لما مات النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان لوقع وفاته عند الصحابة أثر عظيم، تبين من مواقفهم _رضي الله عنهم_، فهذا الفاروق _رضي الله عنه_ الذي يفر منه الشيطان والذي يتنزل القرآن بموافقته، يقف بالسيف على رؤوس الصحابة صائحاً: من قال أن محمداً _صلى الله عليه وسلم_ قد مات ضربت عنقه بهذا السيف..، وهكذا بقية الصحابة _رضي الله عنهم_ كان حالهم بين باك ومكذب، حتى جاء الصديق _رضي الله عنه_ فجلا لهم الحقيقة وبيَّن لهم الصواب، وأوضح لهم الدرب.
لكن ليس هذا موضع الكلام أو محل النقاش، بل موضوعنا هو حدث قريب من هذا الحدث في مكان مجاور لمسجده _صلى الله عليه وسلم_ ألا وهو سقيفة بني ساعدة التي اجتمع فيها الصحابة ليحددوا ملامح المرحلة القادمة، ولقد أسفر اجتماعهم رضي الله عنهم عن تولي أبوبكر _رضي الله عنه_ للخلافة ولكن لنا مع تلك السقيفة وقفات أهمها ما يلي:
1- لقد كشفت حادثة السقيفة عظم قدر أبي بكر _رضي الله عنه_ عند الصحابة _رضي الله عنهم_، واجتماع رأيهم على أنه هو الذي يصلح للقيادة العظمي والزعامة الكبرى، فهو رضي الله عنه لم يستغرقه حدث وفاته _صلى الله عليه وسلم_، فلم يغرق في الحزن كما فعل الصحابة، بل تعامل معه بالقدر المطلوب شرعاً مع عظم محبته رضي الله عنه للرسول الكريم _صلى الله عليه وسلم_، لم يستغرقه حدث الوفاة عن حدث أعظم وهو الذهول الذي أصاب الصحابة رضي الله عنهم وفقدانهم لتوازنهم الذي لو لم يتعامل معه الصديق رضي الله عنه سريعاً بتذكيرهم ببشريته _صلى الله عليه وسلم_ وأن أحكام الله عز وجل وسننه تجري عليه كما تجري على غيره من البشر ومن ذلك سنة الوفاة "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ"، لو لم يفعل ذلك لخشي من أن يحدث لهم كما حدث لمرتدة العرب ممن لم يكن داخل المدينة ولم يتهيأ له ناصحاً كالصديق رضي الله عنه، فهل كشفت الأحداث لدعاتنا وعلمائنا عن قيادات جديدة تصلح لتسنم المسؤولية كما كشفت حادثة الوفاة والسقيفة عن قيادة الصديق رضي الله عنه.
2- كشفت السقيفة عن مدى التغير الواضح في تفكير العرب قبل الإسلام وبعده، فقد جاء هذا الدين فبدل أسلوب تفكيرهم من التفكير في النفس والقبيلة وتغليب المصلحة الذاتية والآنية إلى التفكير في المصلحة العامة وهم الأمة والدين.
ولقد أضحوا أكثر اتزاناً وأشد انضباطاً، فعلى الرغم من كل ما أصاب الصحابة رضي الله من الهم والغم لوفاته _صلى الله عليه وسلم_ إلا أنهم اجتمعوا سريعاً في سقيفة بني ساعدة لترتيب الأمر واختيار الخليفة الذي سيقود دفة السفينة.
لقد انغرس في قلوبهم وتشربت أنفسهم قوله تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً" (آل عمران: من الآية103) آل عمران لقد علموا رضي الله عنه أنهم لو انتظروا حتى يُنتهى من تجهيز جنازته _صلى الله عليه وسلم_ لاستغل أعداء هذا الدين المتربصين به في المدينة وحوله الوضع لبث الفتنة حول منصب الخلافة والزعامة ونشرها بين الناس وقد قال تعالى: "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ" (التوبة: من الآية47).
3- الذين اجتمعوا في السقيفة لم يكونوا من عامة الصحابة من المهاجرين والأنصار بل كانوا من سادة القوم وعلمائهم وأهل رأيهم ومشورتهم، الذين يعرفون المصلحة من المفسدة ويعرف بعضهم لبعض فضله وقدره ومكانته وسابقته في الإسلام. وكان لاجتماع هذه النوعية والنخبة من الصحابة أثرها في سرعة الاجتماع وسرعة الاتفاق واجتماع الرأي ووحدة الكلمة ووحدة الصف.
ولو كان في جمعهم من العامة ومن لا علم له لتشتت أمرهم وفسد رأيهم واختلفت قلوبهم - هذا وهم في الزمان الفاضل والقرن المفضل -، ونحن في هذا الزمان زمان الفتن بحاجة ماسة أن ترجع الأمة لسادتها وقادتها من العلماء الربانيين والدعاة المخلصين،وأن لا توسد الأمر لغير أهله.نحن بحاجة ماسة ألا تتخذ قرارات الأمة المصيرية خارج السقيفة الصحيحة، سقيفة كسقيفة بني ساعدة، حتى وأن كثر في زماننا البرلمانات والمجالس، فالأهم أن تكون تركيبة تلك المجالس والبرلمانات كتركيبة سقيفة بني ساعدة.
4- الذين حضروا للسقيفة كان همهم الأول هو اختيار القائد، واجتماع الكلمة ووحدة الصف،لم يكن همهم توزيع المناصب والمراتب، لذا لما اختير القائد والخليفة ترك له حرية التصرف في اختيار المعاونين له وقادة الجيوش وأمراء الأقاليم وكان عنده منتهى الحرية في ذلك، هو أكبر دليل على تجردهم رضي الله عنهم جميعاً من حب الدنيا ومناصبها وإخلاصهم لله عز وجل، فقد كان همهم الأول حسم الأمر وقطع فتيل الفتنة.
ألم تلحظ أنه لم يتم اختيار أحداً سوى الصديق لمنصب الخليفة فقط؟! ألم يكن للأنصار أن يطالبوا بأن يكون الأمر لهم من بعد الصديق؟! فلماذا لم يفعلوا ذلك؟! والناس عندهم وفي مدينتهم؟ لكنه التجرد والإخلاص الذي يملأ قلوبهم رضي الله عنهم – مهاجرين وأنصار- رضي الله عنهم جميعاً وحشرنا في زمرتهم.
فهل لنا بتجرد وإخلاص كتجردهم وإخلاصهم في هذا الزمان؟ الله المسئول أن يصلح قلوبنا وأحوالنا إنه على كل شيء قدير.
5- روح المبادرة واضح في تصرف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلما اشتغل كبار الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وآل بيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ بأمر تجهيز غسله ودفنه، لم ينتظر الصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى يفرغ هؤلاء فهم يعلمون أنهم لو أخروا البت في أمر الخلافة لأفسح ذلك لأهل النفاق الوقت الكافي لبث الفرقة والفتنة في صف أهل الإيمان، ولوضوح هذا الهدف وسلامة المقصد لم نرى أبا بكر رضي الله عنه أو عمر أو حتى من أهل بيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ ينكر عليهم فعلهم هذا، لذا لما جاء الخبر لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما جاءا مشاركين لا معارضين.
إننا في وقت تعاني فيه الأمة عامة والصحوة خاصة من قلة روح المبادرة إن لم نقل موتها، فإن حدثت المبادرة من أحد كان قد عرض نفسه لنار الأصدقاء قبل الأعداء.
إن تشجيع روح المبادرة وتطويرها أمانة منوطة بعلماء الأمة ودعاتها وقادتها، وليُعلم أن ذلك لا يؤدي إلى الفوضى والانفلات بل إذا أحيط بشعيرة الاستشارة وهذب بعبادة الأخوة والتعاون على البر والتقوى أدى لنشؤ جيل يحترق لأجل سيادة أمته وريادتها، يثق بأن قادة الأمة وعلماءها لن يقفوا في طريق إبداعه وروح مبادرته ولن يقتلوها بدعاوى عدم الخبرة، والتهور وغيرها من المثبطات التي تقتل روح المبادرة لدى الشباب.
يا معاشر الدعاة كانت سقيفة بني ساعدة صورة للائتلاف والتشاور وجمع الكلمة وروح المبادرة لصالح الأمة، وكانت مدرسة بارزة في فرز القيادات واختيارهم، فيا أمة الإسلام هلم إلى سقيفتكم لننهل منها الدروس والعبر ونمشي في نورها ونتبع طريق أهلها الأول الذين كان لنا فيهم القدوة الحسنة والأسوة الصالحة، والله المسؤول أن يوفقنا لاتباع شرعه وسنة نبيه وأن يجمعنا بصحابة الرسول الكريم _صلى الله عليه وسلم_ ورضي الله عنهم في جنات النعيم، وأن يبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعته ويذل فيها أهل معصيته، وبالله التوفيق والله أعلى وأجل وأحكم وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم.