صلى الله عليه وسلم_ قال: " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه " .
وهذه الفضيلة العظيمة إحدى بل هي من أجل المنافع التي أشار إليها _تبارك وتعالى_ بقوله : " ليشهدوا منافع لهم" ،وتأمل ـ أيها القارئ الكريم ـ قوله : " منافع " فهي عامة في المنافع الدينية والدنيوية .
والمتأمل في الحج يجد أن أعظم مقاصده هو تحقيق العبودية لله_جل وعلا_ وتوحيدُه بإفراده وحده _سبحانه_ بالعبادة ، ولهذا لما ذكر الله_تعالى_ جملة من آيات الحج قال:"ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين" [الحج :34].
قال بعض أهل العلم في تفسيره لهذه الآية : " إن أجناس الشرائع وإن اختلفت في بعض التفاصيل فهي متفقة على هذا الأصل وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية،وترك الشرك به،ولهذا قال:" فله أسلموا" أي:انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلامَ له،هو الطريق الموصل إلى دار السلام وهي الجنة " ا هـ .
إن مظاهر التسليم والانقياد في هذه العبادة واضحةٌ جداً ، ولهذه المظاهر أثر عظيم على زيادة الإيمان ، واستقامة السلوك .
إذا عُلِمَ هذا ، فليس من المستغرب أن تكون جميع المظاهر التي يراها المسلم إنما هي نابعة من شجرة التوحيد المباركة ،ولا يمكن أن تنفصل عنه، حتى ما قد يظنه البعض من أنه مظهر اجتماعي أو نحو ذلك ،فإنه عند التأمل فرع من فروع تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ،فاجتماع المسلمين،وتآلفهم،وتعارفهم على بعض هو من ثمار الموالاة لأهل ( لا إله إلا الله ) .
والمقصود أن مظاهر التوحيد في الحج كثيرة،تبرز للمسلم في كل موقف من المواقف التي تتصل بنسكه ، ولعلي أبدأ بأول هذه المواقف مع الإشارة إلى بعض آثارها السلوكية :
الموقف الأول :
عندما يسافر الإنسان إلى البيت الحرام لأداء شعيرة الحج ، ألا يستشعر مِنّة الله عليه وفضلَه ،أن هداه لهذا السفر المبارك في الوقت الذي يسافر فيه البعض من المسلمين يمنة ويسرة لإمضاء إجازة العيد للترويح ، أو لتحصيل شهوة قد تكون محرمة ، أو يسافر إلى بلاد الكفر من غير حاجة أو ضرورة ! وهل يتذكر ـ المسلم ـ نعمة الله عليه أن يسر له السفر والوصول إلى تلك البقاع المقدسة ،في الوقت الذي يتمنى ويشتاق كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الوصول إلى البيت فلا يستطيعون إما لقلة ذات أيديهم أو لغير ذلك من الموانع ؟! ولهذا لما رأى بعض الصالحين الحجاج وقت خروجهم من بلدهم إلى مكة يريدون الحج وقف يبكي ويقول : واضعفاه .. ثم تنفس وقال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت ، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت .
ولعل البعض قرأ قصة ذلك المسلم الذي قدم من الجمهوريات الإسلامية ـ بعد سقوط الشيوعية ـ فلما وصل إلى المسجد الحرام ورأى الكعبة بكى بحرقة ، وأخذ يتذكر ويقول : هذا بيت الله الذي كان يحدثنا عنه والدي ، والذي كان يتحرق شوقاً إلى رؤيته لكنه منع من قبل طواغيت الكفر ، فمات قبل أن يراه .
الموقف الثاني :
في لباس الإحرام يتجرد المسلم من اللباس الذي اعتاده ،إلى لباس يستوي فيه الجميع :الغني والفقير، والأمير والحقير، وهو تأكيد لأصل عظيم في هذا الدين ،ألا وهو أن الناس سواء لا فضل لعربي على أعجمي ،ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى :
أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة * *إليك انتهوا من غربة وشتات
تـســاووا فلا أنساب فيها تفاوت* * *لديك ولا الأقدار مختلفات
وقول الله أبلغ :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير) .
هذا المشهد العظيم يبعث في النفس آثاراً عظيمة ،منها : أن توحيد اللباس فيه إشارة إلى توحيد الكلمة والمقصد، "فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " .
ومنها : أن الناس في ميزان العبودية سواء الله ربهم وهم عبيده ، فأكرمهم عنده أتقاهم ، وأرفعهم منزلة من زاد ذله لمولاه ،وعَظُمَ انكساره بين يدي ربه ،وكًثُرَ طرقه لباب سيده ،أما مناصب الدنيا فلا وزن لها هنا.
الموقف الثالث :
التلبية ، وما أدراك ما لتلبية ؟ التي تستمر مع الحاج منذ تلبسه بالحج إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد ، هذا النداء الخالد الذي يعلن فيه العبد استجابته لنداء الله الذي أعلنه إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ كما في قوله _سبحانه_ : " وأذن في الناس بالحج" هذه التلبية التي قال عنها جابر ـ رضي الله عنه ـ في وصفه لحجة المصطفى _عليه الصلاة والسلام_:" فأهل رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد " ،وتأمل قوله: " بالتوحيد " ،وذاك لأمرين :
أحدهما : أن أهل الجاهلية كانوا إذا لبوا قالوا: " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " فكانوا يشركون في التلبية .
الثاني : أن هذه الجملة العظيمة اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة؛ الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فقوله: " الملك لك" إشارة إلى توحيد الربوبية ، وقوله:" لبيك لا شريك لك" إشارة إلى الألوهية ، وقوله:" إن الحمد والنعمة لك" إشارة إلى توحيد الأسماء والصفات .
إذن هي ألفاظ ومعان عظيمة ، فيها ثناء على الله _تعالى_، واعتراف باستحقاقه للعبادة وحده _سبحانه_ ،واعتراف بأن النعم كلها من عنده ، وأنه _سبحانه_ هو المستحق للحمد كله ، لهذا ينبغي أن يكون لها آثار على سلوك الحاج ، ومن ذلك :
1 ـ أن يحمد الله _عز وجل_ على هدايته للتوحيد في الوقت الذي يقع فيه بعض المنتسبين للإسلام في صور من الشرك عظيمة إما لجهلهم ، أو لاعتقادهم أن عملهم هو الدين الحق فزُين ذلك لهم حتى صار ديناً لا يتحولون عنه _والعياذ بالله_ ، فليحمد العبد ربه وليعلم أن هدايته محض فضل الله _تعالى_ عليه .
2 ـ ومن الآثار أيضاً : أن يحمد المسلم ربه أن جعل قلبه مستيقناً يقيناً لا شك فيه بأن الله _تعالى_ هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ،لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن ما سوى الله من المعبودات لا يستحق ذلك ، يستحضر العبد ذلك وهو يرى بعض صور الشرك التي يقع فيها بعض الحجاج الجهلة !
ويستحضر المسلم ذلك وهو يتذكر الأمم الكثيرة ـ الغابرة والحاضرة ـ التي وقعت في لوثة الشرك فرأته ديناً صواباً ـ عياذاً بالله ـ يتذكر وحمد ربه أن عصمه من ذلك ، وهذا يدعوه إلى سؤال الله _تعالى_ الثبات على التوحيد حتى الممات ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
3 ـ ومن الآثار أيضاً : أن يكون العبد على وجل وخوف إذا لبى من عدم إجابة تلبيته وقبول حجه ،وهذا الخوف ينبغي أن يدفعه لمزيد الإحسان في العمل ، وفي الوقت نفسه ينبغي أن يحذر من القنوط ، بل يجمع بينهما .
فهذه إشارة عابرة إلى التلبية وما فيها من معان عظيمة ، والتي ينبغي أن نتذكرها حينما نلبي ، وألا نكون كحال بعض الناس الذي يرددها وكأنه يردد قصيدة ملحنة !!
ولعل تذكر هذه المعاني ـ أخي القارئ ـ لعل هذا هو السبب فيما نقل عن بعض السلف أنه كان إذا لبى غلبه تذكره فأغمي عليه ،كما روى ذلك الإمام مالك عن علي بن الحسين ( زين العابدين ) ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه أحرم ،فلما أراد أن يلبي قالها ،فأغمي عليه وسقط من ناقته فهشم _رحمه الله_ ،فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخشى أن أجاب بلا لبيك !
وقد رأيت بنفسي رجلاً ـ صحبته في الحج ـ لما أحرم بدأ بالتلبية فغلبه البكاء،وذلك أنه تذكر موقفاً وقع لأحد أئمة التابعين وهو محمد بن المنكدر ، وذلك أنه روي عنه أنه لما بدأ في التلبية سكت في منتصفها وقال :أخشى أن أُجاب بغير ما أريد،يعني أنه خشي أن يقال له : لا لبيك ولا سعديك، فغلبه البكاء حتى سقط عن راحلته ـ رحمه الله تعالى ـ .
الموقف الرابع :
الحاج يفعل في حجه أموراً كثيرة ،قد لا يدرك لها حكمة سوى تحقيق العبودية والاستسلام لله_تعالى_،والمتابعة للنبي_ صلى الله عليه وسلم_ ، وهذا كله يثمر التقوى، ومن ذلك مثلاً :
تقبيل الحجر الأسود ، أمر لا يعلم له المسلم تفسيراً سوى المتابعة المحضة للنبي_صلى الله عليه وسلم_ ولهذا كان عمر_رضي الله عنه_ يقول ـ كما في الصحيحين ـ :" والله إني لأقبلك،وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقبلك ما قبلتك "ولله در عمر،فإنه أراد أن يعلم ويربي من تبلغه هذه المقولة أن الأمر محض استسلام ومتابعة :
فما البيت والأركان والحـجر والصفا* وما زمـزم أنت الذي قصدنـاه
وأنت منانا ، أنت غايـــة سؤلــنا *** وأنت الذي دنـيا وأخرى أردناه
وهكذا الشأن ـ أيها الأحبة ـ في جميع المناسك ،يسأل الحاج أحياناً :
لماذا الطواف بالبيت ؟ ولماذا لم يكن خمسة أشواط بدل سبعة ؟ وما الحكمة من السعي ؟ ورمي الجمار ؟ والمبيت بمنى والنحر ، و....و.... أسئلة كثيرة ..لا نعلم لها جواباً إلا أن الأمر محض استسلام وتعبد ، وتعظيم لشعائر الله _عز وجل_ ، وإقامة ذكره _سبحانه وبحمده_ ، وأن الهدف من ذلك هو حصول تقوى الله _سبحانه_ ، ولهذا قال الله _عز وجل_:" لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين" والشاهد قوله : " لتكبروا الله على ما هداكم" أي: لتعظموه وتجلوه جزاء هدايته إياكم فإنه يستحق أكمل الحمد ،وأجل الثناء ، وأعلى التعظيم، ويقول _تعالى_ : " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" ، ويقول _سبحانه_ :"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب" .
ومع هذه التساؤلات التي أشرت إليها آنفاً، فالمسلم لا يعتريه شك في أن هذه الأعمال هي من صلب أعمال المناسك ،وأنه لو لم يفعلها لم يصح حجه أو نقص أجر حجه ، ولكن ابحث عن أثر هذا الاستسلام في حياة بعض الحجاج خاصة والمسلمين عامة !!
وابحث عن هذا الإقدام على الامتثال للأوامر ، فسترى عجباً .
إن من الناس من يبلغه الأمر عن الله وعن رسوله_صلى الله عليه وسلم_ في بعض الأمور ، فيبدأ في التساؤلات ،وإبداء الإشكالات التي لا تنبئ عن بحث عن الحق أو التماس للحِكَم ، ولكنها تنبئ عن نوع من التردد أو التباطؤ في فعل هذا الأمر أو اجتناب ذاك النهي !!
فلماذا هذا النظر إلى الأوامر والنواهي ؟! والله _تبارك وتعالى_ يقول في محكم كتابه : "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً".
الموقف الخامس :
يجد المسلم في الحج والعمرة أيضاً أن الإحرام له محظورات يمتنع المسلم منها حال إحرامه ـ رغم أنها من أطيب الطيبات ـ كالطيب ولبس الثياب التي تفصل على الجسم ، وغيرها من المحظورات، ويلحظ المسلم أيضاً أن الحرم له أحكامه التي تخصه، فلا ينفر صيده، ولا يعضد شوكه ، ولا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد ،إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها النصوص ، وبسط أهل العلم الكلام عليها ،وأيضاً شُرع للمسلم أن يأتي البيت على أحسن هيئة ، ولباس معظم ـ وهو الإحرام ـ ولا يجوز للحاج أن يخرج من مكة بعد حجه إلا بعد طواف الوداع ما لم يكن معذوراً شرعاً ، ويلاحظ المسلم أيضاً أن الحج مضبوط بأوقات وأماكن محددة ، لا يجوز أن يتجاوزها المسلم ، فلماذا كل هذا ؟
لا شك أن هذا كله من تعظيم شعائر الله_تعالى_ ؛ لأن تعظيمها تعظيم لأمر الله ، وهذا يورث في النفس من الاستكانة ، والخضوع ،والاستسلام والذل لله ، وانشراح الصدر ما لا يستطيع وصفه أعظم الناس بلاغة وفصاحة، وهذا ـ والله ـ هو مقصود العبودية الأعظم، وبه تعلو درجة العبد عند ربه وتمحى عنه آثار الذنوب والمعاصي .
ومن ذلك أيضاً أثر سلوكي آخر ألا وهو : قيام عبودية المراقبة لله_تعالى_ ، فالحاج يطوف ويسعى ويرمي الجمار ويبيت بمنى ويقف بعرفة وينصرف منها كل ذلك حسب العدد والزمان والمكان الذي حدده الشرع، ولا يخطر بباله أن يجعل الطواف ثمانية أشواط مثلاً،والسعي ـ لأنه طويل ـ سيختصره إلى خمس،أو أنه يفكر في أن يزيد في عدد حصى الجمار ،كلا كل ذلك ليس في باله ولم يحم طائر تفكيره حوله ، فلماذا ؟ لأنه يعلم أن الله _تعالى_ مطلع عليه ولأنه يخشى فساد أو نقص حجه ؟
وهذا أثر عظيم ، ودرس كبير ، يبعث المسلم إلى مراقبة ربه_تعالى_ في سائر أعماله وشتى أحواله ، فالمطلع على أحوال الحج مطلع على غيره من الأعمال .
ومن الآثار السلوكية أيضاً : الاعتياد على اغتنام الأوقات ـ رأس مال الإنسان ـ والعلم بأن لكل وقت من أوقات المسلم له وظيفته التي جعلها الله لها .
فهذا الحاج لو فاته الوقوف بعرفة،أو رمى في غير وقت الرمي،أو بات خارج منى ـ بلا عذر ـ أو غيرها من الأعمال ،إما أن يفسد حجه أو ينقص حسب رتبة العمل .
والمقصود من ذلك أن يعود المسلم نفسه على ترتيب وقته ومحاولة اغتنامه ، وعدم تضييعه ، فإن العمر قصير والواجبات كثيرة .
وللحديث صلة في الحلقة القادمة _بإذن الله_ .