فن الفتوى عند الإمام مالك
26 ذو القعدة 1426

"لا يُفتى ومالك في المدينة", لم يكن مخاضها عبر قصة أو حادثة، أو عن طريق استثناء أو هبة من مخلوق، بل تمخضت من خلال دهر طويل، ودروب متفرقة، تلتقي جميعاً في خضم علم وفير، ودين متين، وحاجة مطروحة، ونوازل مستجدة، فالعلم يحتاج إلى زكاة، والورع يحث على السلامة، وحاجات تحتاج قضاء، ومسائل تفتقر إلى حل، فلا ضير بعد ذلك أن نرى الدموع تتسابق على وجنتي الإمام، والرأس يُطرق، والجبين يعرق، والأرض بين يديه تُنكت بعود!

إنه يعلم العاقبة، ويُدرك فداحة الخطب، وأن المقام مقام تكليف، والموقف موقف فتنة وحظوظ، كما أن لديه نماذج حية من أُناس قد زلقوا في منحدرها فيقول: ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه – الحلال والحرام - والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا".

فإن كانت هذه الملاحظة في زمانه، فكيف بزماننا! وقد أصبحت اليوم مهنة من لا مهنة له، مما يستدعي جهوداً حثيثة لتسترد الفتوى هيبتها، وتعود إلى لمعانها وبريقها، ومن ذلك طرح النماذج الحية من علماء الأمة وفقهائها، وجمع قصصهم ومواقفهم وأقوالهم وأحوالهم، وضخ ذلك كله عبر قنوات الاتصال الممكنة، ليهلك بعد ذلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.

و الإمام مالك من فرسان هذا المجال ورواده، وهو ممن نصح في هذا وعلّم، شأنه شأن غيره من الأئمة والأعلام، الذين لهم قدم صدق في الدعوة إلى الحق والنصح للخلق، فدعونا نقف مع هذا الإمام وقفات نغرف من معين سيرته ما يعين في هذا المجال، وسنتجاوز في ذلك بعض العموميات، والمواقف الظاهرة والمشتركة مع غيره، إلى مواقف عميقة وحية، أحسب بعضها من العلامات الفارقة التي تميز بها الإمام مالك وأتقنها حتى أصبح علماً في مجال الفتوى ومضرباً للمثل فيها:

أولاً: هل يراني موضعا لذلك؟
إن الفتوى ليست مكاناً واسعاً، ولا روضة غناء ينزل من شاء في جنباتها، بل هي طريق وعر ضيق، يحتاج من يتجاوزه إلى زاد يتزود به، ودليل يختصر له طول الطريق ويُذلل عقباته، والخطر يكمن حين يعتد المرء بنفسه، ويقتحم الطريق بلا زاد ولا دليل، فيسقط حينئذ من يسقط، ويتيه من يتيه، وربما يموت من يموت!

من أجل هذا وغيره يقول الإمام مالك: ما أجبت في الفتيا حتى سألت من هو أعلم مني, هل يراني موضعا لذلك؟ سألت ربيعة, وسألت يحيى بن سعيد, فأمراني بذلك, فقيل له: يا أبا عبد الله فلو نهوك؟ قال: كنت أنتهي, لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه.
إنه منهج سديد أن يبدأ المرء من حيث انتهى الآخرون، ويختصر كثيراً من الجهد والعناء والوقت، ويُضيف عقول الآخرين وتجاربهم إلى ما يملكه من علم وخير.

إن الاستبداد بالرأي، والاعتداد بالنفس، غالباً ما يجر الويلات، ويوقع في الأخطاء، ويُشوش كثيراً من صفاء الحق ولمعانه، ولعل أهلية الفتوى واستحقاقها من أهم الأمور التي ينبغي الاعتناء بها، حيث أن من خلالها يُعرف الخير من الشر، والصحيح والخطأ، كما يمكن من خلالها التلبيس والتشويش والتخليط، ولعل نظرة واحدة في واقعنا، تجعلنا ندرك خطورة الفتوى إذا انحرفت عن مسارها الصحيح، مما يستدعي تضافر الجهود لدرأ الفتنة عن الأمة، وسد الطريق على كل مستغل أو جاهل، ولعل الانطلاقة تكون من هذه الكلمات الرائعة " ما أجبت في الفتيا حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك؟ " لأن الإمام يعلم بأن الفتوى قد تكون عامل بناء أو معول هدم، فهي رسالة منه إلى كل من يتصدى للفتوى، بعدم الاعتداد بالنفس والركون إليها، كما أنها إشارة إلى العلماء الربانيين بأنهم حماة الفتوى والقائمين عليها، مما يوجب عليهم حراستها والحفاظ عليها، والأخذ على يد كل من يريد التسلق عليها لتحقيق مآربه أو إشباع رغباته.

ثانياً: تخليص النفس أولا:
و هذا معلم غائب، وفقه نفيس، أظن الإمام قد غاص في لججه وتحكم بزمامه، حيث إن الفتوى لها عدة أركان، فما أسوأ ألا يُخلّص المستفتي، وأسوأ منه حين لا يُخلص المفتي نفسه، ولا ينظر إلى نجاتها، فيكون كالإبرة تكسوا غيرها وهي عارية، يقول الإمام مالك في تقرير هذه القاعدة العظيمة عندما سأله سائل فقال: يا أبا عبد الله أجبني، قال ويحك، أتريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله! فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك!

ما أعمق هذا الفقه، وما أجل صاحبه، أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك، إنها رسالة للمتصدين للفتوى، أن يهتموا بأنفسهم أولا، فكيف يُخلّص غيره من لا يُخلص نفسه!
و كان – رحمه الله – يسعى لتعميق هذا المفهوم في نفوس طلابه، قال ابن أبي حازم قال مالك: إذا سألك إنسان عن مسألة فابدأ بنفسك فأحرزها.
ولعل هذه القاعدة تعد سراً من أسرار التميز عند الإمام مالك.

ثالثاً: لا أدري:
العجيب أن الإمام مالك مع جلالته واشتهاره بالعلم من المعلنين والصادعين بهذا الجواب، لم يكن يقوله على استحياء أو تردد أو حرج، سأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدري! فقال الرجل: يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن!

نعم لم يكن يستوحش منها أو يتثاقلها، بل كانت سهلة هينة عنده، وهذا سر آخر من أسرار التميز والإبداع، وهو في هذا الباب آية وعبرة، فمع جلالته وشهرته بالعلم يقول هذا القول الذي قد يعتقد الكثير بأنها مما يُسقط الهيبة! ويُقلل الأتباع! أو يُشعر بقلة العلم، أو عدم التبحر فيه، ولا ريب أن من يعرف الإمام مالك لا يتطرق إليه شيء من ذلك، مما يدل على حقائق أخرى مهمة، لعل منها ما رواه ابن وهب عن مالك حين يقول: العلم حيث شاء الله جعله ليس هو بكثرة الرواية.

قال موسى بن داوود: ما رأيت أحداً من العلماء أكثر أن يقول: ما أحسن من مالك، وقال ابن وهب: كان مالك يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدي.
حتى لامه طلابه على كثرة ما يقول من ذلك حيث قيل له: يا أبا عبد الله, يأتيك ناس من بلدان شتى, قد أنضوا مطاياهم, وأنفقوا نفقاتهم, يسألونك عما جعل الله عندك من العلم, تقول: لا أدري, فقال:يا عبد الله, يأتيني الشامي من شامه, والعراقي من عراقه, والمصري من مصره, فيسألونني عن الشيء لعلي أن يبدو لي ما أجيب به, فأين أجدهم؟، ومرة يقول " العلم أوسع من ذلك " ومرة يقول " وما أنا ? وأي شيء منزلتي حتى أدي ما لا تدرون، ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر، يقول لا أدري فمن أنا، وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة، وهذا يضمحل عن قليل ".
إنها نظرة شاملة عميقة، تدل على متانة الديانة، وبُعد النظر، واستشعار المسؤولية، فكم نحن بحاجة إلى هذا الفقه، وهذه النماذج التربوية الفريدة.

رابعاً: لا حول ولا قوة إلا بالله
الآن خلّص الإمام نفسه، وعلم ملابسات المسألة ودليلها، ومع هذا لم ينته كل شيء عند هذا الجبل، فهو يعلم الضعف البشري الملازم للإنسان في كل أحواله، مهما بلغ الإنسان من علم أو مال أو حسب أو جاه، فلازم الكلمة التي يستقوي بها على كل شيء، ويتبرأ فيها من قوته وحوله، ويُعلن فيها تعلقه بربه واعتصامه به، وسؤاله السداد والتوفيق، إنها الكنز العظيم " لا حول ولا قوة إلا بالله "، قال النووي عنها ‏: "‏ هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله _تعالى_‏ " وكان الإمام يدرك ذلك ويعني ما يقول، فجاءه العون والسداد والإمامة لهذه الأمة المباركة، إنها المعاملة الصادقة مع الله الذي لا يخيب صاحبها، قال أشهب رأيت في النوم قائلاً يقول لزم مالك كلمة عند فتواه لو ورد عليه الجبال لقلعتها، وذلك قله ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وكان حماد بن إسحاق أخو إسماعيل القاضي يقول: إني لأستعين بكلمة مالك _رحمه الله_ عند فتياه، وهي: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صعبت عليّ المسألة فإذا قلتها انكشفت لي.

والعجيب أن مجلساً واحداً مع الإمام مالك، يتعلم الطالب هذا الفقه النفيس متجلياً بأجمل صوره، متحلياً بأحلى حلله، وهذه المجالس هي التي تخرج العلماء وتصنع الرجال، حين تُزرع التقوى والتعظيم لله بالقول والعمل، قال ابن أبي حسان: لما أتيت مالكاً – فذكر من هيئته ومجلسه ثم قال - فقمت بين يديه، فأوسع لي رجل منهم، فجلست فذكروا العلم، فقال: لا يؤخذ العلم إلا عن الموثوق بهم في دينهم، ثم جلس يسال، وأنا قاعد فربما قال: العلم أوسع من ذلك، فسئل وأنا قاعد عن خمس وعشرين مسألة، فما أجاب إلا اثنتين وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.

خامساً: التأني والتثبت:
قال أبو عثمان بن الحداد: " القاضي أيسر مأثماً وأقرب إلى السلامة من الفقيه، لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضر من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنى وتثبت تهيأ له الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة " وهذا الكلام مع وجاهته في العموم، فإنه لا ينطبق على الإمام مالك، لأنه من أهل التثبت والأناة في الفتوى، وليس من المقحمين أنفسهم في أتون الفتوى، إن الأناة والتروي من سمات العقلاء، وزينة العلماء، وقلما تجد عالماً راسخاً إلا وتجده من أصحاب الأناة والتثبت، وهذا من أسباب التوازن والانضباط في الشخصية، وعامل من عوامل الثبات والاستمرار، والعجيب أنك تجد بعض أهل العلم يتحرجون من الفتوى في بعض المسائل والنوازل تورعاً وخشية من الله عز وجل، ثم تجد من يُفتي فيها بغير أناة أو تروي أو دراسة، وهو لا يملك إلا القليل من العلم الشرعي، إنها مفارقة عجيبة تستحق التأمل والدراسة، وهي موجودة في واقعنا لا يُنكرها أحد، وقد بيّن سبب هذه الجرأة شيخ المالكية في المغرب حيث يقول سحنون – رحمه الله -: أجرأ الناس على الفتيا، أقلّهم علماً يكون عند الرجل

باب واحد من العلم، فيظن أن الحق كله فيه، ثم يقول بعد ذلك: إني لأُسأل عن المسألة، فأعرف في أي كتاب وورقة وصفحة وسطر، فما يمنعني عن الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتيا، وهو القائل: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال.
و هو في هذا على طريق إمامه، الذي كان مثاراً للعجب عند طلابه ومحبيه من شدة ترويه وتثبته في الفتوى، حتى إن بعض المسائل والفتاوى تمكث عنده الدهر الطويل وهو يُعمل الفكر فيها ويتأملها، وهو من في علمه وفقهه وجلالته وإمامته.

قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي في رأي إلى الآن! وقال ابن مهدي: سمعت مالكاً يقول: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلي! وهذا ابن عبد الحكم يقول: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم!

وقال المغيرة: كنت أسأل مالكاً، عن القول يقوله من أين قاله، فصلى يوماً إلى جانبي، فقال لي: يا أبا هاشم، إنك تكرم علي وتسألني عما لا أجيب فيه الناس، فإن أجبتك اجترؤوا عليّ، وأحب أن تفعل، ولكن اكتب ما تريد من المسائل وابعث بها تحت خاتمك أجيبك فيما أمكنني _إن شاء الله_، فانصرفت مسروراً وقلت لأصحابنا: اكتبوا مسائل فكتبناها في نصف طومار وختمت عليه ووجهتها إليه، فقامت عنده أربعة أشهر فجاءتني بخاتمه بعد ذلك وقد أجاب في ثلث ذلك المسائل، قال في باقيها لا أدري.

قال مروان بن محمد: كنت أرى مالكاً يقول لرجل يسأله اذهب حتى أنظر في أمرك فقلت إن الفقه من بابه وما رفعه الله إلا بالتقوى.
إنني أقف ذاهلاً أمام هذا الحشد والمواقف، سنون وشهور وأيام وليالي، من أجل مسألة أو عدة مسائل، وهو من في علمه و جلالته وتقواه وورعه، ولكن ما أقول إلا كما قال مروان: إن الفقه من بابه وما رفعه الله إلا بالتقوى.
رحم الله الإمام مالك، ورفع درجته، وجزاه الله عنا خير الجزاء، وصلى الله على نبينا محمد.