تمهيد:
بدأ التفسير أول ما بدأ بعد عهد النبوة معتمداً على الرواية وحدها، فكان المفسّر يقتصر على ما يرويه من الأحاديث النبوية، أو ما ينقله عن الصحابة والتابعين مما قالوه بعلمهم واجتهاداتهم، ثم ظهر التفسير بالرأي، ولكنه كان في أول ظهوره منضبطاً بالرواية واللغة، ثم ظهر الانحراف.
كما مر تدوين التفسير بأربع مراحل؛ مرحلة بدء تدوين التفسير في كتب الحديث، ثم مرحلة إفراد التفسير بالتأليف، وأبرز من قام بذلك في هذه المرحلة ابن ماجة المتوفى 273هـ، وابن جرير الطبري المتوفى 310هـ، وابن أبى حاتم المتوفى 327هـ،، ثم جاءت مرحلة اختصار الأسانيد والتي تتميز بانتشار الإسرائيليات وكثرة الوضع، ثم مرحلة ظهور التفسير العقلي والمذهبي، وهي المرحلة التي برزت فيها الاتجاهات المنحرفة في التفسير، وتمتد هذه المرحلة من العصر العباسي إلى يومنا الحاضر، فبعد أن كان التفسير مقصوراً على رواية ما نُقل عن السلف؛ بدأ الفهم العقلي والرأي المذهبي يختلط بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرج ملحوظ، فقد بدأ أولاً على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولاً ما دام الجانب العقلي راجعاً إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية، لكن ظلت محاولات الفهم الشخصي تزداد وتتضخم متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة، حتى وُجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة لا تكاد تتصل بالتفسير إلا من بعد عظيم، وغلب الجانب العقلي على الجانب النقلي، حتى صار أظهر شيء في هذه الكتب هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول أو بغير ذلك من المأثور.
وكان من نتيجة التوسع في التفسير بالرأي تحكّم المعتقدات المذهبية في عبارات القرآن الكريم تحكّما يخرج بالنص القرآني عن معناه المراد.
وعموماً كان من مظاهر تطور التفسير أن كل من برع في فن من الفنون يغلب على تفسيره –بصورة راجحة- فنّـه الذي برع فيه، فصاحب النحو أكبر همه الإعراب وسرد مسائل النحو كأبي حيان في تفسيره (البحر المحيط)، وصاحب العلوم العقلية جل عنايته بأقوال الحكماء والفلاسفة وذكر شبههم والرد عليها كما في تفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب)، والفقيه مبلغ همه مسائل الفقه كالجصاص وأبي بكر بن العربي، وصاحب التاريخ يكثر من القصص وأخبار من سلف، وكثيراً ما يخلط الصحيح منها بالأساطير والخرافات كما في تفسير الثعلبي والخازن، وأصحاب المذاهب الدينية والمواجيد الصوفية اهتموا في تفاسيرهم بتأييد مذاهبهم، أو شطحاتهم الصوفية.
وهكذا فسّر كل صاحب فن أو مذهبٍ القرآنَ بما يتناسب مع فنـّـه أو يشـهد لمذهبه، فكان لا بد من العمل على تمييز الصحيح من السقيم من تلك الاتجاهات، وبيان مسالك التفاسير المنحرفة ومناهجها للحذر منها، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك الاتجاهات المنحرفة، ثم بعد ذلك عرض هذه الاتجاهات وبيان ما لديها من انحراف عن الصواب.
أولاً: مبدأ ظهور الاتجاهات المنحرفة في التفسير والعوامل التي أدت إلى ذلك:
ظهور الاتجاهات المنحرفة في التفسير كان متزامناً مع مرحلتين من مراحل تدوين التفسير: مرحلة حذف الأسانيد، ولا شك أن حذف الأسانيد في مراحل التدوين الأولى فتح على المسلمين باب شر عظيم، حيث مكّن من تسرب الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، واستغله أصحاب المذاهب السياسية والبدع العقدية وغيرهم من أصحاب الأهواء والنزعات المنحرفة كثيراً بوضع أقوال نسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى بعض من اشتهر بالتفسير من الصحابة كذباً وزرواً، وذلك ترويجاً لمذاهبهم وتمكيناً لبدعهم، ثم جاء من بعدهم من نقلها مع غيرها من صحيح التفسير دون تمييز أو تحقيق، ودون أن يذكروا أسانيدها، فاغتر بها كثير من الناس وظنوا كل ما في تفاسيرهم صحيحاً.
والمرحلة الثانية التي تزامن معها ظهور الانحرافات في التفسير هي المرحلة التي انتشر فيها التفسير بالرأي وتغليب العقل والمذهب، حيث أدى التوسع في ذلك بعيداً عن الضوابط الصحيحة إلى إخضاع التفسير للميول الشخصية والمذاهب العقدية وغير العقدية، ولا سيما بعد أن اقتحمه غير المؤهلين له بنظراتهم الكليلة وعقولهم العليلة، ثم خرجوا على الناس بعبثهم وسخافاتهم التي يبرأ منها كتاب الله عز وجل.
والأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والخطأ في التفسير بالرأي ترجع إلى عاملين رئيسين يتفرع من كل واحد منهما بعض الصور:
- العامل الأول: يعتقد المفسّر معنى من المعاني، ثم يحاول حمل ألفاظ القرآن على ما اعتقده.
ولهذا العامل صور أربعة:
1- أن يكون المعنى الذي اعتقده المفسر أولاً ويريد حمل الآية عليه صواباً، ولكن لا تدل عليه ألفاظ الآية ولا يراد منها. والمفسر مع ذلك لا ينفي المعنى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل لا في المدلول. وهذه الصورة تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية، والوعاظ الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ولكنها غير مرادة، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، ومثال ذلك تفسير أبي عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم...) [النساء: 66]، بقوله: "اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم؛ أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم".
2- أن يكون المعنى الذي اعتقده المفسر ويريد حمل الآية عليه صواباً، ولكن لا تدل عليه ألفاظ الآية ولا يراد منها، والمفسر مع ذلك ينفي المعنى الظاهر المراد، فيسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ما يريد هو، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل لا في المدلول، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير بعض الصوفية الذين يفسرون القرآن بمعان إشارية صحيحة في حد ذاتها، ومع ذلك فإنهم يقولون بأن المعاني الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء أقرب ما يكون من تفسير الباطنية، ومن ذلك ما فسر به سهل التستري قوله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) [البقرة: 35]؛ فقال ما نصه: "لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره".
3- أن يكون المعنى الذي اعتقده المفسر ويريد حمل الآية عليه خطأ ولا تدل عليه ألفاظ الآية، والمفسر مع ذلك لا ينفي المعنى الظاهر المراد للآية، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً في الدليل والمدلول معاً، وهذه الصورة تنطبق على بعض ما ذكره المتصوفة من معان باطلة في التفسير.
4- أن يكون المعنى الذي اعتقده المفسر ويريد حمل الآية عليه خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ما اعتقده من خطأ فقط، وينفي كل معنى آخر، وعلى هذا يكون الخطأ في الدليل والمدلول معاً، مثل تفسير بعض المعتزلة قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:22- 23] بأن كلمة (إلى) تفسيرها النعمة، وذلك لينفي رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة مع أنها ثابتة بنصوص الكتاب والسنة.
- العامل الثاني: وهو تفسير القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه إن كان من الناطقين بلغة العرب، وذلك دون نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
ولهذا العامل صورتان:
1- أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي ذكره المفسر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ الذي يطلق في اللغة على معنيين أو أكثر، والمراد منه واحد بعينه، فيأتي المفسّر فيحمله على غير المعنى المراد، كلفظ (العين) الذي يُطلق على معان كثيرة، منها العين الباصرة، والذهب، والجاسوس، وعين الماء، فإذا حُـمل على معنى غير (عين الماء) في قوله تعالى: (عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان: 18]؛ يكون تفسيراً غير صحيح وإن احتمله اللفظ لغة.
2- أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنى بعينه، ولكنه غير مراد في الآية، وإنما المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلاً، فيخطئ المفسر في تعيين المعنى المراد؛ لأنه اكتفى بظاهر اللغة، فيشرح اللفظ على معناه الوضعي، وذلك كتفسير لفظ (مبصرة) في قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 59] بالإبصار بالعين على أنها حال من الناقة بمعنى أن الناقة نفسها تبصر وترى، وهذا خلاف المراد، إذ المراد بقوله تعالى: (مُبْصِرَةً): آية واضحة على صدق نبوّة صالح عليه السلام.
-----------
(*) هذه المقالات هي استعراض لأهم ما جاء في كتاب (الاتجاهات المنحرفة في التفسير دوافعها ودفعها) للدكتور محمد حسين الذهبي، وهو من العلماء الذين أولوا علم التفسير عناية عظيمة، وقد تخرج من الأزهر، ثم تابع دراسته العليا، ونال العالمية من درجة أستاذ عن رسالته: (التفسير والمفسرون)، وهي مطبوعة في ثلاثة أجزاء، وهو بحث يدل على رسوخ قدمه في علم التفسير والأصول. ومن مؤلفاته: التفسير والمفسرون – وقد سبق ذكره-، وكتاب الإسرائيليات، وهو كالتتمة للكتاب الأول، وكتاب الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها، وقد استخرجه من كتاب التفسير والمفسرون وزاد عليه.