خارطة الطريق.. نحو العزة (1/2)
15 ذو الحجه 1426

لم تعد كلمة العزة(1) تمثل لدى كثير من الناس سوى كلمة لا يعرفون لها واقعاً ولا يشاهدون لها مثالاً؛ لكثرة ما يقع بالأمة من هوان وذل أمام أعدائها على الرغم مما تملكه من عوامل القوة، وقد تنوعت مسالك الناس، منذ عقود، لرفع هذا الهوان لتعود للأمة هيبتها ومكانتها وحقوقها، وانقسمت رؤاهم ومنطلقاتهم عموماً لتصب في اتجاهين:

الاتجاه الأول: اتخذ من العروبة منطلقاً لتوحيد العرب، وتحقيق العزة، ومواجهة العدوان ورد الحقوق المغتصبة، فأخفقت محاولات أصحابه لجمع العرب وتوحيدهم، ونالوا الهزيمة المنكرة على يد اليهود؛ إذ لم تكن العروبة يوماً سبباً لجمع كلمة العرب، إضافة إلى ذلك فالانطلاق من العروبة يهدم وحدة الانتماء الإسلامي بين العرب وغيرهم من المسلمين؛ لأن الاعتزاز بالانتماء للعروبة يدفع بكل قومية إلى الاعتزاز بنفسها بعيداً عن الانتماء الإسلامي.

وأصحاب الدعوة للقومية العربية - من الناحية الاستراتيجية - يحرمون أنفسهم من قوة إسلامية عالمية تفوقهم من حيث العدد والقوة، ولذلك يمثل الفصل بين العرب وبين المسلمين هدفاً استراتيجياً لدى أعداء المسلمين، لتبقى قضايا العرب دوماً بعيدة عن التأثير والتأثر بباقي العالم الإسلامي، ولو على المستوى الرسمي فحسب، وهذا ما تقدمه لهم الدعوة إلى العروبة أو القومية على طبق من ذهب، إضافة إلى ما يقوم به أعداء المسلمين من مخططات وإجراءات تعمل على تجزئة العالم الإسلامي على أساس القومية، لعزل قضايا كل دولة عن باقي الدول الإسلامية، وهذا ما نرى أثره في الواقع من تفتت في قوى العالم الإسلامي، وضعف وهوان في معالجة مشكلاته مع أطماع الهيمنة الغربية، ومن أكبر الأمثلة على ذلك، قضية الأكراد، فحين نادى أتاتورك بالقومية التركية ثار الأكراد يطالبون بدولة لهم، ومن ثم استغلت دول الاستعمار قضية الأكراد، ورسمت خرائط المنطقة ولم يقيموا لهم دولة، وجعلوهم مشتتين موزعين على كل من تركيا وإيران وسوريا وأرمينيا، لكي يكونوا دائماً ورقة ضغط يستغلونها متى يشاؤون.

ولم تكن فتنة القومية منذ نشأتها إلا معاول هدم، لا تدع آصرة بين المسلمين إلا قطعتها، ولا وشيجة إلا فصمتها، وهوت بالمسلمين من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الهوان، حيث حاول أعداء الإسلام وأذنابهم من خلالها هدم الوحدة الإسلامية ولا يزالون، أولاً حين أثاروا نعرة القومية العربية، وثانياً حين أثاروا نعرة القومية الطورانية التركية، وثالثاً حين جزأ بها العرب أنفسهم إلى دول وقوميات لم يكن لها وجود أو اعتبار من قبل، فتفرق بها العرب سياسياً إلى دول متنازعة، تفتش كل دولة منها في التاريخ وتبحث عن انتماء قديم قبل الإسلام، كالفرعونية والآشورية، لتتميز به عن غيرها من الدول.
ولذلك لم تنجح المنظمات والهيئات التي ترفع شعارات للوحدة العربية، لأنها قامت على أساس قومي، فأخفقت كلها تقريباً حتى الآن في تحقيق خطوة جادة واحدة نحو جمع الكلمة، بل يزداد الأمر سوءاً حين يشتد تضارب المصالح، وتسير بعض الدول - بناءً على مصالحها القومية - نحو بناء علاقات مع أعداء الأمة الإسلامية دون نظر لمصلحة باقي دول العالم الإسلامي عربية كانت أو غير عربية.

وليس من سبيل لجمع كلمة المسلمين وتحقيق عزتهم، بجميع أجناسهم وأصولهم ولغاتهم، إلا الإسلام، وهذا ما نبه إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث قال: "إنا كـنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسـلام، فمهما نطلب العـز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(2)، وما أجمل الكلمة البليغة التي قالها أبو برزة _رضي الله عنه_: "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد _صلى الله عليه وسلم_..."(3).

الاتجاه الثاني: يسعى إلى رفع الذل عن الأمة بالارتماء في أحضان أعداء الإسلام والتذلل لهم لكسب مودتهم، والاحتماء بقوتهم، فكانت النتيجة هي ما تتجرع الأمة مرارته من ذل وهوان، ونهب مستمر لثرواتها، وهدم متواصل لعوامل القوة فيها، ولا غرابة في نتيجة هذا الاتجاه، لأنها نتيجة متوقعة، حيث ذم الله تعالى من يتخذ ذلك طريقاً لعزة المسلمين، وبيّن أنه لا يحقق العزة الحقيقية، فقال _سبحانه_: "الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" [النساء: 139].

قال ابن جرير الطبري: (يقول الله لنبيه: يا محمد، بشِّر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء: يعني أنصاراً وأخلاء من دون المؤمنين... "أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ" يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي. "فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسون العزة والمنعة والنصرة من عند الله، الذي له العزة والمنعة، الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، فيعزهم ويمنعهم). والغريب أن بعض الأنظمة تتخلى عن انتمائها الإسلامي الذي فيه العزة، وقد تعادي دولاً إسلامية وتحاربها، لتبحث بعد ذلك عن قوة شرقية أو غربية تتذلل لها لتتحالف معها وتستنصر بها ولو على حساب دينها وعلاقتها بدول إسلامية أخرى!

وخطورة هذا الاتجاه في موالاة أعداء المسلمين والتحالف معهم، إضافة إلى ما فيه من مخالفات شرعية، أنه لا يقف عند حد، فهو تحالف يسير دوماً في اتجاه ترسيخ هيمنة الأعداء وسيطرتهم على المسلمين في دينهم ومصالحهم وثرواتهم وقراراتهم، إذ يبدأ الأمر بصداقة، ويصل إلى تدخل سافر في أخص شؤون حياتنا، لينتهي -حسب ما يخططون- بعملية سلخ كاملة لنا من الدين، "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" [البقرة: 109]، "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة: 217].

وهذا التوجه للتحالف مع غير المسلمين لا يتفق حتى في حال الاضطرار مع معنى (التقية) التي شرعها الله _تعالى_ لنا حين الخوف من الأعداء في قوله _تعالى_: "إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً" أي (إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم, فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته... قال ابن عباس: "ليس التّـقية بالعمل إنما التّقية باللسان")(4).

ومن أشد عواقب هذا الاتجاه نكاية في كرامة الأمة؛ أن يرتمي أصحاب هذا الاتجاه في أحضان أعداء الأمة، ثم لا يفتح الأعداء أيديهم ليقابلوا هذا الارتماء بدفء وحنان، فلا أحضان حانية وجدوها، ولا كلمات تقدير سمعوها، بل تهديد ووعيد، ومزيد من الضغط والذل، وحين ارتمى بعض المخدوعين في أحضانهم أعطوه أرضاً لكنهم جعلوها له سجناً حاصروه فيها.

وللحديث بقية.. نستكملها _بإذن الله_ في المقالة التالية....

______________
(1) العز خلاف الذل، والعز في الأصل: القوة والشدة والغلبة، والعز والعزة: الرفعة والامتناع، والعزة لله. انظر (لسان العرب: عزز).
(2) رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، المجلد الثالث، رقم 2893 (صحيح موقوف).
(3) البخاري، كتاب الفتن.
(4) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.