أهمية الشورى (1/2)
19 محرم 1427

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضى, وصلاة ربي وسلامه على نبيه محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
إن هدي نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ خير هدي, وطريقته خير الطرق وأقومها, فهو القدوة الأسوة "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ"(الأحزاب: من الآية21) من امتثل نهجه تسهّلت له السبل, وتيسرت له الأمور, وإن من أعظم أفعاله التي ربى عليها صحابته قبل قيام دولة الإسلام وبعدها, والتي أثنى الله عليهم بها وقرنها بأعظم العبادات ألا وهي أمر الشورى، فقد قال: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"(الشورى:38)
قال ابن كثير _رحمه الله_: "لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه, ليتساعدوا بآرائهم". ا هـ
وقال الشوكاني _رحمه الله_: "يتشاورون فيما بينهم, ولا يعجلون, ولا ينفردون بالرأي".ا هـ

ثم إن أمر الشورى أمر يحتاج إليه في كل حين, ومن عظم أمره سمى الله سورة بالشورى، وقد أمر الله نبيه محمد _صلى الله عليه وسلم_ أن يشاور أصحابه, وجعل العزم بعد المشاورة " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"(آل عمران: من الآية159).
و مع أنه _صلى الله عليه وسلم_ مؤيد بالوحي من السماء كان كثير المشاورة لأصحابه.
يقول أبو هريرة _رضي الله عنه_: "ما رأيت أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه.

ومن تأمل في القرآن الكريم أدرك أن الله _جل وعلا_ جعل الشورى شرطاً لتحقيق أمر صغير جداً يختص بطفل رضيع عند فطامه، وجعل الشورى بين الزوجين سبب لنفي الجناح "إِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا"(البقرة: من الآية233)، وعند عدم اتفاق الزوجين المتفارقين على أجرة إرضاع طفلهما, فإن على الأب أن يستأجر مرضعة لابنه "إِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى"(الطلاق: من الآية6).
ومع أن الزوجين مفترقين لم يهمل الله أمر الشورى والاتفاق بينهما؛ حتى لا يضيع الطفل بسبب الخلاف بينهما وتفرقهما.

ولو كان أمر الشورى أمراً هيناً لما جعله الله بهذه المنزلة, فأمر به في أعظم الأمور وفي أيسرها.
وإن المتأمل في هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ يلحظ استشارته للرجال والنساء في كل ما لم ينزل به نص قرآني، وهو مكان للشورى, فقد استشار أول ما بعث أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
وفي أسرى بدر استشار أبا بكر وعمر, ويوم أحد استشار أصحابه في الخروج للقتال من المدينة أو المكث فيها, واستشار يوم الخندق السعدين في ثمار المدينة, واستشار أم سلمة في ذي الحديبية, وفي غير هذه المواضع كثير, كما كان يقول لأصحابه كما عند البخاري: "أشيروا علي أيها الناس".
وقد تقرر هذا عند الصحابة _رضوان الله عليهم_, فكانوا يشيرون عليه فأشار عليه الحباب بن المنذر في موقع غزوة بدر, وأشار عليه سلمان الفارسي في حفر الخندق.
ودرج أصحابه على نهجه اقتداء وامتثالا, فجعل أبو بكر عمر عنده عندما سير جيش أسامة ليستشيره ويكون عضداً له, وأسس عمر مجلساً للشورى, وكان يستشر ابن عباس ويقول له: "غص غواص", مع أنه صغير السن وكان يستشير الصغار ليربيهم على أمر الشورى, واستشار أيضاً حفصة في قدر مكث الغازي في الثغر وصبر أهله عنه.
وكانت الشورى أمراً دارجاً بين الصحابة والتابعين والعلماء الراسخين فأفلحوا ونجحوا.

وأمر الشورى ليس أمراً هيناً, فلا يستشار إلا صاحب خبرة, ولا يستشار في أمر قد قطع النص الشرعي أو الإجماع فيه "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" (الأحزاب:36)
ومن استشار شخصاً فقد ضم عقله إلى عقله, فليتخير أرجح العقول وأسلمها وأحكمها، ومن طبق أمر الشورى في معظم أحواله فهذا دليل على كمال عقله ونبله, لاكما يظن البعض أنه ضعفا وعدم استطاعة تصرف, فالعاقل لا يكتفي برأيه, بل يتهم عقله, إذ لوكا ن يستغني عن الشورى أحد ليستغنى عنها ذا العقل الراجح والقول الصائب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_, فقد روى ابن عباس ـ _رضي الله عنه_ ـ أنه _صلى الله عليه وسلم_ قال: "ما من نبي إلا له وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر".
وإبراهيم _عليه السلام_ عندما رأى في الرؤيا الأمر بذبح ابنه ـ ورؤيا الأنبياء حق ـ استشار ابنه فقال: "... يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"(الصافات: من الآية102).

والحق أن النقص والضعف فيمن اقتصر على رأيه, وتارك المشورة حيرته دائمة, وورطته مستمره, وقد جاء في الأثر(ما خاب من استخار ولا ندم من استشار)، وكان شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله - يقول: "ما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين، وثبت في أمره".
وقد قال _سبحانه وتعالى_ "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"(آل عمران: من الآية159).

والحق أن ابن آدم ظالم جاهل مخطئ "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" (الأحزاب:72). و(كل ابن آدم خطاء) ولا ينكر هذا لبيب, وإلا فإن العاقل يسد الثلمة بعقل يقرنه بعقله.
والشورى كما أنها تكون خاصة بفرد يستشير بأمر يخصه, فهي أيضاً تكون لجماعة وطائفة يستشيرون من يتفقون عليه لسداد رأيه وإدراكه, فلا يتفق شباب مثلاً على أمر بدون مشورة من له فيما يريدون خبرة ومعرفة, فما أفسد بعض المجتمعات إلا اجتهادات أخطأ أصحابها الصواب, فقد يتفق شباب على عمل أمر مفضول يكون بحصوله فقدان أمر فاضل, وقد يصلحون جهة فتفسد بسببها جهة أخرى خير منها, وكذلك ينبغي لمن أمِّر على جماعة أن يشاورهم ليجبر خواطرهم ويستفيد من آرائهم, وألا يحتقر رأي أحد منهم وإن كان صغيراً, وإذا تبين له أن رأيهم يخالف الصواب, أو كان رأيه أصوب, بين لهم ذلك وأقنعهم, فإن ملكة سبأ قالت لقومها: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ"(النمل: من الآية32). ولما أشاروا عليها بما لا يوافق الصواب, وأحالوا الأمر إليها "قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ" (النمل:33)، قالت مبينة لهم أمراً قد يكون خافياً عليهم "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" (النمل:34) فأنجاها الله من الكفر والضلال إلى الإسلام والهداية, ولما عرض ملك مصر الرؤيا على ملئه, أخرج الله من بينهم من بسببه كانت نجاة مصر من مصائب ستحل بهم.

وأما فرعون فإنه لما استشار قومه فقال: "فَمَاذَا تَأْمُرُونَ"(لأعراف: من الآية110)، أشاروا عليه بما فيه نجاته من عذاب الدنيا "قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ" (لأعراف:111)، لكنه علم أنما مع موسى ليس سحراً, فاستخف بعقولهم فأطاعوه فأهلكهم الله جميعاً.

ونستكمل في القسم التالي من هذا الموضوع، بعض الأمور الأخرى المتعلقة بالشورى وأهميتها، لنستعرض صفات المستشار، وبعض الوصايا فيها، وبعض ما قيل عنها.