حادث الجمرات والتعددية الفقهية
23 ذو الحجه 1426
إيمان الطويرش

كلنا تألم لحادث الجمرات الذي قضى فيه أكثر من ثلاثمئة حاج نسأل الله لهم المغفرة والرحمة, وبعد هذا الحادث سمعنا المطالبات والدعوات بضرورة الأخذ بتعددية الآراء الفقهية, وفتح الباب للأخذ بالأقوال والآراء الفقهية دون التحجير على قول واحد ليس في وقت الرمي فحسب، بل في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ولا يعنيني هنا مناقشة الأقوال في مسألة وقت رمي الجمار فلها أهلها الذين هم أدرى بحيثياتها, إنما جرتني هذه المطالبة للحديث عن مسألة مهمة هي: الموقف من اختلاف الآراء الفقهية في المسألة الواحدة: وتحديدا موقف العامي أي من ليس من أهل العلم والاجتهاد, وهو الذي يهم الجميع كون الأغلبية إلا القليل من هذه الفئة, فالملاحظ وكما قد قرر ذلك الشاطبي-رحمه الله- في موافقاته, هو اعتماد الناس في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم, فلو أفتي في مسألة بالمنع لقال قائل: لم تمنع والمسألة مختلف فيها, فيجعل اختلاف العلماء حجة في الجواز بدون دليل على صحة مذهب الجواز, وهذا عين الخطأ على الشريعة, والقائل بأن الناس في مسائل الاختلاف لهم الأخذ بأي الأقوال شاؤوا مجانب للصواب من عدة أوجه:

1- أن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً, وهو قوله _تعالى_: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء:59), والقول بأن للشخص اختيار أي القولين شاء, هو اتباع لهوى النفس فإن النفوس مولعة بحب الأيسر وهو مخالف للعمل بالآية وقد ذم الله اتباع الهوى, فقال _تعالى_: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" وبالالتزام بالقول الأقرب للنصوص- الذي هو مقتضى الآية- يكون المرء بعيداً عن اتباع الهوى والشهوة.

2- مع ما سبق فإن الأصل الشرعي المقرر عند العلماء هو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه, وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز, ولو خيرنا الناس في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لقصد الشريعة.
الموافقات(5/77-78-81).

3- أن القول بالتخير عند اختلاف الأقوال يؤدي إلى الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف, والاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط, وهو مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها, فإن معنى القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل متى شاء ويترك متى شاء وهذا إسقاط للتكليف, بخلاف اتباع الأرجح والتقيد به فإن فيه اتباع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف.الموافقات (5/83-102)

4- إفضاؤه إلى الوقوع في صور متفق على تحريمها,على وجه يخرق الإجماع وتتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي فسق لا يحل, نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر في الجامع(2/91-92), وابن الصلاح في آداب المفتي ص125.

وأما التخير بين الأقوال بذريعة التيسير والسماحة فالتيسير في المسائل الشرعية قد بين العلماء أنه مقيد بما هو جار على أصول الشريعة وفي حالا ت تقتضي التيسير قد تكون هذه الحادثة منها, أما تتبع الرخص واختيار الأقوال بالتشهي, مع عدم الرجوع إلى الدليل فإنه ينافي أصول الشريعة, أضف إلى ذلك تقريرهم أن التكاليف كلها لا تخلو من مشقة, فلو كانت المشقة حيث وجدت اقتضت الرفع مطلقا لارتفعت بذلك أغلب الأحكام, فالشريعة جاءت على محمل وسط والميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاد للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد بإطلاق مضاد له أيضا.
فتلخص مما سبق أن موقف العامي هو الترجيح ويكون ذلك بالنسبة له باتباع الأقوى دليلا فيما يظهر له فإن لم يتضح اتبع الأعلم ثم الأتقى- الأكثر دينا- من العلماء.

أما الجمود الفقهي المدعى فهي دعوى تحتاج إلى دليل,فإن أهل العلم ممن تسنموا ذرا الوظائف الدينية في هذه البلاد حماها الله لم يعرف عنهم التقيد بمذهب واحد وأطر الناس عليه, بل كانت طريقتهم تمحيص أقوال المذاهب والاستدلال لها, ومناقشتها والأخذ بأقربها للدليل, ولمقاصد الشرع، وهذا يعرفه كل من نال شرف النهل من معين علمهم, وإن غلب على ترجيحهم المذهب الحنبلي فإنما هو للاتصال العميق بين الفقه والحديث الذي تجسد في إمام المذهب -رحمه الله- والذي جعل أقوال المذهب هي الأقرب لمقاصد النصوص.

والأمر الذي ينقصنا في هذه الحادثة وغيرها هو الوعي واليقين بكمال هذا الدين وملاءمة أحكامه لكل الظروف والأزمان, وعلم المشرع سبحانه بمآلات الأمور, فبدل من أن نجعل الثوابت متغيرة ونتاجسر على الأحكام, كان الأحرى بنا أن نفعّل الطاقات والعقول المفكرة في العالم الإسلامي لتساهم في إيجاد الحلول الهندسية, فتغيير الفتوى - مع أنه أمر قد يصير إليه العلماء مع انسداد الحلول ومراعاة الضروريات- هو أمر سهل قريب للعاجز أما تشجيع الدراسات الهندسية والعلمية وعقد الندوات التي تتلاقح فيها الأفكار فهذا الأمر الصعب وهو المفترض فعله لحل هذه الأزمة وغيرها.

أخيرا..فإننا ولله الحمد ننعم ببلاد فيها من أهل العلم والفضل والدراية بالأمور وسبر أغوارها ما يغنينا تماماً عن مناقشة الفتاوى في هذا الأمر من قبل من ليسوا من أهل العلم ولم نقرأ في سيرهم أنهم عكفوا الركب في مجالس الطلب, فليتركوا مشكورين القيادة في هذه الأمور لمن يحسن سياستها ويقود زمامها.. والله من وراء القصد.
-------------
إيمان الطويرش- كلية الشريعة- جامعة الإمام