مقدمة:
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، وقد يسّره الله تعالى للذكر، وبيّن معانيه للفهم، ولكن لأن الناس يتفاوتون في قدر أفهامهم وقدر علمهم باللغة والتفسير، يقع بعضهم في فهم خاطئ لبعض آيات أو كلمات القرآن الكريم، مما يخالف ما اتفق عليه أهل العلم بالتفسير وأسباب النزول من تفسير للآية أو الكلمة في سياقها القرآني.
فهناك بعض المفهومات الخاطئة التي يشذ بها فهم بعض الناس، ولا سيما في عصرنا الحديث، وقد تنتشر بين العامة أو لدى بعض المثقفين، وذلك بسبب قلة العلم والإعراض عن سؤال العلماء، أو بسبب انتشار عدد من الإسرائيليات التي تنتشر عبر بعض خطباء المساجد الذين لا يتحرون الدقة في خطبهم، أو بسبب بعض المشككين أو المستشرقين ومحاولاتهم الخبيثة لتحريف معاني الآيات، كما قد يكون السبب محاولة بعض الناس فهم الآية أو الكلمة في سياقها القرآني بما هو مقرر عنده من معنى عامي مولّد، أو اصطلاح علمي حادث.
نماذج قديمة:
وإذا كان قد ظهر بعض هذا الفهم المغلوط في العهد النبوي، وهو عصر لغة القرآن، فكيف بالعصور التي تلته حتى عصرنا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى لتصحيح هذا المفهومات الخاطئة، ويبين لصاحبها وجه الصواب، ومن ذلك أن بعض الناس كان يربط في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ولا يبدأ الصوم حتى يستطيع يميز لونهما، وذلك بسبب الفهم الخاطئ لقوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) فصصح لهم الله تعالى هذا الفهم فأنزل قوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ )، قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}: (أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع، في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبّر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله: {من الفجر}، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعدُ {من الفجر} فعلموا أنما يعني الليل والنهار، أخرجه البخاري...).
وبعض الناس في جيش المسلمين الذي كان يحارب الروم في القسطنطينية، كان يفهم قوله تعالى: (َلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة : 195] بأن التهلكة هي هجوم الرجل على الكفار في القتال حتى يدخل فيهم وحده، فأنكر عليهم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري هذا الفهم الخاطئ للآية، وبين لهم وجه الصواب، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وعن أسلم أبي عمران قال: "كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر (عقبة بن عامر) وعلى أهل الشام رجل (يزيد بن فضالة ابن عبيد)، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان اللّه ألقى بيده إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز اللّه دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل اللّه هذه الآية" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، واللفظ لأبي داود).
وبعض الناس في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان يضع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...) [المائدة : 105] في غير موضعه، ويظن أن معنى (عليكم أنفسكم) هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود القدرة على الأمر والنهي، فأنكر أبو بكر رضي الله عنه عليهم ذلك وبين لهم الصواب، قال ابن كثير – رحمه الله-: (وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً، وقد قام أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأو المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزَّ وجلَّ أن يعمهم بعقابه (رواه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجة) [قال الألباني: (صحيح) ( 6 ) 5142 ، رقم 2ـ مشكاة المصابيح، المجلد الثالث، كتاب الآداب، ( 1 ) باب السلام- الفصل الأول] ... وقال سعيد بن المسيب: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت).
نماذج معاصرة:
وهذه بعض النماذج المعاصرة لبعض الآيات والكلمات التي يضعها بعض الناس في غير موضعها أو يفهمونها فهماً خاطئاً:
1- قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ...) [البقرة : 256].
يستدل بهذه الآية عدد من الناس، وخصوصاً من لهم توجهات علمانية، فيهاجم بعضهم في مقالاتهم أو كتبهم وأحاديثهم الدعاة حين يشددون في الدعوة للتمسك بالدين والالتزام بأحكامه، أو يطالبون بتطبيق أحكام الشريعة، فيقول بعض هؤلاء العلمانيين في معرض التوبيخ واللوم للدعاة: لا إكراه في الدين. ويقصدون أنه لا ينبغي التزمت والسعي لحث المسلمين على التمسك بدينهم، ونهيهم عن المنكرات والمعاصي، ويحاولون كذلك إبطال الجهاد في سبيل الله بوضع الآية في غير موضعها.
وهذا الاستدلال غير صحيح، لما يأتي:
1- المقصود بالآية الكفار الذين يدفعون الجزية، والمعنى لا إكراه لمن تُقبل منهم الجزية على اعتناق دين الإسلام، أما أهل الحرب فيشرع إكراههم على الدخول في دين الإسلام،
قال ابن كثير: (يقول تعالى: {لا إكراه في الدين} أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى اللّه قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً...
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية.
وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال، وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف (دين الإسلام)، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له، أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه. قال اللّه تعالى: {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}، وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}. وفي الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل"، يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة...).
وقد عدّد الشوكاني في الآية سبعة أقوال، ثم قال بعد أن رجح أنها محكمة غير منسوخة: (وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يُكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم، لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خُص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام).
2- الآية لا تتحدث عن المسلمين، أو الذين دخلوا الإسلام، وإنما تتحدث عن إجبار غير المسلمين في دخول الإسلام كما يدل على ذلك ما ورد في سبب نزولها. كما أن النصوص التي تأمر المسلمين بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فيما بينهم، وآيات الحدود التي تبين عقوبة من يخالفون أحكام الشريعة لردعهم وإجبارهم على التمسك بأحكام الإسلام؛ كثيرة في الكتاب والسنة، فمعاقبة المفرطين من المسلمين، سواء كانوا من الصادقين أم من المنافقين، لدفعهم إلى التمسك بالدين مشروع، ولذلك شرعت الحدود والعقوبات كما شرعت الدعوة بالرفق واللين والتناصح بين المسلمين والوعظ والإرشاد، فولي الأمر له أن يعاقب المجرمين والمنحلين ويقيم عليهم الحدود ويعزرهم ليدفعهم إلى التمسك بالإسلام وبأحكامه في الظاهر، ويمنع أهل الفسق والانحلال والبدع من إفساد الناس، سواء كانوا راضين أم غير راضين، وليس في هذا تجاوز لطبيعة البشر، فالمجتمعات الكافرة تفعل ذلك وتضع العقوبات والقوانين التي تضمن ردع المخالفين للقوانين والآداب والتقاليد العامة، وأطر الناس على الالتزام بها. وللوالد أن يجبر أولاده ويؤدبهم على التمسك بالدين إن فرطوا في بعض الواجبات، كالصلاة والحجاب، ولا يعني هذا أن الإكراه هو الوسيلة الوحيدة لضمان التمسك بالدين، ولكنه وسيلة من الوسائل لمنع وقوع المخالفات، قد يضطر إليها حين تشرد النفوس وتضل عن فطرتها إن لم تفلح الدعوة بالرفق واللين، كما أن صور الإكراه المختلفة ليست مطلقة دون ضوابط، كالهجر أو الضرب أو الحد أو التعزير، ولكن لها أحكامها وضوابطها ومواضعها التي تشرع فيها للقادر عليها إن لم يترتب عليها مفسدة، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : 71]، وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.