الاستعلاء على الحق لسبق الضعفاء (1-2)
23 شعبان 1427

عد الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله- المسألة الخامسة والعشرين من مسائل الجاهلية: الاستدلال على بطلان الحق بسبق الضعفاء، كقوله _تعالى_ خبراً عن بعض المشركين: "لو كان خيراً ما سبقونا إليه"(1) وعد قبلها: ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء تكبراً وأنفة، وأقف مع المسألتين وقفات مقتضبة؛ فهما قريبتان وحاصلها أن أهل الباطل والهوى: يستدلون على بطلان الحق بأن الذين اتبعوه هم الضعفاء.. فالحق عندهم ما قاله الملأ، والصواب ما ذهب إليه الأكابر، والخطأ المرذول والرأي المأفون ما اختارته الضعفاء، وهكذا سذاجة في الفكر دون تفكر ونظر في الدليل والتعليل.
وهؤلاء السذج تراهم يطلون بمنطقهم هذا في كل عصر ومصر، قديماً في النوادي والأسواق، واليوم على الصحف وسائل الإعلام العصرية، يبعثون ذلك الصوت الجاهلي في محاولة لقلب الحقائق.
ونقول لهؤلاء أولاً: إن سنة الله _عز وجل_ أن الضعفاء هم الذين يتبعون الحق، كما في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان: "أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟" قال: "بل ضعفاؤهم" قال: "كذلك أتباع الأنبياء".
عادة أتباع الأنبياء هم الضعفاء، وأما الملأ ومن في حكمهم؛ فهؤلاء يستكبرون ويعرضون عن دين الله - سبحانه وتعالى- وهناك أسباب وعوامل خفية وراء ذلك، منها: أن الضعيف يشعر بالفقر، يشعر بالظلم، يشعر بمعاني الاضطهاد، يشعر بالمعاناة فعلاً، فحين يأتي هذا الدين فإن مجرد انتمائه لهذا الدين يعطيه عزة، فهو يشعر بأنه أصبح متصلاً بالله العزيز - سبحانه وتعالى- يتصل بأعلى قوة تجاوز كل ما يعتز به أولئك، فمجرد الانتماء يكفيه في حد ذاته، يعطيه شعوراً بالعزة والأنفة والرفعة في هذه الدار.
وأيضاً الدين يحفظ له حقه، ويحفظ له مكانته، الدين إنما جاء لنصرة الضعيف والمظلوم، وإعادة حقه إليه، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - أسوة في ذلك، وكذا كان خلفاؤه من بعده يقول قائلهم: القوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي حتى آخذ الحق له.
أما الأشراف والملأ فعلى العكس تماماً، كثير منهم يأخذون مكانة وشرفاً ليسا لهم بالتسلط والدعوى،وعندما يطالب بأن يدين لله -سبحانه وتعالى- فيرضى بما قسم ويعبد ربه في خضوع وذل؛ يأنف ويتكبر عن متابعة هذا الدين.
وإضافة إلى أنه على عكس الأول فكما أن ذاك قد سلبت منه حقوق سيعيدها إليه انتماؤه لهذا الدين؛ فكذلك هذا المرء تسلط على حقوق غيره وظلم بدءًا بحق التشريع والأمر والنهي الذي يدعيه هو من دون الله -سبحانه وتعالى- إضافة إلى سائر الحقوق التي يظلم الناس فيها، ويأخذها وليست له، فعندما يأخذ هذه الحقوق يرى أنه إن أسلم لله - سبحانه وتعالى- واتبع هذا الدين؛ فإن هذا يعني: أن تضيع هذه المغتصبات التي يسميها مكتسبات حققها؛ ولهذا فإنه يأنف ويتكبر عن اتباع هذا الدين، وهو منطق قديم.. "كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(2) (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ"(3).


___________


1. سورة الأحقاف آية: 11
2. سورة الشعراء آية: 105-111
3. سورة هود آية: 27