في القرن التاسع عشر خرج (النسويون) ـ أو دعاة تحرير المرأة كما يسمون أنفسهم ـ على الناس يَعِدُونهم ويمنونهم، يقدمون لهم النموذج الغربي كنموذج للتطور والرقي.
كانت الأمة غارقة في مستنقع الجهل الآسن يخيم عليها ظلام الإرجاء البهيم الذي أقعد الناس عن الجهاد ضد عدوهم وعن الاجتهاد من أجل تحصيل النافع لهم ومنع الضار بهم.
أتفهمُ ـ وليس أقبلُ ـ أن ينجح الخطاب (النسوي) قبل قرنين من الزمن في وسط الشعوب الأوروبية التي عانت حينا من الزمن من ظلم الدين الكنسي، الذي أكل أموالهم باسم الدين، وسامهم سوء العذاب باسم الدين، ووقف حجر عثرة في طريق عمارة الأرض باسم الدين.
أتفهم هذا ولكني لا أقبله.
فهي مبررات تصلح لتنحية الدين الكنسي... دين بولس (شاؤول) اليهودي، مبررات تصلح لأن يقال للنصرانية: لستِ من عند الله، وكتابك المحرف لا يصلح أن يُقيم الناس بالقسط، ولكن ما شأن هذا بالدين الإسلامي؟!
إنه عجب عجاب.
جاءنا الإسلام (ونحن على أسوأ حال، جوعنا لم يكن يشبه الجوع؛ كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا وأن يبغي بعضنا على بعض وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية؛ كراهية أن تأكل من طعامه)، كان هذا حالنا قبل مجيء الإسلام ـ كما وصف المغيرة بن زرارة بين يدي كسرى ـ، ثم بالإسلام أصبحنا مِشعل النور الذي أضاء الكون كله ودخل كل البلدان واستضاء بنوره البار والفاجر.
فكيف القياس؟!
أتَخَلَّفْنَا حين التزمنا بالإسلام كي نتركه طلباً للتحضر والرقي؟!
لا والله. بل لا سبيل للتحضر والرقي إلا بالإسلام "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأعراف: 96)
والبُعْدُ عن منهج الله هو سبب كل بلاء "وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ" (النحل: 112)
ومن أصدق من الله قيلاً؟! ومن أصدق من الله حديثاً؟!
قل أأنتم أعلم أم الله؟!
والتاريخ والواقع يشهدان، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
قرنان من الزمان وزمام الأمة في أيديكم، فإلى أين سرتم بها؟
أين التحضر وأين الرقي؟!
دعاةَ (التحرر)!
قد نبأنا الله من أخباركم، أنتم الذين تحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وإنا نبشركم بعذاب أليم في الدنيا والآخرة. قال _تعالى_: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النور: 19)
فلا نفهم من دعوة التحرر إلى أنها دعوى للعري والتفسخ ومخالطة الرجال، تنزعون عن المرأة لباس الطهر والعفاف لتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتعترضون على التعدد ـ تعدد الزوجات ـ وأنتم تعلمون أنه الحق، إذ النساء أكثر من الرجال، كي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتُخْرِجون المرأة من بيتها ليفتتن بها الرجل في الطريق والزميل في العمل وتتهدم الأسرة وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
دعاة (التحرر)!
قد نبأنا الله من أخباركم. أنتم الذين كرهوا ما أنزل الله... أنتم الذين اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه.
ما أفهمه من حملة (تحرير) المرأة، والدعوة إلى المساواة بينها وبين الرجل في كل شيء، أنها في جوهرها حملة على العقيدة الإسلامية، حملة تشكيك في أحكام الإسلام ، وحملة من أجل زحزحة الشريعة من حياة الناس.
وأراه هدفكم الرئيسي، وما المرأة إلا سبيل تعبرون منه لشريعتنا كي تنالوا منها.
فماذا يعني قولكم (تحرير) المرأة وإعطائها حقوقها؟
أظلمَهَا ربها ـ سبحانه وتعالى وعز وجل ـ وجئتم تنصفوها ؟!
وماذا تعني مناداتكم بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث؟
أليس تعديلا لثوابتنا الشرعية يستبطن اتهاما لها؟!
وماذا يعني جرأتكم على (التعدد) ودعوى أنه ظلم وهضم لحق المرأة؟!
وماذا تعني السخرية من حجاب المرأة الذي ارتضاه أحكم الحاكمين العليم الخبير لها؟
وماذا يعني تلبيسكم على عوام الناس بما ترددونه عن الملتزمين بشرع ربهم؟!
كله ينطق صراحة بأنكم تحبونهم ولا تحبوننا، وتتمنون أن لو كانت ديار الإسلام كديار الغرب والشرق.
ولكن: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وإن الباطل كان زهوقاً، وإن العاقبة للمتقين، وعد الله القدير، وهاهي بشائر النصر تلوح في الأفق فالحجاب قد عاد حتى أصبح ظاهرة في كثير من بلدان المسلمين التي بدأ فيها التغريب، وإنا نرى حرقة أكبادكم فيما تسودنه بأقلامكم، وما يحدث الآن من مؤتمرات ما هي صحوة الموت.
قال الله _تعالى_: "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة: 32).