إن كثيراً من الفضلاء فضلاً عن عامة الناس يظنون أن الأطفال لا يفهمون فيعاملونهم بناء على هذا الظن الخاطئ، مع أنهم يعلمون من حوادث واقعهم أن الواحد منهم قد يصف حدثاً وقع وهو ابن ثلاث سنين بتفاصيله، بينما إذا كبر فربما عجز عن تذكر ما حدث له بالأمس. وهذا ضرب من الذهول عن الواقع الماثل، بالإضافة إلى أنه نوع من الغفلة عن حكم الشريعة وأحكامها، فإن اختصاص الأطفال دون الحلم ببعض الأحكام كالاستئذان على الآباء في أوقات الراحة ووضع الثياب كما عبرت الآيات في سورة النور دليل على قدرتهم على الفهم والملاحظة.
والآيات الكريمة في سورة يوسف المتعلقة بنصائح يعقوب لابنه _عليهما السلام_ في شأن الرؤيا تدل على أن يعقوب -عليه السلام- كان يحترم عقول أبنائه فوجه هذا الخطاب لأحدهم بأسلوب فيه تقدير ظاهر لشخصه. وهكذا كان نبينا الكريم –عليه الصلاة والسلام- كان يكرم الأطفال ويقدر إمكاناتهم، فكان يكني بعضهم(1)، ويؤاكل بعضهم(2)، ويسلم إن مر عليهم(3)، ويواسي بعضهم لما مات عصفوره(4)، ويردف بعضهم(5)، بل يستأذن أحد الغلمان وكان يجلس عن يمينه في سقيا الأشياخ(6)، فلما لم يؤثرهم على نفسه أعطاه القدح مباشرة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستأذنه استئذاناً بارداً من قبيل ما يسمى بـ(البروتوكولات) أو المراسيم العصرية، أو الإجراءات (الروتينية) وإنما استأذنه لأنه يعلم أنه صاحب الحق في إيثار غيره أو عدم إيثارهم حتى ولو كان المستأذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولو كان هؤلاء الغير هم أشياخ من الصحابة –رضي الله عنهم-، وليعلِّم الناس كذلك كيف يعامَل الصغار، ثم هب أن هذا لم يحدث في المجلس فإن في مجرد جلوس الغلام إلى جانب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في مجلس فيه أشياخ الصحابة أمر حري الوقوف عنده، والتأمل فيه.
وأذكر في هذا الصدد قصة لها تعلق، فقبل سنوات عقد مؤتمر في بلاد الشام لمعدي برامج الأطفال في التلفزيون، وقدمت في المؤتمر بحوث عدة، وكانت أغلبها تشرح بعض الأساليب التي تمكن كتاب برامج الأطفال من النزول بعقولهم لمستوى عقول الأطفال، إلا بحثاً واحداً كان لرجل بولندي، فقد كان يركز على مسألة واحدة وهي: كيف ترفع من طاقة عقلك لأقصى درجة إذا خاطبت الأطفال حتى تستطيع أن ترضي دقة ملاحظتهم، ويكون خطابك مؤثراً فيهم، فكان هذا البحث هو البحث الأول في المؤتمر، ونال البولندي جائزة على بحثه القيم. ومما لفت نظري كلام أحد علماء التربية الغربيين يوجه فيه المربين إلى الاهتمام بملاحظة البيت وما فيه قائلاً: "راقب بيتك بعيني طفل"!
وقد سجلت لنا كتب الأدب قصة طرفة بن العبد يوم كان طفلاً يلعب مع الصبيان والمتلمس ينشد عند علية القوم، فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره | بناج عليه الصيـعرية مكرم |
ففطن لها طرفة دون وجوه الناس، فقال وهو يلعب: استنوق الجمل! فالصيعرية سمة توسم بها النوق باليمن لا الجمال، فقال: استنوق الجمل! فعبر باستفعال دال على الصيرورة فكأنه قال صار الجمل ناقة، وهذا كقولهم استأتن الحمار، واستنسر البغاث، واستتيس العنز، وكل هذه جرت حكماً وأمثالاً وأصلها قول صبي يلعب!
والشاهد أننا نخطئ في تقييمنا للأطفال، فلا نعاملهم معاملة تناسب عقولهم، بل يشعرهم البعض بأنهم لا وزن لهم، فتكون النتيجة تخريج نوعين من الشباب؛ شباب يعاني من هزيمة نفسية، يستصغر نفسه ويقلل من شأنه ويقيد نفسه بحبال وهمية نسجها المجتمع من حوله، وشباب آخر متهور يحاول أن يتفلت من كل قيد ليثبت أنه رجل ولو بكل سبيل منحرف! وبالمقابل من يقدر عقول أطفاله ويحترم قدراتهم ويخاطبهم خطاب الكبار فما أسرعهم إلى فهم كلامه والتزام توجيهه والتهيؤ لحمل المسؤولية في عمر الشباب، ومثل من حظوا بهذا المنهج في التربية قل أن تظهر فيهم أعراض الطفولة المتأخرة التي نشهدها في كثير من رجال عصرنا! وقد شكا من عوارضها مَن سبقنا، ولعل القائل أرادهم في قوله:
ودهر ناسه ناس صغار | وإن كانت لهم جثث ضخام |
والله المستعان!
______________
(*) مقال مستل من كتاب الشيخ: آيات للسائلين (يعد للطباعة).
(1) حديث يا أبا عمير ما فعل النغير، البخاري5/2270(5778).
(2) حديث ياغلام سم الله، البخاري5/2056(5061).
(3) ينظر صحيح البخاري 5/2306 (5893)، ومسلم 4/1708 (2168).
(4) حديث أبي عمير السابق.
(5) المستدرك على الصحيحين: 3/623رقم6303.
(6) البخاري2/834رقم2237.