جذوة الإسلام لا تنطفئ
19 جمادى الأول 1426

إن حيلة التخذيل سلاحٌ ابتدأه الشيطان وتبعه فيه من سار في ركابه من المنافقين والكافرين "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:175)، وقد استفاضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية في التحذير من ذلك كله، ومن كل ما من شأنه إضعاف عزيمة المسلم، وتوهين همة المؤمن، وذم كل ماله أدنى صلة في حياة المسلمين باليأس والقنوط قال الله _تعالى_: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139)، وقال _تعالى_: "وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"(يوسف: من الآية87).

- ومن السنة عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: إن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "الشرك بالله، والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله" والحديث حسنٌ قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع.

إن الهزيمة النفسية التي تأتي عن طريق اليأس و القنوط لعمر الله أخطر وأعظم وأشد وقعا وأثرا على هذه الأمة من قصف الطائرات، وضرب الصواريخ، وهي المنفذ الذي يحاول الآن الأعداء أن ينفذوا منه إلى قلوب أبناء الأمة عن طريق إعلامهم وعن طريق أذنابهم المرجفين من المنافقين والعلمانيين ليزعزعوا ثبات الجيل ويغرسوا الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، ولعل هؤلاء العلمانيين يحققوا عن طريق ذلك ما عجزوا عن تحقيقه من خلال شعاراتهم الوثنية الزائفة التي رفعوها، ومخططاتهم التي حاكوها وبان عوارها ضد هذه الأمة وضد عقيدة أبنائها، والتي ما زادتنا إلا ذلا فوق ذل و وخبالا فوق خبال، وجرعتنا الهزائم تلو الهزائم.

- ولسنا ممن يتجنى على الواقع فلا يعترف أن الأمة تمر بإرهاصات خطيرة، ومكر يزول منه الجبال، بل نقر ونعترف أن الأمة تمر بمرحلة قاسية وخطيرة، لكننا على يقين من أمرنا أن هذه الأمة لا تموت ولا تنتهي أبدا مادامت هذه الأمة تحمل دين الإسلام والإسلام هو نور الله الذي منّ به على الإنسانية، فما كان لأحد من البشر أن يبيد أمة تحمل نور هذا الدين، وما كان لأحد من البشر أن يملك قدرة على أن يطمس وجود من تمسك بحبل الله، واهتدى بهدى الله رب العالمين "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف:8).




بنو الإنسان ينتظرون فجرا بليل الوهم يخترق الضبابا
وقد لاحت أشعته وضاء وإرهاصاته انطلقت شهابا
غدا تمشي الشعوب على هداه ونور الله يحدوها ركابا

- لذلك لابد أن نعي جيداً بعض الحقائق التاريخية التي قد غابت عن أذهان الكثير منا، لنعلم أن أمتنا قد مرت بمراحل عبر تأريخها لا تقل خطورة، ومواقف لا تقل قسوة عن هذه المراحل والأوضاع التي تعيشها الآن إن لم تكن بعضها أشد وأخطر مما هي فيه الآن ومن قرأ السير وتصفح التاريخ وجد ذلك ومنها على سبيل المثال:
(1) مات رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فارتدت الجزيرة العربية عن بكرة أبيها ماعدا المدينة ومكة والطائف، وظهر مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي وسجاح وجميعهم من أدعياء النبوة، وأحاطت جيوش المرتدين بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وهُدد أهل المدينة، وجل من يسكنها يوم ذاك من الصحابة الأخيار، من المهاجرين والأنصار، حتى قال بعض الصحابة لأبي بكر يا خليفة رسول الله لا طاقة لك بحرب العرب جميعا فالزم بيتك وأغلق بابك وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

- يقول ابن مسعود _رضي الله عنه_ عن يوم الردة: "لقد قمنا بعد رسول الله مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن من الله علينا بأبي بكر"، فكانت هذه الأيام شديدة مزلزلة ألمّت بصحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، ونزلت بحملة هذا الدين العظيم، ولما كان هذا الدين هو دين الحق تمزقت كل قوى المرتدين أمام جحافل المسلمين، وولوا أمام الحق صاغرين وما هي إلا أقل من سنتين وإذا بجند الإسلام يحاصُر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت إنه دين الإسلام دين الحق "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (التوبة:33)، فمهما نزلت الخطوب ومهما مكر الأعداء فإن الإسلام لا يموت أبدا فجدوا واعملوا ولا تيأسوا.

(2) تمالأ الصليبيون فغزوا بلاد المسلمين واحتلوا أكثر بلاد الشام وعاثوا في الأرض الفساد، وقتّلوا كثيرا من العباد، احتلوا المسجد الأقصى فكّ الله أسره، ورفعوا الصليب على قبة الصخرة، واتخذوا من محراب المسجد مشتى لخيولهم وخنازيرهم وفعلوا الأفاعيل حتى غاص القائد ريموند في دماء المسلمين إلى ركبتيه، وغطت جثث القتلى من المسلمين ساحات المسجد الأقصى، فعلوا من الجرائم ما لا يخطر على بال أحد، فعلوا ما يشيبُ لذكره الولدان وتقشعر له الأبدان.


وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رفع الصليبُ
دم الخنزير فيه لهم خلوف وتمزيق المصاحف فيه طيبُ

حتى قال قائل المنهزمين: انتهت أمة الإسلام فعليها السلام، فقيض الله لهذه الأمة نور الدين زنكي وتلميذه صلاح الدين الأيوبي البطل العظيم الذي صار على منوال أستاذه، واقتفى طريقته في حمل هم هذه الأمة، والدفاع عن حياضها، وحماية ثغورها، فنصر الله به الملة، وأحيا بجهاده الأمة، فأستعاد المسجد الأقصى وأنزل بالصليبين هزائم متوالية، وخسائر فادحة، "َقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام:45) إذن لا مكان لليأس ولا طريق للقنوط، فانه لا يوجد أعظم ولا أقدر ولا أصمد من المسلمين بالإسلام.


سنمضي والنجوم لنا دليلٌ متى أصغى السحاب إلى النباحِ
فقد ولى زمانك يا أُبيُّ كما ولى زمانك يا سجاحِ

(3) غزا التتار بلاد المسلمين، وفعلوا مالا يستطيع قلم أن يصفه، دمروا دولة الخلافة وقتلوا الخليفة وقذفوا بآلاف الكتب في نهر دجلة حتى اسودّ لون النهر من مداد الكتب، اجتاحوا ديار المسلمين سلبا ونهبا وهدما، وفي هذا الظرف الحالك صاح صائح المنحرفين، وصرخ صارخ المنهزمين:
ياهاربين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكموا من الضرر
فلم ينجهم أبو عمر ولا غيرُ أبي عمر من ضرر التتار، وما أنجاهم إلا الله بمن سخره من أهل العلم الذين ساروا على طريقة خير القرون ونور العيون كشيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ وغيره من المجاهدين والصادقين، أنقذهم الله من هول التتار بأهل الإيمان والثبات واليقين، فهؤلاء هم روح الأمة وجوهرها، وسر عزها وتحررها.

- كانت هذه مصيبة التتار التي قد حلت بالمسلمين لا مثيل لها من قبل، لقد كان غزو هؤلاء المتوحشين لبلاد المسلمين فاجعة عظيمة من أسوء ما بُلي به المسلمون في تأريخهم، وقد ظن من عاشوا تلك المحنة أنها نهاية للإسلام والمسلمين حتى وصل الأمر ببعض المؤرخين والكتّاب إلى أن يحجموا عن الكتابة عن هذه المحنة لشدتها وهول مصيبتها، ومن هؤلاء ابن الأثير صاحب الكامل فقد بقي عدة سنوات معرضا عن ذكرها استعظاما لها وهو الذي قال لما كتب عنها بعد ذلك (فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا) الكامل 12/358.

وقد عدها _رحمه الله_ أعظم من فتنة الدجال، بل جزم بأنه لم تقع في العالم مصيبة أعظم منها منذٌ أن خلق الله أدم إلى زمان وقوعها يقول _رحمه الله_: "فلو قال قائل: إن العالم منذٌ أن خلق الله _سبحانه وتعالى_ آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فان التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها" (12/ 358).

وقد ذكر ابن كثير _رحمه الله_ في (البداية والنهاية) اختلاف الناس في عدد القتلى فقال: "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة فقيل ثمانمئة ألف، وقيل ألف ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغ القتلى ألفي ألف نفس فإنا لله وإنا إليه راجعون" (انظر البداية 13/ 192، 193)، وهكذا فإن التاريخ يقص علينا فصولا من المراحل الخطيرة و الهجمات الشرسة الهمجية التي تعرض لها الإسلام فصمد أمامها وهي أقسى وأعنف من الحملات التي تواجه المسلمين اليوم، و هذه بشرى فكما أن الإسلام صمد قديما فهو سيصمد دائما وأبدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا تيأسوا أيها المسلمون، ولا تقنطوا أيها العاملون للإسلام فإنه مهما بلغ الكيد، واشتد الكرب، ونزلت الخطوب، فإن جذوة الإسلام لا تنطفئ أبدا، وأمة الإسلام وإن مرضت لا تموت أبداً.