للشريعة خصوصية (2/2)
10 محرم 1427

للشريعة الإسلامية خصوصية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ ولها خصوصية في المفاهيم والتصورات.
وفي هذا المقال _إن شاء الله_ أبين:
خصوصية الشريعة الإسلامية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ وفي المفاهيم والتصورات.
وفي مقال لاحق أبين - بحول الله وقوته - أهمية التكلم في الخصوصية أو: لماذا التكلم في الخصوصية؟
والله أسأل أن يعين ويسدد، وأن ينفع ويبارك.

أولا: خصوصية الشريعة الإسلامية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ.
مثلا كلمة (الآذان) في اللغة: الإعلام.. مطلق الإعلام.
ومنه قول الشاعر:


آذنتنا بِبَينِها أسماء رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثِّواء(1)

وخصص الشرع المعنى فجهله إعلام مخصوص عن شيء مخصوص - الصلاة المفروضة - بصيغة مخصوصة - صيغة الآذان الحالية.

وكذا الصوم. مطلق الإمساك في اللغة، ومنه قول الله _تعالى_ على لسان مريمَ _عليها السلام_: "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً" (مريم: من الآية26). وفي الشرع: إمساك مخصوص (عن الطعام والشراب والشهوة) في وقت مخصوص (من الفجر حتى غروب الشمس). بنية مخصوصة، وهي نية القربى من الله تعالى بأداء ما افترضه علينا أو ما انتدبنا إليه.

وكذا التيمم في اللغة القصد... مطلق القصد.
ومنه قول الشاعر:


تيممتُ مصر أطلب الجاه والغنى فنلتهما في ظل عيش مُمنَّع
وزرت ملوك النيل ارتاد نيلهم فأحمد مرتادي وأخصب مربعي

فكلمة تيممت هنا تعني قصدت.
وفي الشرع تستخدم كلمة التيمم للدلالة على أمر مخصوص، وهو بديل الوضوء عند فقده حقيقة أو حكما، وهو مشروح تفصيله في كتب الفقه.

وكلمة الإيمان في اللغة التصديق الجازم ومنه قوله _تعالى_: "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" (يوسف: من الآية17) قولةُ إخوةُ يوسف لأبيهم، استعمل فيها الإيمان بمعناه اللغوي أي (بمصدق لنا)(2).

ولكن إذا أطلقت لفظة الإيمان في الشرع فإنها تدل على تصديق مخصوص، وهو التصديق بما جاء به النبي _صلى الله عليه وسلم_ المستلزم للإذعان بالجوارح.
أو قل: معرفةٌ بالقلب - والتي يسميها علماء العقيدة "قول القلب-" تولد هذه المعرفة يقينا في القلب - وهو ما يسمى عند علماء العقيدة بـعمل القلب - تنضبط بموجبه به الجوارح. قوة وضعفا... وجودا وعدما.
هذا هو دلالة لفظ الإيمان حين يستخدمه الشرع (على تفصيل لا يناسبه المقام) .

وأحيانا يستعمل الشرع الألفاظ بذات الدلالة اللغوية لها، فمثلاً كلمة الآذان التي تكلمنا عليها، جاءت بمعناها اللغوي في القرآن الكريم "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ" (الأنبياء:109). فآذنتكم هنا بمعنى أعلمتكم، استخدمت بمعناها اللغوي.
وقول الله _تعالى_: "فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ" (البقرة: من الآية279) أي: كونوا على علم أو: أعلموا كل من لم يترك الربا بحرب من الله ورسوله(3).
وكذا كلمة التيمم جاءت في سورة البقرة، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" (البقرة: 267) أي: ولا تقصدوا الخبيث وتنفقوا منه.
وكلمة الصلاة "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (الأحزاب:56) قال ابن كثر في تفسير هذه الآية، قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله _تعالى_ ثنائه عليه – أي: على النبي _صلى الله عليه وسلم_، وصلاة الملائكة الدعاء.
والمعنى يتضح من دِلالة السياق.
والمقصود مما تقدم أن الشرع وإن كان قد استخدم اللغة العربية لبيان مراد الله من عباده على لسان رسوله _صلى الله عليه وسلم_، إلا أنه لم يستخدمها بذات المعاني، وإنما كانت له خصوصية في استعمالها. فدلالته اللغوية غير دلالته الشرعية, وإن تقاطعت المعاني وتطابقت أحيانا(4).

ثانياً: خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات.
للشريعة الإسلامية أيضاً خصوصية في المفاهيم والتصورات، ولا تكاد تجد مفهوم من المفاهيم التي تعارف عليها الناس إلا وللشريعة الإسلامية خصوصية فيه.

مثلاً: مفهوم الرزق... تحصيل الرزق. أعني تحصيل الرزق على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة - ما يقولون عنه الرقي المادي -، الناس لهم أسباب مادية يسلكونها في تحصيل رزقهم.
والشرع له خصوصية في هذا الأمر، فهو يتكلم عن أسباب أخرى مضافة إلى معالجة الأسباب المادية قال _تعالى_: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"(الأعراف:96).
وقال _تعالى_: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53)
وقال _تعالى_: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (المائدة: 66).

مثال آخر: من أين يأتي البلاء؟
الناس يقولون كلاما كثيرا.. نعرف منه وننكر.
والشرع يعطي مفهوماً آخر: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" (الشورى:30).
"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" (آل عمران: من الآية165).

والنصر والتمكين كيف الوصول إليه؟
".... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج من الآية: 40).
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55).

والأمر أوسع من هذا فهناك خصوصية في كل المفاهيم تقريباً. الكبر... البر..... وفي مفهوم المعركة من حيث أسباب النصر فيها ومن حيث جنودها الذين يحضرون القتال... إلخ.
وإنما أردت هنا لفت النظر فقط.

__________________
(1) مطلع معلقة الحارث بن أبي حلزة
(2) وقد رفض شيخ الإسلام بن تيمية ـ رحمه الله ــ أن يكون الإيمان في اللغة مطابق لمعنى التصديق وفرق دلالة الإيمان اللغوية ودلالة التصديق من أربع وجوه . وذلك في كتاب الإيمان . فليرجع إليها من شاء .
(3) لسان العرب جــ 13 ص 9
(4) ولهذا أنكر فريق من العلماء ـ منهم شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان وابن عثيمين _رحمه الله_ في شرح نظم الورقات للعمريطي ـ المجاز . أنكرا المجاز هكذا بإطلاق وقالوا الكلام حقيقة في عرف المتكلم مجاز باعتبار آخر !
فالمتكلم ملزم بظاهر كلامه ، ما لم تأت قرينة أخرى صارفة لهذا الظاهر .
وهذه من القواعد الأصولية .. . الكلام على ظاهرة ما لم تأت قرينة صارفة ، والقرائن معروفة والكلام فيها منضبط عند أهل الأصول ـ أعني أصول الفقه ـــ . وهم يفرقون بهذه القاعدة بين الأمر والندب . . . بين المأمور به والمندوب إليه ، إذ الاثنان بصيغة الأمر ، ويفرقون بهذه القاعدة بين المكروه والمحرم ، إذ الاثنان بصيغة النهي .