تأملات في مشهد من سورة يوسف (3)
6 شوال 1427

الحمد لله وبعد فلا زالت الفوائد تقتبس من قول الله –تعالى-: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"..

بعد أن جاء البشير، وبان الأمر، وظهر صدق من صدق بالغيب لم يملك الأبناء والأحفاد إلاّ أن "قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" [يوسف:97]، وجمع لفظ (ذُنُوبَنَا) مقصود فليس الذنب ذنباً واحداً، ومن تأمل مطلع السورة بدت له سلسلة ذنوب وجرائم، وقولهم: (اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي سل الله أن يعفو ويتستر جرائمنا، وكأن حذف المفعول لقصد تأكيد طلب المغفرة من كل من له حق، فهي مبالغة في سؤاله طلب المغفرة من الله، ثم ممن له حق ولايسعه رد شفاعة يعقوب كأم يوسف وأخيه، وكأخويهم، وقد شفعوا هذا الطلب بالإقرار المُؤكَّدِ بإنّ، المحققِ لحصول التوبة من ذنب سلف في الماضي فقالوا: "إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ"، أتينا الخطأ عن عمد فصح إنزال وصف الخطأ علينا، والإقرار بالذنب على وجه الخضوع ضرب من الاستغفار، كما في قول العبد الصالح: (إني كنت من الظالمين) فهذا يتضمن طلب المغفرة.

فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر؛ إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين كقول نوح _عليه السلام_: "رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين"، فهذه ليست صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، وهنا هؤلاء أقروا واعترفوا بأنهم كانوا خاطئين، والاعتراف بالذنب في الدنيا دأب الأوابين، وسبيل الصالحين، قال الله _تعالى_: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

وهنا لك أن تقارن بين قولهم أول القصة: "يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ" [يوسف: من الآية9]، وبين مقامهم هذا المقام الذي تقرع فيه سن الندم، وتسكب في مثله عبرات التوبة، ويعض على النواجذ من الأسف، "قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" [يوسف: من الآية97]، إنه موقف من أصعب المواقف، فما أشد لحظات الخضوع والاعتراف وما أقساها، فإياك إياك وما يعتذر منه!

_____________
(1) قال بعضهم ماتت أمه وبقيت خالته وفي هذا بحث يأتي أثناء السورة.