الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه ، وبعد : ـ
راج في بعض مواقع الإنترنت وعبر البريد الإلكتروني لكثير من الطيبين نشْرة يزعم فيها كاتبها أنه توصل بعد بحث إلى تحديد ليلة القدر على وجه القطع واليقين .
ومهما يكن من حرص صاحب هذه الدعوى على الخير فإنه كم من مريد للخير لم يصيبه . ولا يعدوا أن يكون ممن اجتهد فأخطأ فله أجر ، والله يعفو عنا وعنه .
وقد سألني بعض إخواني من جماعة المسجد عن حقيقة هذه النشرة ، فجاءت هذه الوريقات إسهاماً في نصح إخواني المسلمين ومحاولة لكشف هذه الدعوى التي تلقى وأمثالها رواجاً دونما نظر أو تمحيص.
وهذا البحث اليسير هو جهد المقل وتطفل على مائدة العلماء فأقول مستعيناً بالله _تعالى_ :
إن القول بتحديد ليلة القدر على وجه القطع واليقين مردود من وجوه عده ينتظمها جوابان :
أحدهما مجمل والآخر ومفصل .
فأما المجمل منهما فهو :
مما ينبغي أن يشاع بين المسلمين أن القول بتحديد ليلة القدر بليلة بعينها كليلة الثلاثاء هو من تقيد ما أطلقه الشارع ، وقد قرر العلماء رحمهم الله ، أن من قواعد البدع تقييد العبادة بزمان أو مكان معين أو نحوهما بحيث يوهم هذا التقييد أنه مقصود شرعا من غير ما دليل صحيح .
ونص على ذلك شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى جـ 20 / صـ 196، 197 )
وكذا الشاطبي في ( الاعتصام جـ 1 / 485 ، 486 )
وأقتصر هنا على نقل ما ذكره الشاطبي ـ رحمه الله ـ طلباً للاختصار .
يقول _رحمه الله_: ( ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية، أن يكون أصل العبادة مشروعاً، إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل ، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها . . . ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً ، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات ... فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق ( الموافقة ) أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعاً زائداً).
وقد فصل في ذلك - من المعاصرين - فضيلة شيخنا الدكتور محمد الجيزاني في كتابه القيم ( قواعد معرفة البدع صـ 117 ).
والشاهد أن : تحديد ليلة القدر على وجه القطع واليقين في ليلة بعينها كليلة الثلاثاء أو غيرها هو من تخصيص ما أطلقه الشرع بدون دليل.
أما الجواب المفصل فهو من وجوه :
الوجه الأول : في تقرير خطأ التحديد لليلة القدر بليلة بعينها ، ومعارضة ذلك لدلالة القرآن والسنة القولية والعملية والتقريرية ، وبيان ذلك
الوجه الثاني : مخالفة الإجماع .
الوجه الثالث : مخالفة القياس .
الوجه الرابع : مخالفة المقاصد الشرعية .
الوجه الخامس : مخالفة اللغة .
الوجه السادس : مخالفة العرف .
الوجه السابع : مخالف العقل .
وأخيراً تتمة البحث وفيه مسألتان تتم بهما الفائدة :
الأولى : هل العلم بليلة القدر من الغيب المطلق أو من الغيب النسبي .
الثانية : بعض الشبهات والجواب عنها .
وقد أمسكت عنها في المقام لضيق الوقت ولعل الله أن ييسر ذلك قريباً .
الوجه الأول : في تقرير خطأ التحديد لليلة القدر بليلة بعينها ، ومعارضة ذلك لدلالة القرآن والسنة القولية والعملية والتقريرية .
ففي القرآن العظيم لم تقيد ليلة القدر بليلة بعينها ، وإنما فقط ذكر أنها في شهر رمضان ، والتقيد يحتاج لدليل .
يقول _تعالى_ : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (البقرة : 185 )
قال القرطبي _رحمه الله_ هذا نص على أن القرآن نزل في شهر رمضان ، وهو بيان لقوله _تعالى_ في سورة الدخان: "حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة ".
يعني ليلة القدر . ولقوله _تعالى_: " إنا أنزلناه في ليلة القدر" . وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره . ( الجامع لأحكام القرآن جــ 2/ 239 )
وأما ما ورد في السنة النبوية فقد جاء على أربعة صور .
الأولى : أنها في رمضان لا في غيره .
الثانية : أنها في العشر الأواخر لا في العشر الأولى ولا في العشر الوسطى .
الثالثة : أنها في الأوتار من العشر الأواخر .
الرابعة : أنها ليست في ليلة بعينها .
ومن جملة ما أورده البخاري ومسلم _رحمهما الله_ في صحيحيهما ما أخرجاه من حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_ عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرياها في السبع الأواخر" .
ولهما من حديث أبي سعيد قال: اعتكفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان ، خرج صبيحة عشرين فخطبنا قال: إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ـ_ أو نسيتها_ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر ، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف معي فليرجع ، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل . وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله ـ -صلى الله عليه وسلم - ـــ يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته ـ صلى الله عليه وسلم ــ
وللبخاري في حديث عائشة _رضي الله عنها_ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " .
وله عن بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلةَ القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " .
وجاء عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ، قال: قلت: ما التاسعة وما السابعة وما الخامسة ، قال: إذا مضت واحدة وعشرين فلتي تليها اثنتين وعشرين وهي التاسعة ، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة .
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهر في كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ، وفي العشر الأواخر وفي الأوتار منها فهذه الصور الثلاث ثابتة بدلالة السنة عليها ، أما الصورة الرابعة وهي القطع بأنها في ليلة بعينها كما زعم صاحب النشرة من كونها ليلة الثلاثاء فالأحاديث لا تدل على ذلك .
وما تقرر هنا هو ما جزم به الحافظ بن حجر في الفتح جــ 4 / 330
وبشي من التحليل لهذه النصوص المتقدمة نجدها تضمنت قرآئن تفيد القطع فيما تقرر .
ـــ وأبرز هذه القرائن ( في ) الظرفية .
فمن المقرر عند علماء الأصول أن ( في ) تفيد الظرفية وهي هنا تفيد الظرفية الزمانية ، فدل على أن ليلة القدر في رمضان لا في غيره وفي العشر الأواخر منه قطعاً .
ـــ القرينة الثانية وهي قرينة لفظية .
الأعداد ( السبع) و( العشر ) و (الوتر ) . فهذه قرآئن لفظية تفيد النصية في الدلالة ، فالأعداد من باب النص لا من باب الظاهر ، كما هو معلوم في علم الأصول . ولهذا قال العلامة الصنعاني ، ( أحاديث : أنها في العشر أو السبع أحاديث واسعة ، ودلالة اسم العدد نص في معناه ) . ( العدة جـ 3 / 256)
ـــ القرينة الثالثة أن أحاديث تحري ليلة القدر في الأوتار مقيدة لمطلق أحاديث التحري في العشر أو السبع . والقاعدة عند الأصوليين أن المطلق يحمل على المقيد لاسيما إذا اتفقا في الحكم والسبب . وهما هنا متفقان .
ففي الحكم استحباب التماسها وتحريها ، والسبب فضلها . وهذا ما يظهر لي من سياق البخاري لحديث عائشة عقب حديث بن عمر وأبي سعيد .
ومثله صنع الحافظ عبد الغني المقدسي في (عمدة الأحكام)، وتبعه على ذلك شراح العمدة كابن دقيق العيد والصنعاني في حاشيته على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد .
ومما يشهد لبطلان تحديد ليلة القدر بليلة بعينها على وجه القطع واليقين ، ما أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت _رضي الله تعالى عنه_ قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر فتلاح رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاح فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم . فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة .
وقد بوب البخاري بهذا الحديث بقوله ، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس .
والعلماء يقولون فقه البخاري في تراجمه0 وأنت تلاحظ في ترجمة البخاري أمران :
الأول : أنه ترجم للحديث بجملة اسمية مثبته ، وهذا يعني أنه يرى أن رفع المعرفة بليلة القدر على وجه القطع والدوام باق لم ينسخ ، وأنه لا مطمع لأحد بعد ذلك في القطع بها .
الثاني : أن سياق البخاري للترجمة جاء معللاً . يقول الحافظ بن حجر : قوله : ( باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس ) أي: بسبب تلاحي الناس . ( الفتح جـ 4 / 340 ) .
أما السنة الفعلية ، فأبرز مظاهرها اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - طوال العشر وديمومته على ذلك حتى انتقل إلى ربه ، يقول الحافظ بن رجب ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . كان يجتهد في رمضان على طلب ليلة القدر ، وأنه اعتكف مرة العشر الأول منه ، ثم طلبها فاعتكف بعدها العشر الأوسط ، وأن ذلك تكرر منه -صلى الله عليه وسلم - غير مره ، ثم استقر الأمر على اعتكاف العشر الأواخر في طلبها . ( لطائف المعارف صـ 353 ) .
أما دلالة السنة التقريرية ، فإقراره - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وغيرها من الصحابة في تحري ليلة القدر ، فقد أخرج الترمذي وغيره من حديث عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : - صلى الله عليه وسلم – قولي:" اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " [ وقال حديث حسن صحيح ]. فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم القطع بليلة القدر بليلة بعينها ، فالعرب تستعمل ( إن ) لما يمكن وقوعه وعدم وقوعه, فأما يقع لازماً أو غالباً فيقولون فيه إذاً .
ولو كان يعلم ليلتها - صلى الله عليه وسلم - على وجه اليقين لدل عليها أحب الخلق إليه. فهذا أفصح الخلق وأحسنهم بياناً، وهذا تقريره، فهل بعد هذا حجة لأحد كي يقطع بأن ليلة القدر في ليلة بعينها .
الوجه الثاني من أوجه إثبات بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع وهو مخالفة إجماع الصحابة .
وقد حكى هذا الإجماع الحافظ بن حجر _رحمه الله_ في الفتح فقال بعد أن ساق البخاري من أحاديث: " وفي هذه الأحاديث رد لقول أبي الحسن الحولي المغربي، إنه اعتبر ليلة القدر فلم تفته طول عمره، وأنها دائماً تكون ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد، كانت ليلة تسع وعشرين وهلم جرا، ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط لضرورة أن تكون أوتار العشر خمس. وعرضه من تأخر عنه، فقال: إنها تكون دائماً ليلة الجمعة ، وذكر نحو قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، بل هو مخالف لإجماع الصحابة في عهد عمر ـ رضى الله عنه ــ " ( الفتح 4 / 339 ) .
الوجه الثالث من أوجه إثبات بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع وهو مخالفة دلالة القياس .
فقد حرم الله _تعالى_ القول عليه بغير علم ونعى على المشركين تحريم ما أحل لهم أو تحليل ما حرم عليهم ؛ لأنهم في هذا يضاهئون ما شرعه إطلاقاً وتقيداً وإباحة ومنعاً . ومضاهاة الشارع في تخصيصاته أو تقيداته من غير دليل هو البدعة . وهذه العلة ــ وهي المضاهاة ــ متحققة في ما يدعيه صاحب النشرة من القطع بكون ليلة القدر في ليلة الثلاثاء . وإلى هذه العلة أشار الشاطبي في الاعتصام كما تقدم .
ومن المقرر عند علماء الأصول أن العلة قد تعم معلولها . كما يقول العلامة الشنقيطي _رحمه الله_ في (أضواء البيان) .
الوجه الرابع من أوجه بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع وهو مخالفة مقاصد الشريعة .
قرر علماء الإسلام _رحمهم الله_ أن هذه الشريعة جاءت بجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها ، وعلى هذه القاعدة تقوم رحى الإسلام .
والقول بتحديد ليلة القدر بليلة بعينها على وجه القطع يناقض مقصود الشارع من وجهين :
الأول أن الله _تعالى_ أخبر بفضل هذه الليلة ، وهذا يقتضي أن الله _تعالى_ يريد من عباده أن يطلبوها وأن يحرصوا عليها ولهذا جاءت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ نادبة إليها .
ففي حديث عبادة بن الصامت المتقدم عن البخاري ، أنه لم أخبر _عليه الصلاة والسلام_ أنها رفعت قال : "وعسى أن يكون خيراً لكم" . قال الحافظ بن حجر: فعسى أن يكون خيراً لكم ،فإن وجه الخيرية من جهة أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر أو العشر بخلاف لو بقيت معرفة عينها " . ( الفتح ص 4 / 340 ).
نقل الحافظ بن حجر في الفتح عن السبكي الكبير قوله : إن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كله فيما قدر له ، فيستحب إتباعه في ذلك .
وقال الحافظ ابن كثير _رحمه الله_ : " وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العباد جميع الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر ، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله _عز وجل_ ، ثم اعتكف أزواجه من بعده " ( منقول عن عمدة التفسير 3 / 712 )
الوجه الثاني : ما يترتب على القطع بتحديدها في ليلة بعينها من الحرج على الأمة . فكم رأى الناس من تدافع وتزاحم عند الحرمين ، ولا سيما في ليلة السابع والعشرين ، وهي أرجى الليالي ، فكيف إذا قيل للناس: إن ليلة القدر في الليلة الفلانية على وجه القطع ، فلا شك أنه سيترتب من المشقة والحرج ما يقطع الناظر أنه مرفوع عن هذه الشريعة بنص كتاب الله " ما جعل عليكم في الدين من حرج ". وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، وهي هنا نص في العموم بقرينة ( من ) .
الوجه الخامس من أوجه إثبات بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع وهو مخالفة اللغة .
فلا ريب أن فهم نصوص الوحيين ، وفق معهود العرب في الكلام والأساليب أصل قرره أهل العلم ، لأن هذه الشريعة المباركة عربية .
وبنظرٍ معجمي إلى المعنى الدلالي لصيغة ( التمسوا ) و ( تحروا ) و ( تحيينوا ) ولم استقصي كل ما ورد وإنما أردت أن أشير إلى استعمال العرب لهذه المفردات فالالتماس والتحري والتحين أطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ وهو أفصح العرب وأنصحهم للأمة وأعلمهم بمراد الله من كلامه ، ولازم كلام الله ورسوله حق .
قال ابن منظور في لسان العرب : " ومن أحر به اشتق التحري في الأشياء ونحوها ، وهو طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن ، وذكر من معاني التحري الاجتهاد في الطلب " ( اللسان 4/ 101 ، 102 ، مادة حري ) . فانظر كيف أن العرب تستعمل مادة التحري في طلب الأشياء التي لا يقطع بحصولها . ومن هنا ندرك سر اختيار الرسول ــ -صلى الله عليه وسلم - ـــ لهذه اللفظة دون غيرها من العبارات كقوله اشهدوا أو غير ذلك .
ومثل ذلك نجد المعنى الدلالي للالتماس قال ابن منظور : "الالتماس الطلب والتمس التطلب مرة بعد مرة أخرى . . . وفي الحديث من "سلك طريقاً يلتمس فيه علماً" ، أي: يطلبه فاستعار له اللمس ، وحديث عائشة "فالتمست عقدي ..." " ( جـ 13 / 232مادة لمز ) .
فلاحظ أن التماس الطريق المعنوي .. طريق العلم ، والتماس العقد ليس التماس لمقطوع به ، بل طلب لشيء يظن حصوله من غير يقين بذلك . فدل على أن القطع بليلة القدر يخالف ما يفهم من كلام العرب .
الوجه السادس من أوجه إثبات بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع هو مخالفة دلالة العرف في استعمال لفظ التحري والالتماس .
فقد جرى عرف الناس في هذه البلاد وغيرها في استعمال التحري كمصطلح فيما يغلب على الظن حصوله لا في ما يقطع بحصوله ، ولهذا كثيرا ما تأتي بيانات، مجلس القضاء الأعلى في هذا البلاد بطلب تحري رؤية الهلال في رمضان وأشهر الحج .
ومثل ذلك مصطلح الالتماس ، فإنه يطلق على طلب إعادة النظر في الحكم النهائي كما هو شائع في قانون المرافعات وطلب الطعن ( الالتماس ) قد يقبل وقد لا يقبل , فهو استعمل لمصطلح الالتماس في طلب ما يظن حصوله . لا فيما يقطع أو يتيقن .
الوجه السابع من أوجه إثبات بطلان تحديد ليلة القدر على وجه القطع وهو مخالفة العقل .
فإن التحديد من غير دليل معتبر وإذا كان الرسول ـ -صلى الله عليه وسلم - ــ أعلم الناس وأفصحهم وأنصحهم لأمته ، وكذا كان أصحابه من بعده أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما بمراد الله ورسوله ، فلو كان الانشغال بمثل هذا التحديد والقطع به فيه خير لأوشك أن يدلوا الأمة عليه . فإن من المتقرر عقلاً أن الدواعي إذا توافرت على طلب فعل وهو مباح فضلاً أن يكون مستحباً استحباباً شديداً كليلة القدر ، فلا بد أن يوجد ، فلما لم ينقل عن واحد منهم الدلالة على مثل هذا التكلف من التحديد والحساب والتعين لليلة القدر علم أن هذا لا سبيل إليه .