استعرضنا في المقالة السابقة عدداً من مقاصد وأحكام الصيام. ونستكمل في هذه المقالة بعض ما فيها، ومنها:
3ـ تذكر المحرومين ومواساتهم:
إنَّ الصيـام مواسـاة وإحســانٌ قـضـى بــذلــك قـرآن وبــرهـان
نعم الصيام مع المعروف تبذله وليس فيه مع الحرمان حرمـان
من مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، وتذكُّر الفقراء الذين يقاسون الحرمان أبد الدهر، فيتذكر العبد إخوانه الفقراء وكيف أنَّهم يعانون الأمرَّين من الجوع والعطش، قال العلامة ابن الهمام عن الصائم: "إنَّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر مَنْ هذا حالُه في عموم الأوقات، فتسارع الرقة عليه"(فتح القدير2/42)، ومن تدبر ذلك هيَّأ قلبه لمواساة الفقراء بالمال والإطعام والتصدق والبذل والجود والإحسان؛ لأنَّهم إخوانه المؤمنون، وهذا من أعظم التكافل الاجتماعي، والذي يجعل العبد يشعر بشعور معاناة أخيه الفقير ومعدوم المال، وقد ذكر ابن رجب ـ رحمه الله ـ عن بعض السلف أنَّه سئل:"لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع". (لطائف المعارف/صـ314).
ورحم الله الإمام القسطلاني حين كتب:"وإنَّما يجد ذوق التعب من نازله، ويعرف قدر الضرر من واصله، وفي مثل ذلك قيل:
لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده ولا الصبابة إلاَّ من يعانيها"
(مدارك المرام في مسالك الصيام/ للقسطلاَّني/صـ74)
فما أجمل مقصد الشارع الحكيم في مشروعية الصوم، ولا ريب أنَّه يسبب تآلف أرواح الصائمين، وليس شيء أقوى من هذه الإرادة المتينة، فأين نحن إذن من شعورنا بمعاناة إخوانٍ لنا فراشهم الأرض، ولحافهم السماء، وأكلهم ضئيل، وزادهم أقلُّ من القليل، أفلا يليق بنا أن نشعر بمعاناتهم، ونكون ممَّن يواسيهم، خاصَّة أنَّ العلماء ذكروا أنَّ من أسماء هذا الشهر:(شهر المواساة) حيث يواسي فيه الأغنياء، إخوانهم الفقراء والمعدمين. ونتأسَّى برسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ حيث إنَّه كما ذكر ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ قال:"كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان" أخرجه البخاري (1902) ومسلم(2308)
ولهذا استحبَّ العلماء تفطير الصائمين المساكين خصوصاً، والمسلمين الموسرين عموماً لإطعامهم، والشعور بالتكافل الاجتماعي فيما بينهم، وتوثيق الروابط الاجتماعية لديهم؛ فقد أخرج البيهقي بسنده عن أمِّ عمارة بنت كعب الأنصارية أنَّ النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ دخل عليها فدعت له بطعام، فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:"إنَّ الصائم إذا أُكِل عنده صلَّت عليه الملائكة حتَّى يفرغوا" (السنن الكبرى 4/305) وفي رواية الترمذي وزاد:( وربَّما قال: حتَّى يشبعوا) أخرجه الترمذي وحسَّنه. وليس معنى تفطير الصائم هو أن تعطي صاحبك أوالفقير بضع تمرات ورطبات وماء، بل معنى ذلك أن تفطر الصائم وتشبعه كما ذكر الإمام ابن تيمية، حيث قال:"والمراد بتفطيره أن يُشبعه"(الاختيارات الفقهية/ ص109) ويستدل لذلك بما في الحديث المذكور آنفاً.
ومن الأحاديث الدالَّة على استحباب تفطير الصائم، قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:"من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيء" أخرجه الإمام أحمد(2/174) وصحَّحه الألباني في الإرواء(1415)، ومنها حديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، مرفوعاً إلى رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:"من سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتَّى يدخل الجنَّة".
والمراد أنَّ من بيده شيئاً من المال الفائض فليقدم شيئاً منه لإخوانه الذين لا يجدون ما يأكلون وما يطعمون، وإنَّ من خير التصدق؛ التصدق في شهر الصوم، حيث يضاعف الله فيه الدرجات، ويزيد الحسنات، ومن هذا المنطلق فإنَّ أهل العلم كانوا يستحبُّون استحباباً كبيراً التصدق في هذا الشهر، قال الإمام الشافعي: أحبُّ للرجل الزيادة بالجود في رمضان، اقتداءً برسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم!(لطائف المعارف/صـ315)
4ـ حفظ الصِّحَّة:
من حِكَمِ الصيام؛ أنَّ فيه فوائد صحية كثيرة وفيه راحة للبدن، وإجازة للجهاز الهضمي لإعطائه فترة من الزمن يستريح فيها من الامتلاء والتفريغ فيحصل له استجمام وراحة يستعيد بها نشاطه وقوته، ولا شك أنَّ المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، كما قال طبيب العرب الحارث بن كلدة.
وليس من شكٍّ أنَّ الصوم فيه صحَّة وراحة للإنسان، وأنَّه مقاوم لأمراض عدَّة قد تجتاح جسم الإنسان، أو أنَّه يخفف من وطئتها إذا ابتلي بها الجسم، ومن فوائد الصيام الصحية: الوقاية من الأمراض وخاصة أمراض المعدة، وزيادة الوزن، وزيادة الدهون، وزيادة الضغط، والسكري، والتهاب المفاصل.
ولهذا فإنَّ بقراط الملقب بأبي الطب اليوناني قد استعمل الصوم كعلاج خلال الأيام الأولى من المرض، وكان يصف أنواعاً مختلفة من الصوم تتناسب مع المرض الذي يصاب به الشخص المريض(انظر: الصوم علاج كلِّ الأمراض ـ للدكتورة: أميَّة لحُّود: صـ8).
تقول الدكتورة(أميَّة لحود):" لقد أجريت عدَّة تجارب على بعض الطلاب، أثبتت أنَّ الصوم لمدة قصيرة يزيد في قدرة هؤلاء الطلاب الذكائية والفكرية، ويجعل منهم طلاباَ يملكون منهم قدرة أكثر على استيعاب دروسهم وحفظها، أمَّا السبب لكل هذا فهو أنَّ الصوم يتيح للجسم أن يطرح كل السموم المتراكمة، فيصبح الدم نقياً، ويتغذى به الدماغ بطريقة أفضل" (الصوم علاج كل الأمراض/ صـ19ـ20)
ولا ريب أنَّ ذلك يوضح عظمة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ في أنَّه ما شرع لنا شيئاً إلا وفيه من سبل الخير والنفع الشيء الكثير.
ولقد وعى الأطباء أهمية الصوم وصاروا يقدمونه على كثير من أنواع الأدوية والعلاج، فيقول الدكتور(نيكولاي):"إنَّه من المهم أن نطلب من المريض أن يصوم ويخسر بعضاً من وزنه من أجل أن يحصل على الشفاء التام، خير من أن نملأ بطنه بالعقاقير والأدوية وجميع أنواع الغذاء".
بل إنَّ الدكتور(وولف بايير)الألماني وضع كتاباً عنوانه:(العلاج بالصوم علاج المعجزات) وأكَّد أنَّ الصوم، هو الواسطة الأكثر فعالية من أجل القضاء على كل الأمراض، وساوى أهمية الصوم بأهمية الجراحة).
وقد ذكرالشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ عن بعض أطباء الإفرنج أنَّه قال:"صيام شهر في السنة يذيب الفضلات الميتة في البدن منذ سنة" (تفسير المنار 2/145).
وفي هذا يقول الدكتور: محمد محمد أبو شوك في مقالة له:(الصوم والجهاز العصبي):" فإلى من يتردَّدون إلى عيادات الأطبَّاء، طلباً لدواء يذهب عنهم التوتر العصبي، والأرق، والكآبة، وغيرها من الأمراض، التي تذهب بالعقول؛ هاكم رمضان، لو تمسَّكتم بروحانيته، وما يضفيه على نفوسكم من خير لما احتجتم في يوم من الأيام، إلى ما لا نهاية له من علاج ودواء" بيدَ أنَّ بعض الناس لا يعطون لهذا الشهر مقصده من ذلك لترويض النفس على التقلُّل من الأكل، كما ذكر الإمام الغزالي بأنَّ"مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى" (إحياء علوم الدين1/230)
والعجب حين تجد كثيراً من الناس حين يقدم هذا الشهر المبارك يذهب إلى السوق ويشتري من الحاجيات ما يفوق شراؤه لأكثر من ثلاثة أشهر، من المأكولات والمشروبات والحلويات وما إلى ذلك، وكأنَّ هذا الشهر شهر أكلات ووجبات! ولهذا زادت كثير من أمراض الناس لكثرة أكلهم، حتَّى إنَّ الإنسان لو ذهب إلى المسشفيات لوجد أنَّ أكثرها من قسم الباطنية والأمراض المتعلقة بكثرة الأكل والشرب، حتَّى إنَّه صار ملحوظاً كثرة السمنة والترهل بسبب كثرة المطعومات وإدخال الطعام على الطعام، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول:"وكلوا واشربوا ولا تسرفوا". قال بعض العلماء:"جمع الله بهذه الآية الطبَّ كلَّه".
وقد كان أسلافنا الكبار ينهون عن كثرة الأكل؛ فقد قال لقمان لابنه:(يا بني! إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة). وقال حاتم الطائي وهو المشهور بكرمه:
فإنَّك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذمِّ أجمعا
ولهذا فقد ذكر علماء الطبِّ أنَّ تناول الفطور حتَّى الشعور بالتخمة يؤدِّي إلى إفساد الفوائد الصحية للصوم، ولهذا فإنَّه ينبغي على المسلم أن يكون محافظاً على تلك الفوائد المجنية من شهر الصيام، ولا يفسدها بكثرة الأكل والإسراف في المشتريات من المطعومات، ولقد قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني:"من الإسراف الأكل فوق الشبع، ومن الإسراف الاستكثار من المباحات والألوان، ومن الإسراف أن يضع على المائدة من ألوا ن الطعام فوق ما يحتاج إليه الأكل"(كتاب الكسب للشيباني/ صـ 79ـ83).
فهل يعي المسلمون أنَّ هذا من الإسراف؟! وإنَّ المرء ليستغرب من الكثير من أبناء المسلمين، حين يجدهم يتهافتون على الأكل من أصناف عديدة بعد صيامهم، وكأنَّهم لم يأكلوا مدَّة شهر، ولو نصحهم أحد بتخفيف ما يأكلونه، وعدم الإسراف فيما يقدِّمونه من مطعم ومشرب، لضجُّوا وأكثروا، وقالوا ألا تعلم أنَّنا قد صمنا عشر ساعات فأكثر، ولم نطعم أكلاً ولا شراباً؟ فعجباً من هؤلاء، وحقَّ أن يقال فيهم مقولة الشيخ:أحمد شهيد الحلبي باللهجة الشاميَّة:(نأكل بالأرطال، ونشرب بالأسطال، بدنا نكون أبطال، هذا شيء بطَّال!!)
5ـ تقوية الإرادة وتحقيق الصبر:
من مقاصد الصيام التحلي بفضيلة الصبر، وتقوية الإرادة، فالصيام كما قال السباعي ـ يرحمه الله ـ "رجولة مستعلنة وإرادة مستعلية" (أحكام الصيام / صـ89) وحين خرج قوم طالوت معه للجهاد في سبيل الله ومقاتلة عدو الله جالوت، ابتلى الله ـ عز وجل ـ قوم طالوت بالصوم والإمساك عن الشرب من النهر، وأنَّ من شرب منه لم يستطع أن يجاهد شهوة نفسه ويصبر عليها؛ فكيف يريد أن يجاهد الكفار أعداء الله ـ عز وجل ـ، ومن مرَّ من هذا النهر وصبر وصابر على الصوم فإنّهَ سينال شرف الجهاد في سبيل الله، والانتصار على الكفار.
ولهذا قال _تعالى_:"فلما فصل طالوت بالجنود قال إنَّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم" وهؤلاء القليل الذين لم يشربوا من هذا النهر وصبروا على ذلك هم الذين نالوا العز والمجد والنصر على قوم جالوت الكافرين.
ومن هنا فإنَّ الصوم من أعظم المدارس التربوية التي تعين المرء على التربي على فضيلة الصبر والمصابرة، كيف وأنَّه _تعالى_ قال:"واستعينوا بالصبر والصلاة" وقد فسَّر بعض العلماء الصبر المقصود بالآية بأنَّه:الصوم، قال ابن رجب:" فإنَّ الصيام من الصبر، وقد قال الله ـ تعالى ـ:"إنَّما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب" (لطائف المعارف/صـ283) وقد جمع الله في هذه المدرسة أنواع الصبر الثلاثة التي ذكرها العلماء، وهي:
أ ـ الصبر على طاعة الله، بأن تصبر نفسك على هذه الطاعة، وتصومها إيماناً بالله، وابتغاء لدرجاته، واحتساباً لثوابه.
ب ـ الصبر على معصية الله، وذلك بأن يتعود العبد على الصوم عمَّا حرَّم الله ـ عزَّ وجل ـ في هذا الوقت من أكل المفطرات التي تفسد صومه، أو الصبر على المعاصي والفواحش والذنوب وموبقات الأعمال؛ فكلما أراد أن يفعل العبد معصية تذكر أنَّه في صوم وعبادة فيصبر نفسه على عدم فعلها ابتغاء لثوابه سبحانه.
ج ـ الصبر على أقدار الله، وهذا أمر واقع في الصوم فإنَّ الله _عزَّ وجل_ قد قدَّر على المسلمين الصيام، وألزمهم به، فيلزمهم أن يطيعوا الله، ويستسلموا لأوامره، وينقادوا لأقداره، ومن ذلك ما يلاقيه المسلم من الجوع والعطش في تأدية هذه العبادة.
وقد ورد كما عند الترمذي وحسَّنه، وابن ماجه:(إنَّ الصوم نصف الصبر) وجاء في الحديث:(صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدر) أخرجه البزار عن علي وابن عباس، وأخرجه الطبراني والبغوي عن النمر بن تولب (انظر صحيح الجامع الصغير(3804)، ومعنى وحر الصدر:أي غشَّه ووساوسه، وقيل: الحقد والغيظ، والله أعلم.
فإذا صبر الإنسان على ذلك فإنَّ الله يوفيه أجره بالثواب الجزيل، والخير العميم، وقد قال _تعالى_:"ذلك بأنَّهم لا يصيبهم ظماٌ ولا نصبٌ ولا مخمصة في سبيل الله ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً إلاَّ كُتِبَ لهم به عمل صالح".
وحيث إنَّ الصوم مدرسة للصبر، فهو أيضاً مدرسة لتربية الإرادة، (وقد وضع أحد المفكرين الألمان كتاباً في تقوية الإرادة، فجعل الصوم هو الأساس، وذهب فيه إلى أن الصوم هو الوسيلة الفعَّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش المرء وهو قوي الإرادة، متصلب العزيمة)(الصوم مدرسة تربي الروح ـ للشيخ: عبدالرحمن الدوسري).
6ـ التدريب على الدقَّة والنظام واحترام المواعيد:
ويكفي شاهداً على ذلك قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:"إذا أذن بلال فلا تمسكوا، ولكن أمسكوا إذا أذَّن ابن أم مكتوم" أخرجه البخاري ومسلم، والفرق بين أذان ابن أم مكتوم وأذان بلال كما في الحديث:(ما بينهما إلاَّ أن ينزل هذا ويصعد هذا)!
فلنتأمَّل هذه الدِّقة في كيفية الإمساك عن الطعام وقت الصوم من خلال هذا الحديث، لكي تتربى النفوس على دقة المواعيد، وعلى الاهتمام بالأوقات، إلاَّ أنَّه ويا للأسف قد دارت رحى الأيام واستلقت على القاع القمم، فصرت ترى الكفرة والملحدين، يطبقون هذا الخلق الجميل فيما بينهم، فهذا هرتزل خطَّط بأن يقيم منظمة صهيونية خلال خمسين سنة فأفلح ومن معه في إنشائها بل أقام دولة كاملة(إسرائيل) في أقل من خمسين سنة!
فيتوجب علينا أن نستفيد من الهدي النبوي في أهمية الانضباط في المواعيد، والاهتمام بترتيب الأوقات، ليكون ذلك ديدننا مدى العمر.
7ـ تجديد الطاقة، وتوجيه الهمَّة نحو العمل:
ومن مقاصد هذا الشهر تعويد البدن على العمل والحركة والنشاط، وكثرة الطاعات، وألوان العبادات، وأشكال البر والخيرات؛ ذلك أنَّ في هذا الشهر حيوية واضحة، ودورة إيمانية تربوية لائحة.
ويعجبني ما قاله الدكتور: بدران الحسن في مقال له بعنوان:(رمضان وتوحيده الأمَّة ثقافياً واجتماعياً) حيث يقول:"إنَّ رمضان يعلِّم الناس الإنجاز العملي، والإعراض عن الخوض في ما لا ينفع من القول، أو بتعبير مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ إنَّ رمضان يعلِّمنا (المنطق العملي) فنتحوَّل من القول وفق ما يقول القرآن، إلى العمل بما يقول" ا.هـ.
ومن يلاحظ كثيراً من دور المسلمين وبيوتهم خلال هذا الشهر، فسيجد فيها الركود والتثاقل عن العمل، أو أنَّ بعضهم يبدأ هذا الشهر بهمَّة وثابة، وعزمة تواقة لكل خير، وما أن تمضي خمسة أيام أو عشرة حتَّى تجد الركود قد سرى في جسمه، والكلل بان على محياه، والملل صار طابعه في العمل.
لكنَّ الملاحظ في حياة الصحابة والسلف الصالح؛ قوَّة النشاط في تحري الخير، وكثرة العمل الصالح في هذا الشهر، ومن ذلك الغزوات والسرايا الكثيرة التي خرجت للجهاد في سبيل الله، ومنها معركة بدر في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة، وفتح مكة في اليوم العاشر من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وقد كان هذا في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ثم أتت من بعده الفتوحات الإسلامية العظيمة، التي شرَّفت وجه الأمة الإسلامية بكثرتها لإدخال الناس في سبيل الله، وتحطيم الطواغيت التي تحول بين عوام الكفار وبين الدخول في الإسلام، ومن هذه الغزوات وقعة البويب في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وفتح النوبة في السنة الحادية والثلاثين من الهجرة، وفتح الأندلس في الثانية والتسعين من الهجرة، والفتوح الإسلامية للمسلمين في فرنسا في السنة الثانية بعد المئة من الهجرة، وفتح عمورية في السنة الثالثة والعشرين بعد المائتين الهجرية، وتوالت الفتوحات بعد ذلك بفتح حارم، وصفد، والمعركة العظيمة عين جالوت، وفتح أنطاكية، وفتح أرمينيا الصغرى، ومعركة شقحب، وفتح جزيرة قبرص في عهد المماليك، وفتح البوسنة والهرسك، وفتح بلاد الصرب وعاصمتها بلغراد.
كلُّ ذلك دليل واضح على أنَّ شهر رمضان، شهر عبادة وعمل وفتوح وانتصارات، لا شهر رفاهية، وكثرة وجبات، والتفنن في الأكلات، حتَّى إنَّه لو قدم قادم من دولة كافرة ورأى كثرة ذهاب الناس للأسواق قبل بداية شهر رمضان؛ لظنَّ أنَّ الشهر القادم شهر عيد وأعراس واحتفالات وتجمعات، فنسأل الله المزيد من عفوه.
والمراد أنَّه ينبغي على أهل الصيام أن يشدوا عزائمهم في السير نحو كلِّ طاعة، ويواصلوا عملهم الصالح في هذا الشهر، ويواكبوا مع تلك الأعمال الصالحة، حسن الخلق والبشاشة في وجوه الخلق، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند بسند حسن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال:(إنَّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، فما البال وأهل الصيام صائمون في شهر رمضان، فماذا سيدركون مع صومهم وحسن خلقهم من الأجور الكثيرة، والحسنات الغزيرة من الكريم المتعال ـ سبحانه وبحمده ـ؟
نسأله ـ سبحانه ـ التوفيق والسداد، والهدى والرشاد، وعلى الله الاتِّكال، ومنه الاستمداد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين.