صلاة فاقد الستر
1 جمادى الثانية 1427

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فغني عن الذكر أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأكثر العبادات الواجبة ملازمة لحياة المسلم، ولذا وجب تعلم أحكامها، وخصوصاً أحكام ما قد يطرأ على الإنسان من أحوال يفقد فيها شرطاً من شروط الصلاة أو تضطره إلى ترك شيء من أركانها أو واجباتها.
ومن شروط الصلاة شرط ستر العورة، وقد يفقد الإنسان ما يستر به عورته، أو لا يجد ما يكفي لسترها، أو لا يجد إلا ما هو نجس، وقد يقع ذلك بواحد منفرد أو بأكثر من واحد، وقد يوجد فيهم امرأة أو أكثر، ويريدون صلاة الجماعة، فكيف يصلون في هذه الأحوال؟
هذا ما سأعرضه من خلال بعض كتب الفقه وبعض أقوال العلماء، مع الاعتماد على كلام ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني؛ لما وجدت فيه من إسهاب وبسط وتحرير واف لهذه المسائل، وقد قمت فيها بشيء من الترتيب والتصنيف لما جمعته من أقوال العلماء؛ حتى تكون قريبة وسهلة.

الدافع إلى عرض هذه المسألة:
أولاً: ما يستفيده القلب من تعظيم وتقديس للصلاة جراء فقهه لهذه المسألة – كما لغيرها من مسائل الصلاة -، وما فيه من عبادة وإجلال وتعظيم للخالق – سبحانه وتعالى -، حيث جعل الشرع للباس في الصلاة حكمة خاصة، وحداً خاصاً لستر العورة بها يختلف عما شرع للمسلم من ستر خارج الصلاة، كما جعل له آداباً وسنناً خاصة، فحين يقبل المسلم على الصلاة وهو ملتزم بهذه الواجبات والسنن والآداب؛ يشعر بأنه مقبل على عبادة لها هيبتها وقدسيتها.
قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: (فإن قيل: ما الحكمة في السترة في الصلاة؟ أجيب بأن مريد التمثيل بين يدي كبير يتجمّل بالستر والتطهّر، والمصلّي يريد التمثّل بين يدي ملك الملوك فالتجمّل له بذلك أولى).
وقال: (وإنما وجب الستر في الخلوة لإطلاق الأمر بالستر، ولأن الله – تعالى – أحق أن يستحيا منه. فإن قيل: ما فائدة الستر في الخلوة مع أن الله سبحانه وتعالى لا يُحجب عن بصره شيء؟ أجيب بأن الله – سبحانه وتعالى – يرى عبده المستور متأدباً دون غيره).
ثانياً: جهل بعض الناس بأحكام الستر في الصلاة، فمنهم من يلبس ثوباً لا يستر ما يجب ستره في الصلاة، أو بعض النساء اللاتي يهملن في ستر ما يجب عليهن ستره فيها، أو يسترن ما يجوز لهن كشفه في الصلاة.
ثالثاً: وجود كثير من أصحاب المهن التي يضطرون فيها للتخفف من الثياب، كعمال المناجم، وعمال الصيد في البحر، وغالبهم يجهل أحكام اللباس في الصلاة.
رابعاً: مما دفع إلى البحث في هذه المسألة هو ما يقع ببعض المسلمين من ظلم وانتهاك لأدنى حقوق الإنسان وهو ستر عورته، حيث تمتلئ كثير من السجون والمعتقلات بأنواع منوعة من التعذيب النفسي والبدني، ومنه تجريد المسجون مما يستر عورته، وقد قال بعضهم إنه كان يجرد من الثياب للتفتيش – في أحد السجون الغربية – حتى يصير كما ولدته أمه، وقد يبقى هكذا مدة طويلة.
وما شهده كثير من الناس أو سمع به من تعذيب المسلمين وتجريدهم وسحبهم على الأرض، كما في سجن أبو غريب، هو مثال واضح لهذا الظلم، وما خفي كان أعظم!
وكذلك ما وقع بالمسلمين في دول جنوب شرق آسيا من طوفان دمر كثير من القرى وشرد الآلاف من الناس، وكثير من المسلمين، وهناك منهم من صار لا يجد وقتها ما يكفي لستر العورة في الصلاة.
وقد كان المسلمون في أول الإسلام يعيش كثير منهم في حال الفقر، حتى كان كثير من الرجال لا يجدون ما يكفي لستر عوراتهم في الصلاة، وهي حال موجودة في بعض مجتمعات المسلمين، كما في أفريقيا،. وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد، قال: (لقد رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم، مثل الصبيان، من ضيق الأزر، خلف النبي صلى الله عليه وسلم. فقال قائل: يا معشر النساء! لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال)، قال القاضي عياض: (فعلوا ذلك لضيق الأزر، وخوف الانكشاف، ولهذا أمر النساء ألا يرفعن قبلهم لئلا تقع أبصارهن على ما ينكشف من الرجال. وكان هذا في بدء الإسلام لضيق الحال).
ومن ثم وجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم أحكام الصلاة وشروطها، ومنها شرط ستر العورة؛ حتى لا يقع فيما قد يبطل صلاته.
والحديث عن انكشاف ما يجب ستره في الصلاة لا بد أن يسبقه بيان عن لباس الصلاة وحد ما يجب ستره فيها، وهذا ما سنعرضه فيما يأتي.

لباس الصلاة:
للصلاة شرط فيما يلبسه الإنسان حين تأديتها، يختلف عن شرط اللباس خارج الصلاة سواء للرجل أو المرأة، ولم يأت لفظ الكتاب الكريم بمجرد الأمر بستر العورة، وإنما أمر بأخذ الزينة للصلاة، ولفظ الزينة أوسع في المعنى من التعبير بستر العورة، لأنه يشمل التزين والتجمل زيادة على ستر العورة الواجب، ومن ناحية أخرى فإن للباس الصلاة أحكاماً خاصة؛ من حيث ما يجب ستره من عورة الإنسان وما يجوز كشفه؛ مما يستدعي الاهتمام والحرص على تعلم أحكام اللباس في الصلاة.
وفيما يلي نسرد بعض النصوص الواردة في هذا الباب:
1 – قال الله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: من الآية31)، قال ابن عباس: المراد به الثياب في الصلاة.
قال في تفسير البحر المحيط:
[(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31)] قيل: كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه؛ لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلاً لتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
والزينة (فِعْلة) من التزين وهو اسم ما يُتجمّل به من ثياب وغيرها كقوله (وازّينت)؛ أي بالنبات. والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة؛ قاله مجاهد والسدّي والزجاج، وقال طاووس الشملة من الزّينة، وقال مجاهد: ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة.
وقيل ما يستر العورة في الطّواف، وفي صحيح مسلم عن عروة: أن العرب كانت تطوف عراة إلا الحمس، وهم قريش، إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وفي غير مسلم: من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء...
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)؛ أذّن مؤذّن الرسول ألا لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وكان النداء بمكة سنة تسع...
وقال ابن عطيّة: .. الزينة هنا الثياب الساترة، ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشريعة ولم يُقصد به الخيلاء.
و(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يريد عند كل موضع سجود، فهو إشارة إلى الصلوات، وستر العورة فيها هو مهم الأمر، ويدخل في الصلاة مواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة. انتهى) تفسير البحر المحيط، سورة الأعراف.
2 – قوله عليه الصلاة والسلام: "ما بين السرة والركبة عورة"، وهو حديث حسن كما في "الإرواء" (247 و(271) إلى أحاديث أخرى بمعناه.
3 – عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء) صحيح البخاري، ج1/141.
قال الشوكاني: (العاتق: ما بين المنكبين إلى أصل العنق، والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه؛ بل يتوشح بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. قال النووي: قال العلماء: حكمته أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه، ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده فيشتغل بذلك وتفوته سنة وضع اليمنى على اليسرى تحت صدره ورفعهما) نيل الأوطار، ص 59.
4 – عن عائشة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" رواه الخمسة إلا النسائي وابن خزيمة والحاكم، وصححه الألباني في إرواء الغليل، رقم 196.
والمراد بالحائض: البالغ التي بلغت سن الحيض؛ لأن الحائض في زمن حيضها لا تصح صلاتها بخمار ولا غيره، وقال الشوكاني: (وقوله: "إلا بخمار" هو بكسر الخاء ما يغطى به رأس المرأة. قال صاحب المحكم: الخمار النصيف، وجمعه أخمرة وخمر)، نيل الأوطار، ص 56.
5 – عن أبي هريرة: (أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لكلكم ثوبان)، صحيح البخاري، ج1/141.
وفي رواية للبخاري: (أو كلكم يجد ثوبين). ثم سأل رجل عمر، فقال: إذا وسع الله فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص. قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء. حديث رقم 358. قوله (رجل) قيل هو ابن مسعود، لأنه اختلف هو وأبي بن كعب رضي الله عنه في ذلك. (جمع رجل عليه ثيابه) أي إن جمع عليه ثيابه وصلى بها فحسن. (رداء) ما يوضع على أعلى الجسم من الثياب. (قباء) قوب منضم الأطراف، مشق من القبو، وهو الجمع والضم، سمي بذلك لأنه يضم لابسه. (تبان) سروال صغير مقدار ستر العورة.
6 – أخرج البخاري في صحيحه معلقاً، وقال في إسناده نظر، ووصله في تاريخه، ورواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان – واللفظ له – عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – قال: "قلت يا رسول الله، إني رجل أتصيد؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، زره ولو بشوكة"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، انظر حديث رقم: 3569.
وهناك أحاديث أخر تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
أقوال العلماء في شرط ستر العورة في الصلاة:
قبل الحديث عن أحكام فاقد الستر لا بد من عرض أقوال العلماء في ستر العورة في الصلاة؛ أهو واجب يأثم تاركه ولا يؤثر في صحة الصلاة، أم هو شرط في صحتها؛ لو فقد بطلت الصلاة ووجب إعادتها؟
أولاً: معنى الشرط والفرق بينه وبين الركن:
شروط الصلاة جمع شرط بالتسكين، والشريطة في معناه وجمعها شرائط. والشرط بالتحريك العلامة، والجمع أشراط ومنه أشراط الساعة أي علاماتها.
والمستعمل في كلام الفقهاء الشروط لا الأشراط، وبعضهم يستعمل الشرائط كما في بدائع الصنائع للكاساني.
قال الشيخ ابن عثيمين: (الشرط في اللغة: هو العلامة.. قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: من الآية18)؛ أي علاماتها الدالة على قرب مجيئها.
وأما في الاصطلاح فمعناه: الأمر الذي يتوقف على وجوده وجود الحكم، ويلزم من عدمه عدم الحكم، وقد يوجد ولا يوجد الحكم.
ومثاله الوضوء بالنسبة للصلاة فلا تكون الصلاة صحيحة إلا بوجود الوضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، رواه البخاري (6954)، ومسلم (225). ومعنى ذلك أن الصلاة تنتفي إذا انتفى الوضوء، والوضوء قد يوجد من الشخص ولا يصلي، فهو أمر خارج عن الصلاة ولكنه ضروري لوجودها. ومثاله في الصلاة أيضاً ستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت وكل هذه شروط لا بد من توفرها حتى تكون الصلاة صحيحة، وقد توجد هذه الشروط، ولا توجد الصلاة). وشروط الصلاة: هي ما يتوقف عليها صحة الصلاة وليست منها)، من رسالة علم الأصول.
والفرق بين الركن والشرط: أن الركن داخل في الماهية والشرط خارجها. ويفترقان افتراق العام والخاص؛ فكل ركن شرط ولا ينعكس؛ بمعنى أنه يلزم من وجود العام عدم الخاص. والأعم والأخص على العكس؛ فإنه لا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، ويلزم من عدم الأعم عدم الأخص.
شروط الصلاة وموضع شرط ستر العورة في كلام العلماء:
يُقدم الحديث بتفصيل عن شروط الصلاة في غالب كتب الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها على أحكام الصلاة وأركانها، وبعض المصنفين يقدم في الشروط دخول الوقت لأنه سبب وجوب الصلاة، ومنهم من يقدم ستر العورة لأنه أعم الشروط؛ إذ ستر العورة واجب في الصلاة وخارجها.
وقد تنوعت تقسيمات العلماء للشروط، واختلفوا في حكم بعض الشروط وما يترتب على فقدها من أحكام، ومع ذلك فإن شرط ستر العورة متفق على كونه شرطاً لصحة الصلاة بين أغلب فقهاء المذاهب ما عدا بعض علماء المذهب المالكي.
وشرط ستر العورة في الصلاة عند من يقسمون الشروط إلى شروط وجوب وشروط صحة، وهم الأحناف والشافعية وبعض المالكية، من شروط صحة الصلاة، وعند من يجعلون الشروط كلها تحت مسمى واحد دون تقسيم، وهم الحنابلة، من شروط الصلاة، وهم ما يعني عندهم أنه من شروط صحة الصلاة، كما سيأتي.

حكم من ترك عمداً شرط ستر العورة في الصلاة:
ترك الستر الواجب في الصلاة عمداً يتعلق به حكمان:
حكم يتعلق بصحة الصلاة، وجمهور العلماء على أنه لا تصح الصلاة من مكشوف العورة التي أمر الشارع بسترها في الصلاة، إلا إذا كان عاجزاً عن ستر عورته، وزاد بعض فقهاء المالكية على عذر العجز: النسيان، فلو صلى وعورته مكشوفة ناسياً صحت صلاته عندهم (انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، للجزيري).
والحكم الثاني يتعلق بإسلام الذي يتعمد كشف عورته في الصلاة، فيصلي عالماً متعمداً كشف عورته وهو يصلي؛ أهو مرتد أم لا؟ قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (فصل في حكم ترك بعض شروط الصلاة أو ركن منها:
وحكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة واستقبال القبلة وستر العورة حكم تارك الصلاة، وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه هو كترك الصلاة، وكذلك ترك الركوع والسجود.
وإن ترك ركناً أو شرطاً مختلفاً فيه وهو يعتقد وجوبه؛ فقال ابن عقيل حكمه حكم تارك الصلاة، ولا بأس أن نقول بوجوب قتله.
وقال الشيخ أبو البركات ابن تيمية: عليه الإعادة ولا يقتل من أجل ذلك بحال.
فوجه قول ابن عقيل أنه تارك للصلاة عند نفسه وفي عقيدته فصار كتارك الزكاة والشرط المجمع عليه.
ووجه قول أبي البركات ابن تيمية أنه لا يباح الدم بترك المختلف في وجوبه.
وهذا أقرب إلى مأخذ الفقه، وقول ابن عقيل أقرب إلى الأصول؛ فإن تارك ذلك عازم وجازم على الإتيان بصلاة باطلة فهو كما لو ترك مجمعاً عليه، وللمسألة غور بعيد يتعلق بأصول الإيمان وأنه من أعمال القلوب واعتقادها) أغاثة اللهفان، 1/42، 43.

أقوال العلماء في شريطة ستر العورة لصحة الصلاة:
اتفق جمهور العلماء من الأحناف والشافعية والحنابلة وبعض المالكية على أن ستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة، فمن كان قادراً على ستر عورته فصلى مكشوف العورة بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة، وهذه مقتطفات من أقوال العلماء في ذلك:
1 – المذهب الحنفي:
قال علاء الدين الكاساني في بدائع الصنائع: (ومنها [شروط الصلاة] ستر العورة؛ لقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، قيل في التأويل الزينة ما يواري العورة، والمسجد الصلاة، فقد أمر بمواراة العورة في الصلاة. وقال النبي: "لا صلاة للحائض إلا بخمار"، كنى بالحائض عن البالغة؛ لأن الحيض دليل البلوغ فذكر الحيض وأراد به البلوغ لملازمة بينهما، وعليه إجماع الأمة، ولأن ستر العورة حال القيام بين يدي الله تعالى من باب التعظيم، وأنه فرض عقالً وشرعاً). بدائع الصنائع ج1/ص116.
2 – المذهب الحنبلي:
قال ابن قدامة المقدسي في المغني: (ستر العورة عن النظر بما لا يصف البشرة واجب، وشرط لصحة الصلاة، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي).
3 – المذهب الشافعي:
قال النووي في روضة الطالبين: (الشرط الخامس: ستر العورة: ويجب في غير الصلاة في غير الخلوة، وفي الخلوة أيضاً على الأصح. وهو شرط لصحة الصلاة في الخلوة، وغيرها، فإن تركه مع القدرة، بطلت. قلت: ولو صلى في سترة، ثم علم بعد الفراغ أنه كان فيها خرق تبين منه العورة، وجبت إعادة الصلاة على المذهب، سواء كان علمها، ثم نسيها، أم لم يكن علمها. وهو شبيه بمن علم النجاسة بعد الفراغ. ولو احتمل حدوث الخرق بعد السلام، فلا إعادة قطعاً).
4 – من علماء المذهب المالكي:
قال عبد الرحمن شهاب الدين البغدادي في إرشاد السالك، في: كتاب الصلاة: (فصل ستر العورة: ستر العورة شرط...).
أدلة الجمهور:
قال منصور البهوتي: في كشاف القناع: (وهو أي ستر العورة الشرط السادس [من شروط صحة الصلاة ] في الذكر، قال ابن عبد البر: أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً؛ لقوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)؛ لأنها وإن كانت نزلت بسبب خاص فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" رواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث عائشة ورواه الحاكم وقال على شرط مسلم، والمراد بالحائض البالغ.
والأحسن في الاستدلال أن يقال انعقد الإجماع على الأمر به في الصلاة، والأمر بالشيء نهي عن ضده الفساد)، كشاف القناع ج1/ ص 263.
حد العورة:
معنى ستر العورة:
قال في لسان العرب: (عورة قال في التذكير والتأنيث والجمع عَوْرة كالمصدر. قال الأزهري: العورة في الثغور وفي الحروب خلل يُتخوَّف منه القتل. وقال الجوهري: العورة خلل يُتخوف منه من ثغر أو حرب. والعورة: كل مكمن للستر. وعورة الرجل والمرأة: سوأتهما، والجمع عورات، بالتسكين، والنساء عورة)، لسان العرب، مادة حرم.
وفي كشاف القناع:
(الستر: بفتح السين مصدر ستره أي غطاه وبكسرها ما يستر به.
والعورة لغة: النقصان والشيء المستقبح، ومنه كلمة عوراء أي قبيحة... والعورة سوأة الإنسان أي قبله ودبره قال تعالى: (فَبَدَتْ لَهُمَا) (طـه: من الآية121) فيكون منهياً عن الصلاة مع كشف العورة والنهي في العبادات يدل على سوآتهما وكل ما يستحى منه على ما يأتي تفصيله. سميت عورة لقبح ظهورها. ثم إنها تطلق على ما يجب ستره في الصلاة وهو المراد هنا/ وعلى ما يحرم النظر إليه ويأتي في النكاح.
فمعنى ستر العورة: تغطية ما يقبح ظهوره ويستحى منه من ذكر أو أنثى أو خنثى حر أو غيره. وسترها أي العورة في الصلاة عن النظر حتى عن نفسه، فلو كان جيبه واسعاً بحيث يمكن رؤية عورته منه إذا ركع أو سجد وجب زره ونحوه ليسترها لعموم الأمر بستر العورة). كشاف القناع ج1/ص264.
عورة الرجل:
هي من السرة إلى الركبة، نص عليه أحمد، لحديث: "ما بين السرة والركبة عورة"، وهو حديث حسن كما في "الإرواء" (247 و271) إلى أحاديث أخرى بمعناه.
قال ابن قدامة في المغني: (والصالح في المذهب أنها من الرجل ما بين السرة والركبة نص عليه أحمد في رواية جماعة، وهو قول مالك، والشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء.
وفيه رواية أخرى أنها الفرجان قال مهنا، سألت أحمد ما العورة؟ قال: الفرج والدبر. وهذا قول ابن أبي ذئب وداود لما روى أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم( رواه البخاري.
وروت عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كاشفاً عن فخذه فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على ذلك ثم استأذن عمر فأذن له وهو على ذلك)، وهذا يدل على أنه ليس بعورة. ولأنه ليس بمخرج للحدث، فلم يكن عورة كالساق.
ووجه الرواية الأولى ما روى الخلال بإسناده، والإمام أحمد في [مسنده] عن جرهد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه قد كشف عن فخذه فقال: غط فخذك فإن الفخذ من العورة)، قال البخاري: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط.
وروى الدارقطني: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: لا تكشف فخذك، ولا تنظر فخذ حي ولا ميت)، وهذا صريح في الدلالة فكان أولى. وروى أبو بكر بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة"، وروى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره، فلا ينظر إلى شيء من عورته فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة" وفي لفظ: "ما بين سرته وركبته من عورته" رواه أبو بكر، وفي لفظ: "إذا زوج أحدكم خادمه عبده، أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة" رواه أبو داود. [وهو حديث حسن، انظر: في "الإرواء" (247 و274) إلى أحاديث أخرى بمعناه].
وهذه نصوص يتعين تقديمها. والأحاديث السابقة تحمل على أن غير الفرجين عورة غير مغلظة، والمغلظة هي الفرجان وهذا نص، والحر والعبد في هذا سواء لتناول النص لهما جميعاً).
وقال الألباني في تمام المنة: (فلا ينبغي التردد في كون الفخذ عورة ترجيحاً للأدلة القولية، فلا جرم أن ذهب إليه أكثر العلماء، وجزم به الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/52-53) و"السيل الجرار" (1/160-161). نعم؛ يمكن القول بأن عورة الفخذين أخف من عورة السوأتين، وهو الذي مال إليه ابن القيم في "تهذيب السنن" كما كنت نقلته عنه في "الإرواء" (1/301). وحينئذ؛ فمس الفخذ الذي وقع في حديث أبي ذر، والظاهر أنه من فوق الثوب، ليس كمس السوأتين).
هل سرة الرجل وركبته من العورة؟:
قال القاري في شرح مسند أبي حنيفة، فق مواقيت الإحرام: (واتفقوا على أن السرة من الرجل ليست بعورة، وأما الركبة فقال مالك والشافعي وأحمد ليست من العورة، وقال أبو حنيفة إنها منها. وبه عن بعض الشافعية).
قال ابن قدامة في المغني: (وليست سرته وركبتاه من عورته، نص عليه أحمد في مواضع، وهذا قال به مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة الركبة من العورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الركبة من العورة".
ولنا ما تقدم من حديث أبي أيوب وعمرو بن شعيب، ولأن الركبة حد فلم تكن من العورة كالسرة، وحديثهم يرويه أبو الجنوب، لا يثبته أهل النقل، وقد قبّل أبو هريرة سرة الحسن، ولو كانت عورة لم يفعلا ذلك).
عورة المرأة:
قال ابن قدامة: (وقال مالك، والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة؛ لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: من الآية31) قال: الوجه والكفين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم(نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب)، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والإعطاء.
وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة؛ لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن. وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها).
وقال الشيخ حسن مأمون رحمه الله: (حد عورة المرأة الحرة هو جميع بدنها حتى شعرها النازل على أذنيها، واستثنى من ذلك الحنفية الوجه والكفين والقدمين، كما استثنى من ذلك الشافعية الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما.
واستثنى الحنابلة من البدن الوجه فقط وقالوا إن ما عداه عورة.
وقال المالكية إن العورة بالنسبة للمرأة في الصلاة تنقسم إلى قسمين: مغلظة ومخففة فالمغلظة للحرة جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر وما حاذاه من الظهر. والمخففة لها هي الصدر وما حاذاه من الظهر والذراعان والعنق والرأس ومن الركبة إلى آخر القدم. أما الوجه والكفان ظهرا وبطنا فهما ليستا من العورة مطلقاً، فمن صلت مكشوفة العورة المغلظة كلها أو بعضها ولو قليلاً مع القدرة على الستر بطلت صلاتها إن كانت قادرة ذاكرة، وأعادتها وجوباً أبداً في الوقت وبعده، أما إذا صلت مكشوفة العورة المخففة؛ فإن صلاتها لا تبطل وإن كان كشفها مكروهاً في الصلاة ويحرم النظر إليها، ولكن يستحب لمن صلت مكشوفة العورة المخففة أن تعيد الصلاة في الوقت مستورة.
ومن هذا يتضح أن رأس المرأة وذراعيها وساقيها من العورة التي يجب سترها في الصلاة عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وتبطل الصلاة بكشف أحدها لفقد شرط من شروط الصلاة. أما عند المالكية فإن أحد هذه الأعضاء من العورة المخففة التي تصح الصلاة مع كشفه مع الكراهة واستحباب إعادة الصلاة في الوقت مستورة)، انظر: برنامج فتاوى الأزهر الإلكتروني، الموضوع (732)، عورة المرأة وما يراه الخاطب من مخطوبته.

حد اللباس في الصلاة:
قال ابن رجب في شرحه للبخاري: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) والمراد بذلك: أن يستروا عوراتهم عند المساجد، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك.
وقال طائفة من العلماء: إن الآية تدل على أخذ الزينة عند المساجد، وذلك قدر زائد على ستر العورة، وإن كان ستر العورة داخلاً فيه وهو سبب نزول الآيات، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش، وسترها من الزينة، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته؛ ولهذا قال تعالى عقب ذلك: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32).
وقال المناوي في فيض القدير: (قال في المطامح: اللباس المأمور به في الصلاة له صفتان: صفة إجزاء، وصفة كمال، فصفة الإجزاء كونه مستور العورة، والصفة الكمالية كونه مؤتزراً مرتدياً في أحسن زي وأكمل هيئة)، شرح الحديث رقم (731.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أن حدود اللباس في الصلاة وما يجب من ستر العورة فيها يختلف عن حدودها خارج الصلاة سواء في الحد أو في الحكمة، وهذا الفرق قد خفي على بعض الناس، حتى ظنوا أنهما سيان، قال رحمه الله تعالى: (اللباس للصلاة، وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء باب ستر العورة في الصلاة، فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يُستر في الصلاة هو الذي يُستر عن أعين الناظرين وهو العورة) اللباس في الصلاة، لابن تيمية، بتحقيق الألباني، ص 13.
وكذلك حكمة الستر في الصلاة تختلف عن حكمة الستر خارجها بزيادة عليها، قال رحمه الله تعالى: (فهذا نهي عن النظر والمس لعورة النظير، لما في ذلك من القبح والفحش. وأما الرجال مع النساء؛ فلأجل شهوة النكاح.
فهذان نوعان.
وفي الصلاة نوع ثالث؛ فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها.
فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عرياناً ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عرياناً ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع. وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال:
فالأول: مثل المنكبين. فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء. فهذا لحق الصلاة. ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة.
وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها، لهؤلاء ولا لغيرهم.
وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب – على أصح القولين – بخلاف ما كان قبيل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب.
وأما ستر ذلك في الصلاة؛ فلا يجب باتفاق المسلمين... فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً ولا عكساً) اللباس في الصلاة، بتحقيق الألباني، ص 22-24.
وقال ابن القيم: (العورة عورتان: عورة في النظر، وعورة في الصلاة، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، والله أعلم) أعلام الموقعين 2/80.
وقال في المغني: (الكلام في اللباس في أربعة فصول"
الفصل الأول: فيما يجزئ في الصلاة. والثاني: في الفضيلة. والثالث: فيما يكره. والرابع: فيما يحرم.
أما الأول: فإنه يجزئ ثوب واحد يستر عورته، وبعضه أو غيره على عاتقه...
الفصل الثاني: في الفضيلة، وهو أن يصلي في ثوبين أو أكثر فإنه إذا أبلغ في الستر...
الفصل الثالث: فيما يكره، يكره اشتمال الصماء... وتفسير الفقهاء أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه، والفقهاء أعلم بالتأويل فعلى هذا التفسير يكون النهي للتحريم، وتفسد الصلاة معه. ويكره السدل، وهو أن يلقى طرف الرداء من الجانبين ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى ولا يضم الطرفين بيديه وكرها لسدل ابن مسعود، والنخعي والثوري والشافعي، ومجاهد وعطاء وروي عن جابر وابن عمر الرخصة فيه وعن مكحول، والزهري وعبيد الله بن الحسن بن الحصين أنهم فعلوه وعن الحسن، وابن سيرين أنهما كانا يسدلان فوق قميصهما وقال ابن المنذر: لا أعلم فيه حديثاً يثبت... ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل... ويكره أن يغطي الرجل وجهه أو فمه... وهل يكره التلثم على الأنف؟ على روايتين: إحداهما يكره لأن ابن عمر كرهه والأخرى لا يكره لأن تخصيص الفهم بالنهي عن تغطيته تدل على إباحة تغطية غيره.. وتكره الصلاة في الثوب المزعفر للرجل، وكذلك المعصفر.
فأما شد الوسط في الصلاة، فإن كان بمنطقة أو مئزر أو ثوب أو شد قباء فلا يكره رواية واحدة، قال أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل يصلي وعليه قميص يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال: نعم فعل ذلك ابن عمر وإن كان بخيط أو حبل مع سرته وفوقها فهل يكره؟ على روايتين.
الفصل الرابع:
فيما يحرم لبسه والصلاة فيه وهو قسمان قسم تحريمه عام في الرجال والنساء، وقسم يختص تحريمه بالرجال.
فالأول: ما يعم تحريمه، وهو نوعان:
أحدهما: النجس لا تصح الصلاة فيه، ولا عليه لأن الطهارة من النجاسة شرط وقد فاتت.
والثاني: المغصوب، لا يحل لبسه ولا الصلاة فيه وهل تصح الصلاة فيه؟ على روايتين.
القسم الثاني: ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء، وهو الحرير والمنسوج بالذهب، والمموه به فهو حرام لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها. ويباح العلم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون. فأما المنسوج من الحرير وغيره كثوب منسوج من قطن وإبريسم أو قطن وكتاب فالحكم للأغلب منهما.
فأما الثياب التي عليها تصاوير الحيوانات؛ فقال ابن عقيل يكره لبسها وليس بمحرم. وقال أبو الخطاب هو محرم لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كل ولا صورة" متفق عليه. وحجة من لم يره محرماً أن زيد بن خالد رواه عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: "إلا رقماً في ثوب" متفق عليه؛ لأنه يباح إذا كان مفروشاً أو يتكئ عليه، فكذلك إذا كان ملبوساً.
ويكره التصليب في الثوب؛ لأن عمران بن حطان روى عن عائشة أن رسول الله "كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلا قضبه" رواه أبو داود يعني قطعه.

لباس الرجل في الصلاة:
يشترط للصلاة فيه ستر العورة، وهي ما بين الركبة والسرة – كما سبق ذكره-، مع ستر أحد العاتقين، قال البهوتي في الروض المربع: (وتستحب صلاته في ثوبين: كالقميص والرداء أو الإزار، أو السراويل مع القميص...).
أقوال العلماء في حكم ستر العاتقين في الصلاة:
قال ابن رجب: (خرج البخاري في حديثين: أحدهما عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه شيء"، هكذا الرواية: "لا يصلي" بالياء، فيكون إخباراً عن الحكم الشرعي، أو إخباراً يراد به النهي، كما قيل مثله في قول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (البقرة: من الآية233).
والثاني عن عكرمة، سمعته – أو كنت سألته – قال: سمعت أبا هريرة يقول: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه".
والحديث الأول: نهي لمن صلى في ثوب واحد أن يجرد عاتقيه، والثاني: أمر لمن صلى في ثوب واحد أن يخالف بين طرفيه ويضعهما على عاتقيه.
وقد أجمع العلماء على استحباب ذلك وأنه الأفضل، بل كرهوا للمصلي أن يجرد عاتقيه في الصلاة.
قال النخعي: كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد رداء يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالاً ثم صلى. وقال النخعي أيضاً: كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة. خرجهما ابن أبي شيبة في (كتابه). وقد سبق قول ابن عمر – وروي عنه مرفوعاً-: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبه، فإن الله أحق أن يتزين له". وفي رواية عنه: "إذا صلى أحدكم فليتزر وليرتد".
ولو صلى مكشوف المنكبين:
فقال أكثر الفقهاء: لا إعادة عليه، وحكي رواية عن أحمد.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: عليه الإعادة لارتكابه النهي.
والمشهور من مذهب أحمد: أنه إن صلى الفريضة كذلك أعاد، وفي إعادة النفل عنه روايتان.
وقد قيل: إن الشافعي نص على وجوبه في الصلاة، وحكى بعض المالكية عن أبي الفرج من أصحابهم: أن ستر جميع الجسد في الصلاة لازم، وفي صحة هذا نظر.
ونص أحمد على أنه لو ستر أحد منكبيه وأعرى الآخر صحت صلاته؛ لأنه لم يرتكب النهي، فإن النهي هو إعراء عاتقيه، ولم يوجد ذلك.
وقال القاضي أبو يعلى: يجب ستر جميع منكبيه كالعورة. وقال في موضع: يجزئ ستر بعضهما، ولا يجب سترهما بما لا يصف البشرة، كالعورة.
ولأصحابنا وجه: أنه يجزئ أن يضع على عاتقيه ولو حبلاً أو خيطاً وإن لم يستره به.
ولهم وجه آخر: أنه كان ذلك يسمى لباساً أجزأه، وإلا فلا.
وقد سبق أن من أصحابه من كان يضع على عاتقيه عقالاً ثم يصلي. وقال النخعي: تقليد السيف في الصلاة بمنزلة الرداء. وكان سعيد بن جبير يفعله. وعن الحسن قال: السيوف أردية الغزاة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه صلى بالناس في قوس ليس عليه رداء غيرهما.
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن مكحول، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في قوس. وقال النخعي: كان يكره القوس. وقال الثوري: القوس والسيف بمنزلة الرداء. وعن الأوزاعي نحوه، انظر: شرح البخاري لابن رجب، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه.
وقال: (عن جابر، فذكر حديثاً طويلاً، وفيه: قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقام يصلي، وكانت علي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها، فلم يبلغ لي، وكانت لها ذباذب فنكستها، ثم خالفت بين طرفيها، ثم تواقصت عليها لا تسقط، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر فقام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فأشار إلي أن أتزر بها فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ":إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك".
فهذا السياق يدل على أن بردة جابر كانت ضيقة لا تتسع للاتزار بها والارتداء، ولذلك تواقص عليها لئلا تسقط.
قال الخطابي في المعالم: معناه: أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به، كأنه يحكي خلقة الأوقص من الناس – يعني: مائل العنق.
وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الصلاة بإزار واحد مع إعراء المنكبين صحيحة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن يتزر ويصلي لما عجز عن ستر عورته ومنكبيه بالبردة التي عليه لضيقها. وممن استدل بذلك الشافعي وأصحابه ومن وافقهم.
وقد روى شرحبيل بن سعد، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك، ثم صل على غير رداء". خرجه الإمام أحمد، وشرحبيل هذا مختلف في أمره.
وأجاب أصحابنا عن ذلك من وجهين:
أحدهما: ما أجاب به أبو بكر الأثرم: أن ذلك محمول على حالة العجز عن ستر المنكبين، والنهي عن إعرائهما إنما يكون للقادر على سترهما. وهذا – أيضاً – قول إسحاق، قال: إن أعرى منكبيه في الصلاة من ضرورة فجائز-: نقله عنه حرب.
والثاني: أن حديث جابر هذا محمول على صلاة النافلة، وحديث أبي هريرة محمول على صلاة الفرض، وهذا جواب أبي بكر عبد العزيز بن جعفر.
ويشهد له: أن في رواية البخاري أن ذلك كان ليلاً؛ وقوله: (ما السرى يا جابر؟) يدل على أنه كان من آخر الليل، فيحتمل أن تكون تلك صلاة الليل، أو صلاة الوتر. والله أعلم). شرح البخاري لابن رجب باب إذا كان الثوب ضيقاً.
قال ابن قدامة في المغني: (يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئاً من اللباس، إن كان قادراً على ذلك، وهو قول ابن المنذر، وحكي عن أبي جعفر أن الصلاة لا تجزئ من لم يخمر منكبيه.
وقال أكثر الفقهاء: لا يجب ذلك ولا يشترط لصحة الصلاة، وبه قال مالك، والشافعي وأصحاب الرأس؛ لأنهما ليسا بعورة فأشبها بقية البدن.
ولنا؛ ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وغيرهم، وهذا نهي يقتضي التحريم ويقدم على القياس. وروى أبو داود عن بريدة، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف لا يتوشح به وأن يصلي في سراويل ليس عليه رداء).
ويشترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب؛ لأنه منهى عن تركه في الصلاة، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنها سترة واجبة في الصلاة والإخلال بها يفسدها، كستر العورة. وذكر القاضي أنه نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط، وأخذه من رواية مثنى بن جامع عن أحمد فيمن صلى وعليه سراويل وثوبه على إحدى عاتقيه، والأخرى مكشوفة: يكره. قيل له: يؤمر أن يعيد؟ فلم ير عليه إعادة. وهذا يحتمل أنه لم ير عليه الإعادة لستره بعض المنكبين فاجتزئ بستر أحد العاتقين عن ستر الآخر لامتثاله للفظ الخبر. ووجه اشتراط ذلك أنه منهي عن الصلاة مع كشف المنكبين، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنها سترة واجبة في الصلاة فالإخلال بها يفسدها كستر العورة).
وهل يجزئ ستر أحد العاتقين فقط؟ وما يشترط في ستره؟
قال في المغني: (ولا يجب ستر المنكبين جميعهما بل يجزئ ستر بعضهما، ويجزئ سترهما بثوب خفيف يصف لون البشرة؛ لأن وجوب سترهما بالحديث ولفظه: (لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، وهذا يقع على ما يعم المنكبين وما لا يعمهما، وقد ذكرنا نص أحمد فيمن صلى وإحدى منكبيه مكشوفة فلم يوجب عليه الإعادة.
فإن طرح على كتفه حبلاً أوخيطاً ونحوه؛ فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه لقوله شيئاً من اللباس، وهذا لا يسمى لباساً، وهو قول القاضي.
وقال بعض أصحابنا: يجزئه لأن هذا شيء فيكون الحديث متناولاً له، وقد روي عن جابر (أنه صلى في ثوب واحد متوشحاً به، كأني أنظر إليه كأن على عاتقه ذنب فأرة). وعنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوباً ألقى على عاتقه عقالاً وصلى.
والصحيح: أنه لا يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه) من الصحاح ورواه أبو داود. ولأن الأمر بوضعه على العاتقين للستر ولا يحصل ذلك بوضع خيط ولا حبل، ولا يسمى سترة ولا لباساً، وما روي عن جابر لم يصح وما روي عن الصحابة إن صح عنهم فلعدم ما سواه، والله أعلم.
وهل هناك فرق بين صلاة الفرض وصلاة النفل في ستر أحد العاتقين:
قال ابن قدامة: (ولم يفرق الخرقي بين الفرض والنفل لأن الخبر عام فيهما، ولأن ما اشترط للفرض اشترط للنفل كالطهارة، ونص أحمد أنه يجزئه في التطوع، فإنه قال في رواية حنبل: إنه يجزئه أن يأتزر بالثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء في التطوع لأن النافلة مبناها على التخفيف، ولذلك يسامح فيه بهذا المقدار. واستدل أبو بكر على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الثوب ضيقاً فاشدده على حقوك" قال: هذا في التطوع وحديث أبي هريرة في الفرض.
مسألة: قال: ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك).
ستر العورة من الأسفل:
قال كشاف القناع: (ولا يجب ستر العورة عن النظر من أسفل، ولو تيسر النظر إليها من أسفل بأن كان يصلي على مكان مرتفع بحيث لو رفع رأسه مَن تحته لرأى عورته، وفي المبدع وغيره والأظهر: بلى؛ إن تيسر النظر واجب [يعني سترها في هذه الحالة واجب]) كشاف القناع، ج1/ ص 264.
لباس المرأة في الصلاة:
يجوز للمرأة لها أن تكشف الوجه والكفين، فإن كانت بحضرة رجال أجانب يرونها سترت ذلك، وقال أبو حنيفة بجواز كشف القدمين، وقواه شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: (... الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب – على أصح القولين – بخلاف ما كان قبيل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب.
وأما ستر ذلك في الصلاة؛ فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوى، فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة. قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: من الآية31)، قالت: [الفتخ] حلق من فضة تكون في أصابع الرجلين. رواه ابن أبي حاتم. فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولاً، كما يظهرن الوجه واليدين كن يرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها، ولم يكن يمشين في خفاف أو أحذية، وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم، وأم سلمة قالت: تصلي المرأة في ثوب سابغ، يغطي ظهر قدميها فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم.
وبالجملة، قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت. وحينئذ فتصلي في بيتها وإن رؤي وجهها ويداها وقداها، كما كن يمشين أولاً قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً ولا عكساً) اللباس في الصلاة، بتحقيق الألباني، ص 22-24.
وقال ابن قدامة: (فأما الكفان فقد ذكرنا فيهما روايتين: إحداهما: لا يجب سترهما لما ذكرنا والثانية: يجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة) وهذا عام إلا ما خصه الدليل. وقول ابن عباس: الوجه والكفان. قد روى أبو حفص عن عبد الله بن مسعود خلافه، قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: من الآية31)قال: الثياب. ولا يجب كشف الكفين في الإحرام إنما يحرم أن تلبس فيهما شيئاً مصنوعاً على قدرهما كما يحرم على الرجل لبس السراويل والذي يستر به عورته).
وقال: (والمستحب أن تصلي المرأة في درع – وهو القميص لكنه سابغ يغطي قدميها-، وخمار يغطي رأسها وعنقها، وجلباب وهو الملحفة، تلتحف به من فوق الدرع، روى نحو ذلك عن عمر وابنه وعائشة، وعبيدة السلماني وعطاء، وهو قول الشافعي. قال أحمد: قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار، وما زاد فهو خير وأستر. ولأنه إذا كان عليها جلباب فإنها تجافيه راكعة وساجدة لئلا تصفها ثيابها، فتبين عجيزتها ومواضع عوراتها المغلظة.
ويجزئها من اللباس الستر الواجب على ما بينا بحديث (أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار، ليس عليها إزار؟ قال: نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها). وقد روي عن ميمونة وأم سلمة، أنهما كانتا تصليان في درع وخمار ليس عليهما إزار رواه مالك في الموطأ، وقال أحمد: قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار ولأنها سترت ما يجب عليها ستره، فأجزأتها صلاتها كالرجل.
ويكره أن تنتقب المرأة وهي تصلي؛ لأنه يخل بمباشرة المصلي بجبهتها وأنفها ويجري مجرى تغطية الفم للرجل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، قال ابن عبد البر: وقد أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام).
قال البهوتي في الروض المربع: (وتستحب صلاتها أي صلاة المرأة في درع وهو القميص وخمار وهو ما تضعه على رأسها وتديره تحت حلقها. وملحفة أي ثوب تلتحف به.
وتكره صلاتها في نقاب وبرقع، ويجزئ المرأة ستر عورتها في فرض ونفل).
قال ابن رجب: (وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن على المرأة الحرة البالغ أن تخمر رأسها إذا صلت، وأنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة. قال: وأجمعوا أن لها أن تصلي وهي مكشوفة الوجه.
واختلفوا فيما عليها أن تغطي في الصلاة:
فقالت طائفة: عليها أن تغطي ما سوى وجهها وكفيها، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وأبي ثور.
وقال أحمد: إذا صلت تغطي كل شيء منها ولا يرى منها شيء، ولا ظفرها.
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة، حتى ظفرها.
قلت: قد تقدم أن كشف وجهها في الصلاة جائز بالإجماع، والخلاف في الكفين، وفيه عن أحمد روايتان.
وقال الحسن: إذا بلغت المحيض فصلت ولم توار أذنبها فلا صلاة لها.
وعند أبي حنيفة: لا يجب عليها ستر اليدين ولا القدمين.
وأما الوجه، فقد ذكر ابن المنذر وغيره الإجماع على جواز كشفه في الصلاة، وهذا يدل على أن أخذ المرأة الجلباب في صلاة العيدين ليس هو لأجل الصلاة، بل هو للخروج بين الرجال، ولو كانت المرأة حائضاً لا تصلي فإنها لا تخرج بدون جلباب) باب وجوب الثياب للصلاة.

مسألة قدمي المرأة في الصلاة:
قال الإمام أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة لأنهما يظهران غالباً فهما كالوجه. وأجاب ابن قدامة عن ذلك: (والدليل على وجوب تغطية القدمين ما روت (أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: نعم، إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها) رواه أبو داود وقال: وقفه جماعة على أم سلمة ووقفه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وروى ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ذيله خيلاء فقالت أم سلمة: كيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً فقالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وهذا يدل على وجوب تغطية القدمين ولأنه محل لا يجب كشفه في الإحرام فلم يجب كشفه في الصلاة كالساقين.
وما ذكره من تقدير البطلان بزيادة على ربع العضو فتحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه بمجرد الرأي، وقد ثبت وجوب تغطية الرأس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن وبالإجماع على ما قدمناه).
وقد سبق ذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
وقال الشيخ عطية صقر: (جسم المرأة كله عورة في الصلاة ما عدا وجهها وكفيها، فلو ظهر شيء منه بطلت الصلاة، والتي تصلي بملابس قصيرة كشفت عورتها المخففة عند مالك، فتصح صلاتها وإن كان كشفها حراماً أو مكروهاً. ولكن تنبغي إعادتها بستر كامل ما دام وقت الصلاة باقياً، فإن خرج وقتها فلا إعادة مع بقاء المؤاخذة عليها.
وقدم المرأة من العورة المخففة عند مالك، وحكم كشفه هو ما ذكر، وبطن القدمين عورة يجب سترها عند الشافعية والأحناف، وظاهرهما عورة عند الشافعية يجب سترها، وليس بعورة عند الأحناف لو انكشف لا تبطل الصلاة.
وستر القدمين قد يكون بالجورب غير الشفاف، وقد يكتفى فيه بالثوب الطويل السابغ المغطي لهما عند السجود بالذات) انظر: برنامج فتاوى الأزهر الإلكتروني، الموضوع (45) هل قدم المرأة عورة في الصلاة؟

شروط لباس الصلاة:
للباس الصلاة شروط، وهي أوصاف في اللباس نفسه يجب تحققها حتى تصح فيها الصلاة، ومقصدها إجمالاً تحقيق ستر العورة، وهي:
1 – يجب أن يكون كثيفاً صفيقاً لا يشف لون العورة، والثوب الصفيق يعني بين الصفاقة: ضد سخيف والسين لغة فيه؛ أي: متين جيد النسيج، وقد صفق صفاقة إذا كثف نسيجه كثيفاً.
فإن كان الثوب خفيفاً أو رقيقاً يصف ما تحته من البدن أو يتبين من ورائه لون الجلد فيميزه من يراه؛ فلا تجوز فيه الصلاة؛ لأن كشف لون العورة ككشفها.
وإن كان اللباس يستر لون العورة، لكنه ضيق يصف شكلها أو حجمها، جازت الصلاة به، لكنه مكروه للمرأة عند الشافعية، وللرجل خلاف الأولى.
قال ابن قدامة في المغني: (والواجب الستر بما يستر لون البشرة، فإن كان خفيفاً يبين لون الجلد من ورائه، فيعلم بياضه أو حمرته؛ لم تجز الصلاة فيه لأن الستر لا يحصل بذلك. وإن كان يستر لونها ويصف الخلقة؛ جازت الصلاة لأن هذا لا يمكن التحرز منه وإن كان الساتر صفيقاً).
قال ابن الحاجي: (والساتر الخفيف كالعدم). انظر: مواهب الجليل.
2 – ويشترط أن يكون الساتر ملبوساً، فلا تكفي الخيمة الضيقة والظلمة عند الشافعية والحنابلة، ولا يكفي الخيط والحبل في ستر أحد العاتقين، وقد سبق كلام ابن قدامة في ذلك: (فإن طرح على كتفه حبلاً أو خيطاً ونحوه؛ فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه لقوله شيئاً من اللباس، وهذا لا يسمى لباساً، وهو قول القاضي.
وقال بعض أصحابنا: يجزئه لأن هذا شيء فيكون الحديث متناولاً له، وقد روي عن جابر (أنه صلى في ثوب واحد متوشحاً به، كأني أنظر إليه كأن على عاتقه ذنب فأرة). وعنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوباً ألقى على عاتقه عقالاً وصلى.
والصحيح: أنه لا يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه) من الصحاح ورواه أبو داود. ولأن الأمر بوضعه على العاتقين للستر ولا يحصل ذلك بوضع خيط ولا حبل، ولا يسمى سترة ولا لباساً، وما روي عن جابر لم يصح وما روي عن الصحابة إن صح عنهم فلعدم ما سواه، والله أعلم).
وهل يشترط أن يكون الستر شاملاً أسفل العورة:
الواجب هو ستر العورة من جوانبها، عند الحنفية وغيرهم من الفقهاء، فلا يجب الستر من أسفل أو من فتحة قميصه، فلو صلى على زجاج يصف ما فوقه؛ جاز. قال في كشاف القناع: (ولا يجب ستر العورة عن النظر من أسفل ولو تيسر النظر إليها من أسفل بأن كان يصلي على مكان مرتفع بحيث لو رفع رأسه مَن تحته لرأى عورته.
وفي المبدع وغيره والأظهر: بلى إن تيسر النظر واجب [يعني سترها في هذه الحالة واجب]) كشاف القناع، ج1/ ص 264.
أما طهارة الثياب فهي شرط في صحة الصلاة، فتراجع في موضعها.
أحوال فقد شرط ستر العورة في الصلاة:
يجب على المسلم إذا لم يجد ما يستر به العورة في الصلاة أن يشتري ما يلبسه لستر العورة في الصلاة، قال البهوتي في الروض المربع: (ويلزم العريان تحصيل السترة بثمن أو أجرة مثلها أو زائد يسراً). قال ابن قدامة في المغني: (وإن وجد من يبيعه ثوباً بثمن مثله أو يؤجره بأجرة مثله أو زيادة يتغابن الناس بمثلها، وقدر على ذلك العوض لزمه قبوله. وإن كانت كثيرة لا يتغابن الناس بمثلها، لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء).
وأحوال فقد الستر متعددة، ويتفاوت فيها صور وجود شرط ستر العورة وعدمه، وقد رأيت تقسيم هذه الأحوال، ليسهل إيراد أقوال العلماء في حكمها بشكل واضح، ويتفاوت فيها صور وجود شرط ستر العورة وعدمه، وقد رأيت تقسيم هذه الأحوال، ليسهل إيراد أقوال العلماء في حكمها بشكل واضح، إلى ثلاثة أقسام: الأول أحوال فقد الستر في أثناء الصلاة. والثاني أحوال فقد الستر بالأوصاف المشروطة والواجبة فيه. والثالث أحوال فقد الستر من حيث كفايته لستر العورة. وتحت كل قسم من هذه الأقسام أحوال وتفصيلات، وهذا بيانها:
أولاً: فقد الستر من حيث تعلقه بوقت الصلاة:
1 – يجد ما يستر عورته في أثناء الصلاة:
قال البهوتي في الروض المربع: (فإن وجد المصلي عرياناً سترة قريبة عرفاً في أثناء الصلاة ستر بها عورته وبنى على ما مضى من صلاته، وإلا يجدها قريبة بل وجدها بعيدة ابتدأ الصلاة بعد ستر عورته، وكذا مَن عتقت فيها واحتاجت إليها [يعني الأمة عتقت وهي تصلي، لأن الأمة إذا عتقت صارت عورتها عورة حرة يلزمها ما يلزم الحرة من اللباس في الصلاة]).

2 – انكشاف العورة دون قصد فجأة في أثناء الصلاة:
إن انكشفت عورة المصلي فجأة بالريح مثلاً عن غير عمد، فستره في الحال، لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة لانتفاء المحذور، وإن قصر أو طال الزمان بطلت لتقصيره، ولأن الزمن الكثير يفحش انكشاف العورة فيه، ويمكن التحرز منه، فلم يعف عنه. وقال المالكية: تبطل الصلاة مطلقاً بانكشاف العورة المغلظة. وقال الأحناف: إذا انكشف ربع العضو من أعضاء العورة، فسدت الصلاة إن استمر بمقدار أداء ركن، بلا صنعه، فإن كان بصنعه فسدت في الحال.
قال البهوتي في الروض المربع: (ومن انكشف بعض عورته في الصلاة رجلاً كان أو امرأة وفحش عرفاً وطال الزمن أعاد. وإن قصر الزمن، أو لم يفحش المكشوف ولو طال الزمن، لم يُعِد إن لم يتعمده).
قال ابن قدامة في المغني: (فإن انكشف من العورة يسير؛ لم تبطل صلاته. نص عليه أحمد، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: تبطل لأنه حكم تعلق بالعورة، فاستوى قليله وكثيره؛ كالنظر.
ولنا؛ ما روى أبو داود بإسناده عن أيوب، عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: (انطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة، وقال: يؤمكم أقرؤكم. فكنت أقرأهم فقدموني، فكن أؤمهم وعلي بردة لي صفراء صغيرة، وكنت إذا سجدت انكشفت عني، فقالت امرأة من النساء: وراوا عنا عورة قارئكم. فاشتروا لي قميصاً عمانياً، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به) ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً، عن عاصم الأحول، عن عمرو بن سلمة، قال: (فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق، فكنت إذا سجدت فيها خرجت استي). وهذا ينتشر ولم ينكر، ولا بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره ولا أحد من أصحابه. ولأن ما صحت الصلاة مع كثيره حال العذر؛ فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر؛ كالمشي. ولأن الاحتراز من اليسير يشق فعفي عنه كيسير الدم.
إذا ثبت هذا؛ فإن حد الكثير ما فحش في النظر، ولا فرق في ذلك بين الفرجين وغيرهما. واليسير ما لا يفحش، والمرجع في ذلك إلى العادة، إلا أن المغلظة يفحش منها ما لا يفحش من غيرها، فيتعبر ذلك في المانع من الصلاة.
وقال أبو حنيفة: إن انكشف من المغلظة قدر الدرهم أو من المخففة أقل من ربعها لم تبطل الصلاة. وإن كان أكثر بطلت. ولنا؛ أن هذا شيء لم يرد الشرع بتقديره، فرجع فيه إلى العرف، كالكثير من العمل في الصلاة، والتفرق والإحراز، والتقدير بالتحكم من غير دليل لا يسوغ).
وقال: (فإن انكشفت عورته عن غير عمد فسترها في الحال، من غير تطاول الزمان لم تبطل لأنه يسير من الزمان أشبه اليسير في القدر وقال التميمي في "كتابه": إن بدت عورته وقتاً واستترت وقتاً، فلا إعادة عليه لحديث عمرو بن سلمة ولم يشترط اليسير ولا بد من اشتراطه لأن الكثير يفحش انكشاف العورة فيه ويمكن التحرز منه، فلم يعف عنه كالكثير من القدر).
3 – لا يجد ما يستر عورته في وقت الصلاة، ولو سعى لتحصيله يخرج الوقت:
قد لا يجد بعض الناس ما يستر به عورته في الصلاة إلا بعد خروج وقت الصلاة، فهل ينتظر حتى يحصل ما يستر به عورته وإن خرج وقت الصلاة؟ أو يجب عليه أن يصلي في الوقت ولو عرياناً، قال في المغني: (فإن كان مع العراة واحد له ثوب، لزمته الصلاة فيه لأنه قادر على السترة، فإن أعاره وصلى عرياناً لم تصح صلاته لتركه الواجب عليه. ويستحب أن يعيره بعد صلاته فيه لغيره، ليصلي فيه لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2). ولا يجب عليه ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد من به ضرورة، لزم إعطاؤه إياه لأنها حال ضرورة.
فإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد ولم تجز لهم الصلاة عراة لأنهم قادرون على الستر، إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلي فيه واحد والباقون عراة.
وقال الشافعي: لا يصلي أحد عرياناً وينتظر الثوب وإن خرج الوقت ولا يصح فإن الوقت آكد من القيام، بدليل ما لو كانوا في سفينة في موضع ضيق لا يمكن جميعهم الصلاة فيه قياماً صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوات الوقت فيصلون قعوداً، نص الشافعي على هذا والقيام آكد من السترة عنده. وعلى رواية لنا.
والوجه الآخر أقيس عندي، فإن المحافظة على الشرط مع إمكانه أولى مع إدراك الوقت؛ بدليل ما لو جد ما لا يمكنه استعماله إلا بعد فوات الوقت أو سترة يخاف فوات الوقت إن تشاغل بالمخشي إليها والاستتار بها، فأولى أن يكون الوقت مقدماً على الستر فإن امتنع صاحب الثوب من إعارتهم، أو ضاق الوقت عن أكثر من صلاة، فالمستحب أن يؤمهم صاحب الثوب ويقف بين أيديهم، فإن كان أمياً وهم قراء؛ صلى الباقون جماعة على ما أسلفنا. قال القاضي: يصلي هو منفرداً.
وإذا أراد صاحب الثوب إعارة ثوبه ومعهم نساء؛ استحب أن يبدأ بهن لأنهن آكد في الستر. وإذا صلين فيه أخذه فإا تضايق الوقت وفيهم قارئ فالمستحب أن يبدأ به ليكون إمامهم. وإن أعاده لغير القارئ صار حكمه كحكم صاحب الثوب فإن استووا ولم يكن الثوب لواحد منهم أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة فهو أحق، وإن لم يستووا فالأولى به من تستحب البداية بإعارته، على ما ذكرنا).

ثانياً: فقد الستر من حيث شروطه، فلا يجد إلا ما به وصف محرم أو مكروه:
اتفق العلماء على أن الصلاة في ثوب محرم لا تجوز، كالثوب المغصوب أو الحرير أو النجس، لكن هل تصح الصلاة في ثوب محرم؟ وهل يعيد من صلى فيه؟ قال البهوتي في الروض المربع: (أو صلى في ثوب محرم عليه كمغصوب كله أو بعضه وحرير ومنسوج بذهب أو فضة إن كان رجلاً واحداً غيره وصلى فيه عالماً ذاكراً أعاد. وكذا إذا صلى في مكان غصب أو صلى في ثوب نجس أعاد...) قال ابن قدامة: (المغصوب، لا يحل لبسه ولا الصلاة فيه، وهل تصح الصلاة فيه؟ على روايتين إحداهما لا تصح، والثانية تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن التحريم لا يختص الصلاة ولا النهي يعود إليها، فلم يمنع الصحة كما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب، وكما لو صلى وعليه عمامة مغصوبة، ووجه الرواية الأولى أنه استعمل في شرط العبادة ما يحرم عليه استعماله فلم تصح كما لو صلى في ثوب نجس، ولأن الصلاة قربة وطاعة وهو منهي عنها على هذا الوجه فكيف يتقرب بما هو عاص به، أو يؤمر بما هو منهي عنه على هذا الوجه. وأما إذا صلى في عمامة مغصوبة أو في يده خاتم من ذهب فإن الصلاة تصح لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة، إذ العمامة ليست شرطاً فيها. وإن صلى في دار مغصوبة فالخلاف فيها كالخلاف في الثوب المغصوب إلا أن أحمد قال في الجمعة: يصلي في مواضع الغصب لأنها تختص بموضع معين، فالمنع من الصلاة فيه إذا كان غصباً يفضي إلى تعطيلها فلذلك أجاز فعلها فيه كما أجاز صلاة الجمعة خلف الخوارج وأهل البدع والفجور كي لا يفضي إلى تعطيلها).
أما أحوال العاجز عن تحصيل ما يستر به العورة في الصلاة، ولا يجد إلا ثوباً محرماً أو معاراً، فأحكامها على النحو الآتي:
1 – لا يجد إلا ثوباً من حرير:
قال في المغني: (فإن لم يجد إلا ثوب حرير صلى فيه ولا يعيد).
2 – لا يجد إلا ثوباً نجساً:
قال ابن قدامة: (فإن لم يجد إلا ثوباً نجساً قال أحمد: يصلي فيه، ولا يصلي عرياناً. وهو قول مالك والمزني، وقال الشافعي وأبو ثور: يصلي عرياناً ولا يعيد؛ لأنها سترة نجسة فلم تجز له الصلاة فيها كما لو قدر على غيرها. وقال أبو حنيفة: إن كان جميعه نجساً فهو مخير في الفعلين لأنه لا بد من ترك واجب في كلا الفعلين، وفعل واجب فاستويا.
ولنا؛ أن الستر آكد من إزالة النجاسة على ما قررناه في الصلاة جالساً، فكان أولى. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غط فخذك" وهذا عام. ولأن السترة متفق على اشتراطها، والطهارة من النجاسة مختلف فيها، فكان المتفق عليه أولى وما ذكره الشافعي معارض بمثله، وهو أنه قدر على ستر عورته، فلزمه كما لو وجد ثوباً طاهراً إذا انفرد أنه يصلي فيه. فالمنصوص عن أحمد أنه لا يعيد لأن الطهارة من النجاسة شرط قد فاتت، وقد نص في من صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه أنه لا يعيد، فكذا ها هنا، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وهو الصحيح لأنه شرط للصلاة عجز عنه فسقط كالسترة والاستقبال بل أولى، فإن السترة آكد بدليل تقديمها على هذا الشرط ثم قد صحت الصلاة وأجزأت عند عدمها، فها هنا أولى).
3 – لا يجد إلا ثوباً مغصوباً:
قال ابن قدامة: (وإن لم يجد إلا ثوباً مغصوباً صلى عرياناً لما في ذلك من حق الآدمي، فأشبه ما لو لم يجد ماء يتوضأ به إلا أن يغصبه فإنه يتيمم كذا ها هنا، والله أعلم).
4 – لا يجد إلا ثوباً يستعيره:
قال البهوتي في الروض المربع: (وإن أعير سترة لزمه قبولها لأنه قادر على ستر عورته بما لا ضرر فيه بخلاف الهبة للمنة ولا يلزمه استعارتها).
قال ابن قدامة: (وإذا بذل له سترة لزمه قبولها إذا كانت عارية لأنه قدر على ستر العورة بما لا ضرر فيه. وإن وهب له لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه منة ويحتمل أن يلزمه ذلك لأن العار في بقاء عورته مكشوفة أكبر من الضرر في المنة التي تلحقه). وقال: (فإن كان مع العراة واحد له ثوب، لزمته الصلاة فيه لأنه قادر على السترة، فإن أعاره وصلى عرياناً لم تصح صلاته لتركه الواجب عليه ويستحب أن يعيره بعد صلاته فيه لغيره، ليصلي فيه لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2) ولا يجب عليه ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد من به ضرورة، لزم إعطاؤه إياه لأنها حال ضرورة).
وقد خرج البخاري عن أم عطية، قالت: أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور، يشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن المصلى. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها)، رقم 351، فإذا كانت هذه الإعارة لغير الصلاة فهي للصلاة أوجب.
قال الحطاب الرعيني في مواهب الجليل: (وقوله: "وإن بإعارة" مبالغة يريد أن الستر مطلوب وإن كان ما يستتر به لغيره، فإن أعاره وجب عليه قبوله فإنه واجد للستر كهبة الماء للوضوء لقلة المنة. وقوله: "أو طلب" مبالغة في الحث على تحصيله والله أعلم.
وكلامه في وجوب الطلب إذا علم من حاله أن لا يبخل بذلك، وإن علم من حاله عدم الإجابة سقط وجوب الطلب. انتهى من شرحه على المختصر وقاله التلمساني في شرح الجلاب) ص 178، 179.

ثالثاً: فقد الستر من حيث عدم كفايته أو لعدمه كله:
قد لا يجد المصلي إلا ثوباً لا يكفي لستر عورته كلها، فما الذي يقدمه من العورة في الستر، وكيف يصلي فيه؟ وكذلك قد لا يجد شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً؛ فكيف يصلي؟ أيصلي واقفاً أم قاعداً أم يتضام؟ إليك بيان هذه المسائل وما يتفرع فيما يأتي:
1 – لا يجد إلا ما يستر به بعض عورته، كالثوب المخرق أو القصير أو المقطوع:
قال ابن قدامة: (فإن لم يجد إلا ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به)، وهذا الثوب ضيق، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عمر، قال: (لا يشتمل أحدكم اشتمال اليهود ليتوشح ومن كان له ثوبان فليأتزر وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم ليصل). ولأن الستر للعورة واجب متفق على وجوبه متأكد وستر المنكبين فيه من الخلاف والتخفيف ما فيه فلا يجوز تقديمه. وقد روي عن أحمد، في الرجل يكون عليه الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده؛ يرى أن يتزر به ويصلي؟ قال: لا أرى ذلك مجزئاً عنه، وإن كان الثوب لطيفاً صلى قاعداً، وعقد من ورائه. وظاهر هذا أنه قدم ستر المنكبين على القيام وستر ما عدا الفرجين، ولأنه ذهب إلى أن الحديث في ستر المنكبين أصح منه في ستر الفرجين، وأن القيام له بدل وستر المنكبين لا بدل له.
والصحيح ما ذكرناه أولاً؛ لما قدمناه من تأكد ستر العورة والقيام، وما روينا من الحديث وهو صريح في هذه المسألة، وفيه قصة رواها أبو داود، عن جابر قال: (سرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي، وكانت لها ذباذب فنكستها ثم خالف بين طرفيها، ثم تواقصت عليها حتى لا تسقط ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء جبار بن صخر، حتى قام عن يساره فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به فأشار إلي أن اتزر بها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا جابر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك).
قال ابن رجب: (وأما الصلاة في ثوب واحد ملتحفاً به، ففيه عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج البخاري بعضها، وستأتي في موضعها – إن شاء الله.
وأما حديث سلمة بن الأكوع الذي علقه البخاري، وقال: في إسناده نظر؛ فهو من رواية موسى بن إبراهيم، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: "نعم، زره ولو بشوكة". خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه.
واستدل به طائفة من فقهاء أهل الحديث على كراهة الصلاة في قميص محلول الإزار، منهم: إسحاق بن راهويه، وسليمان بن داود الهاشمي، والجوزجاني وغيرهم.
وقال الإمام أحمد فيمن صلى في قميص ليس عليه غيره: يزره ويشده. وقال أيضاً: ينبغي أن يزره. باب وجوب الصلاة في الثياب.
وقال: (... قال حنبل: قيل لأبي عبد الله يعن: أحمد: الرجل يكون عليه الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده، ترى أن يتزر به ويصلي؟ قال: لا أرى ذلك مجزئاً عنه، وإن كان الثوب لطيفاً صلى قاعداً وعقده من ورائه، على ما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد.
وهذه رواية مشكلة جداً، ولم يروها عه أحمد غير حنبل، وهو ثقة إلا أنه يهم أحياناً، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد: هل تثبت به رواية عنه أم لا؟
ولكن اعتمد الأصحاب على هذه الرواية، ثم اختلفوا في معناها: فقال القاضي أبو يعلى ومن اتبعه: من وجد ما يستر به منكبيه أو عورته ولا يكفي إلا أحدهما فإنه يستر عورته، ويصلي جالساً؛ لأن الجلوس بدل عن القيام، ويحصل به ستر العورة، فيستر بالثوب اللطيف منكبيه حيث لم يكن له بدل.
وقال طائفة من أصحابنا: إذا كان الثوب يستر منكبيه وعجيزته سترهما، وصلى قاعداً لحصول ستر المنكبين وستر العورة، فإن لم يحوهما اتزر به، وصلى قائماً.
وهؤلاء منهم: من اعتبر ستر عجزه خاصة، فيكون قبله مستتراً بالجلوس. وهذا إنما يصح على قولنا: إن العورة الفرجان خاصة، فأما على المذهب المشهور: أن العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل كشف معظم العورة، وستر ذلك آكد من ستر المنكبين.
ومنهم: من اعتبر ستر جميع عورته مع المنكبين، فأسقط القيام لذلك، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، وهو أقرب.
وقياس المذهب: أنه لا يلزمه ذلك في هذه الحال، بل يخير بينه وبين ستر عورته وحدها وصلاته قائماً، كما يخير العاري بين أن يصلي قاعداً مراعاة لستر بعض عورته بالجلوس وبين أن يصلي قائماً مراعاة لركن القيام.
ولأصحابنا وجه آخر: أنه يلزمه أن يستر عورته ويصلي قائماً كقول جمهور العلماء، ورجحه صاحب (المغني)؛ لأن القيام وستر العورة واجبان بالإجماع، بخلاف ستر المنكبين. وعليه يدل: حديث جابر المخرج في هذا الباب، وحديث سهل بن سعد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإليه أشار أحمد في رواية حنبل بقوله: (وعقده من ورائه على ما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، لكن حديث سهل ليس فيه أنهم كانوا يصلون جلوساً.
وقول الأثرم وإسحاق بن راهويه: أنه يفرق في ستر المنكبين بين القادر والعاجز، فيجب مع القدرة ويسقط عند العجز أشبه الأقاويل في المسألة، وعليه يدل تبويب البخاري. والله أعلم) شرح البخاري لابن رجب. باب إذا كان الثوب ضيقاً.

وما الذي يقدم ستره من العورة المغلظة؟
إن كفى الساتر سوأتيه أو الفرجين تعين لهما، فيقدم ستر العورة المغلظة على غيرها، وهي القبل والدبر، فإن لم يجد إلا ما يستر جهة واحدة من العورة المغلظة، قدم ستر القبل، وقيل العكس، وقيل يتخير.
قال البهوتي في الروض المربع: (ومن وجد كفاية عورته سترها وجوباً وترك غيرها لأن سترها واجب في غير الصلاة ففيها أولى وإلا يجد ما يسترها كلها بل بعضها فليستر الفرجين لأنهما أفحش فإن لم يكفهما وكفى أحدهما فالدبر أولى لأنه ينفرج في الركوع والسجود إلا إذا كفت منكبيه وعجزه فقط فيسترهما ويصلي جالساً).
وقال ابن قدامة: (فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين لأنهما أفحش وسترهما آكد، وهما من العورة بغير خلاف. فإن كان لا يكفي إلا أحدهما ستر أيهما شاء، واختلف في أولاهما بالستر، فقيل: الدبر لأنه أفحش لا سيما في الركوع والسجود. وقيل: القبل لأنه مستقبل به القبلة وليس له ما يستره، والدبر مستور بالأليتين).
2 – لا يجد ما يستر به عورته كلها:
من لم يجد ساتراً لعورته يصلي عرياناً؛ لأن ستر العورة مطلوب عند القدرة، ويسقط بالعجز، قال ابن قدامة في المغني: (ليس على من صلى في هذه الحال إعادة؛ لأنه شرط من شرائط الصلاة عجز عنه فسقط، كما لو عجز عن استقبال القبلة فصلى إلى غيرها)، وقال ابن القيم: (... فإن قيل فهل في الحديث حجة لمن قال إن عادم الطهورين لا يصلي حتى يقدر على أحدهما لأن صلاته غير مفتتحة بمفتاحها فلا تقبل منه؟ قيل: قد استدل به من يرى ذلك. ولا حجة فيه.
ولا بد من تمهيد قاعدة يتبين بها الحديث:
وهي أن ما أوجبه الله تعالى ورسوله أو جعله شرطاً للعبادة أو ركناً فيها أو وقف صحتها عليه هو مقيد بحال القدرة؛ لأنها الحال التي يؤمر فيها به.
وأما في حال العجز فغير مقدور ولا مأمور فلا تتوقف صحة العبادة عليه.
وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة وسقوط ذلك بالعجز، وكاشتراط ستر العورة واستقبال القبلة عند القدرة ويسقط بالعجز، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" ولو تعذر عليهما صلت بدونه وصحت صلاتهما.
وكذلك قوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فإنه لو تعذر عليه الوضوء صلى بدونه وكانت صلاته مقبولة. وكذلك قوله: (ولا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)، فإنه لو كسر صلبه وتعذر عليه إقامته أجزأته صلاته. ونظائره كثيرة...)، انظر: تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم كتاب الطهارة. 31- باب فرض الوضوء.
وهل يجب على فاقد الستر من الثياب أن يستر عورته بطين ونحوه:
يجب عليه أن يصلي عند الشافعية والحنفية ولو بطين يتطين به يبقى إلى تمام صلاته، أو بماء كدر غير صاف، وتكفيه الظلمة للاضطرار عند الحنفية والمالكية، وباليد عند الشافعية في الأصح، وعند الحنابلة لحصول المقصود، قال الحنابلة: ومن كان في ماء وطين ولم يمكنه السجود على الأرض إلا بالتلوث بالطين والبلل بالماء صلى على دابته، يومئ بالركوع والسجود.
قال ابن قدامة: (وإذا وجد العريان جلداً طاهراً أو ورقاً يمكنه خصفه عليه، أو حشيشاً يمكنه أن يربطه عليه فيستر به لزمه ذلك؛ لأنه قادر على ستر عورته بطاهر لا يضره فلزمه كما لو قدر على سترها بثوب وقد (ستر النبي صلى الله عليه وسلم رجلي مصعب بن عمير بالإذخر) لمّا لم يجد سترة.
فإن وجد طيناً يطلي به جسده؛ فظاهر كلام أحمد أنه لا يلزمه ذلك، وذلك لأنه يجف ويتناثر عند الركوع والسجود، ولأن فيه مشقة شديدة ولم تجر به العادة.
واختار ابن عقيل أنه يلزمه لأنه يستر جسده وما تناثر سقط حكمه، ويستتر بما بقي منه. وهو قول بعض الشافعية والأولى أنه لا يلزمه ذلك لأن عليه فيه مشقة ويلحقه به ضرر، ولا يحصل له كمال الستر. فإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وإن كان كدراً، لأن للماء سكاناً، ولا يتمكن فيه من السجود.
وكذلك لو وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأنها لا تلصق بجلده، فهي كالجدار.
وإن وجد سترة تضر بجسمه كبارية القصب ونحوها مما يدخل في جسمه لم يلزمه الاستتار بها، لما فيه من الضرر والمنع من إكمال الركوع والسجود).

صلاة فاقد الستر:
كيف يصلي عادم الستر؟
يصلي قاعداً يومئ إيماء عند الحنابلة، عملاً بفعل ابن عمر. ويصلي قائماً عند الشافعية متمماً الأركان، ولا إعادة عليه على المذهب عندهم. ويصلي قاعداً يومئ بالركوع والسجود عند الحنفية كالحنابلة، وهو أفضل من الصلاة قائماً بإيماء أو بركوع وسجود؛ لأن الستر أهم من أداء الأركان.
قال ابن قدامة في المغني: (قال: ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالساً يومئ إيماء وجملة ذلك، أن العادم للسترة الأولى له أن يصلي قاعداً وروي ذلك عن ابن عمر وقال به عطاء وعكرمة وقتادة، والأوزاعي وأصحاب الرأي ويومئ بالركوع والسجود وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال مجاهد ومالك، والشافعي وابن المنذر يصلي قائماً بركوع وسجود لقوله عليه السلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً) رواه البخاري. ولأنه مستطيع للقيام من غير ضرر، فلم يجز تركه له كالقادر على الستر.
ولنا؛ ما روى الخلال بإسناده عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم، فخرجوا عراة قال: يصلون جلوساً يومئون إيماء برؤوسهم. ولم ينقل خلافه، ولأن الستر آكد من القيام بدليل أمرين: أحدهما أنه يسقط مع القدرة بحال والقيام يسقط في النافلة. والثاني: أن القيام يختص الصلاة، والستر يجب فيها وفي غيرها، فإذا لم يكن بد من ترك أحدهما فترك أخفهما أولى من ترك آكدهما، ولأنه إذا استتر أتى ببدل عن القيام والركوع والسجود، والستر لا بدل له، والحديث محمول على حال لا تتضمن ترك السترة.
فإن قيل: فالستر لا يحصل كله وإنما يحصل بعضه فلا يفي بترك القيام. قلنا: إذا قلنا العورة الفرجان فقد حصل الستر، وإن قلنا: العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل ستر آكدهما وجوباً في الستر، وأفحشها في النظر فكان ستره أولى.
وإن صلى العريان قائماً وركع وسجد صحت صلاته أيضاً في ظاهر كلام أحمد – رحمه الله، وهو قول أصحاب الرأي. وقال ابن جريج: يتخيرون بين الصلاة قياماً وقعوداً. وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله، ما يدل على أنهم يصلون قياماً وقعوداً، فإنه قد قال في العراة: يقوم إمامهم في وسطهم. وروى عنه الأثرم: إن توارى بعضهم ببعض فصلوا قياماً فهذا لا بأس به قيل له: فيومئون أو يسجدون؟ قال: سبحان الله، السجود لا بد منه. فهذا يدل على أنه لا يومئ بالسجود في حال، وأن الأفضل في الخلوة القيام. إلا أن الخلال قال: هذا توهم من الأثرم. قال: ومعنى قول أحمد: يقوم وسطهم أي يكون وسطهم، لم يرد به حقيقة القيام.
وعلى كل حال؛ فينبغي لمن صلى عرياناً أن يضم بعضه إلى بعض ويستر ما أمكن ستره، قيل لأبي عبد الله: يتربعون أو يتضامون؟ قال: لا بل يتضامون. وإذا قلنا: يسجدون بالأرض فإنهم يتضامون أيضاً. وعن أحمد: أنه يتربع موضع القيام والأولى أولى).
صلاة العاري منفرداً:
قال البهوتي في الروض المربع: (ويركع ويسجد إن كانت النجاسة يابسة ويومئ برطبة غاية ما يمكنه ويجلس على قدميه ويصلي عرياناً مع ثوب مغصوب لم يجد غيره وفي حرير ونحوه لعدم غيره)، وقال: (ويصلي العاري العاجز عن تحصيلها قاعداً ولا يتربع بل يتضام بالإيماء استحباباً فيهما، أي في العقود والإيماء بالركوع والسجود، فلو صلى قائماً وركع وسجد جاز).

صلاة العراة جماعة:
حكم صلاة العراة جماعة، وكيفية صلاة العراة جماعة من رجال فقط أو نساء فقط أو رجال ونساء:
(لا تجب على النساء... ولا على العراة بل هي والانفراد في حقهم سواء إلا أن يكونوا عمياً أو في ظلمة فتستحب لهم)، انظر: مغني المحتاج في كتاب صلاة الجماعة، الباب الأول.
قال البهوتي في الروض المربع: (ويكون إمامهم أي إمام العراة وسطهم أي بينهم وجوباً ما لم يكونوا عمياً أو في ظلمة).
قال البهوتي في الروض المربع:: (ويصلي كل نوع من رجال ونساء وحده لأنفسهم إن اتسع محلهم، فإن شق ذلك صلى الرجال واستدبرتهم النساء، ثم عكسوا فصلى النساء واستبدرهن الرجال).
وقال ابن قدامة: (قال: فإن صلى جماعة عراة كان الإمام معهم في الصف وسطاً يومئون إيماء ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم. وجملة ذلك أن الجماعة مشروعة للعراة، وبه قال قتادة: وقال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي: يصلون فرادى، قال مالك: ويتباعد بعضهم من بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم.
وقال الشافعي في القديم كقولهم. وقال في موضع آخر: الجماعة والانفراد سواء لأن في الجماعة الإخلال بسنة الموقف، وفي الانفراد الإخلال بفضيلة الجماعة فيستويان.
ووافقنا [أي مذهب الشافعي] في أن إمامهم يقوم وسطهم على مشروعية الجماعة للنساء العراة لأن موقف إمامتهن في وسطهن فما حصل في حقهن إخلال بفضيلة الموقف. ووافقنا في الرجال إذا كان معهم مكتس يصلح أن يؤمهم.
ولنا؛ أنه يمكنهم الجماعة من غير ضرر فلزمهم كالمستترين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة) عام في كل مصل، ولا تقسط الجماعة لتعذر سببها في الموقف كما لو كانوا في مكان ضيق لا يمكن أن يتقدمهم إمامهم، وإذا شرعت الجماعة لعراة النساء مع أن الستر في حقهن آكد، والجماعة في حقهن أخف؛ فللرجال أولى وأحرى. وغض البصر يحصل بكونهم صفاً واحداً، يستر بعضهم بعضاً.
إذا ثبت هذا؛ فإنهم يصلون صفاً واحداً، ويكون إمامهم في وسطهم، ليكون أستر له وأغض لأبصارهم عنه، وكذلك سن لإمامة النساء القيام وسطهن في كل حال لأنهن عورات، فإن كان مع الرجال نساء عراة تنحين عنهم لئلا يرى بعضهم بعضاً، ويصلين جماعة أيضاً كالرجال إلا أن الجماعة في حقهن أدنى منها في حق الرجال كما لو كانوا غير عراة.
فإن كان الجميع في مجلس، أو في مكان ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال لئلا يرى بعضهم عورات بعض. فإن كان الرجال لا يسعهم صف واحد والنساء، وقفوا صفوفاً وغضوا أبصارهم عمن بين أيديهم لأنه موضع ضرورة.
مسألة:
قال: وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله، رواية أخرى أنهم يسجدون بالأرض. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في العراة إذا صلوا قعوداً فروى عنه أنهم يومئون بالركوع والسجود لأن القيام سقط عنهم لحفظ عوراتهم، فيسقط السجود لأن ظهورها بالسجود أكثر وأفحش فوجب أن يسقط.
وروي أنهم يسجدون بالأرض لأن السجود آكد من القيام لكونه مقصوداً في نفسه ولا يسقط فيما يسقط فيه القيام، وهو صلاة النافلة فلهذا لم يسقط. وقد اختلف عن أحمد في القيام أيضاً فروي عنه أن العراة يصلون قياماً، فإنه قال في العراة: يقوم إمامهم في وسطهم وروى عنه الأثرم أنه قال: إن توارى بعضهم ببعض فصلوا قياماً فهذا لا بأس به قيل: فيومئون أم يسجدون؟ قال: سبحان الله لا بد منه. فهذا يدل على أن السجود لا يسقط، وأن الأفضل القيام في الخلوة. إلا أن الخلال قال: هذا توهم من الأثرم. ومعنى قوله: يقوم في وسطهم كقوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) (آل عمران: من الآية75) لم يرد به القيام على رجل).
فإذا كان مع العراة ثوب واحد:
قال في المغني: (فإن كان مع العراة واحد له ثوب، لزمته الصلاة فيه لأنه قادر على السترة فإن أعاره وصلى عرياناً لم تصح صلاته لتركه الواجب عليه. ويستحب أن يعيره بعد صلاته فيه لغيره، ليصلي فيه لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2) ولا يجب عليه ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد من به ضرورة، لزم إعطاؤه إياه؛ لأنها حال ضرورة، فإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد ولم تجز لهم الصلاة عراة لأنهم قادرون على الستر، إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلي فيه واحد والباقون عراة...
فإن امتنع صاحب الثوب من إعارتهم، أو ضاق الوقت عن أكثر من صلاة، فالمستحب أن يؤمهم صاحب الثوب ويقف بين أيديهم، فإن كان أمياً وهم قراء، صلى الباقون جماعة على ما أسلفنا.
قال القاضي: يصلي هو منفرداً، وإذا أراد صاحب الثوب إعارة ثوبه ومعهم نساء، استحب أن يبدأ بهن لأنهن آكد في الستر. وإذا صلين فيه أخذه فإذا تضايق الوقت وفيهم قارئ فالمستحب أن يبدأ به ليكون إمامهم، وإن أعاده لغير القارئ صار حكمه كحكم صاحب الثوب، فإن استووا، ولم يكن الثوب لواحد منهم؛ أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة فهو أحق، وإن لم يستووا فالأولى به من تستحب البداية بإعارته، على ما ذكرنا).
وصلى اللهم على نبينا محمد وآله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.