مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها (2)

المقالة الثانية :
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكام
(1)
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث مسائلها لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التَّغَيّر لبنائها على مناط متغيِّر يتغيَّر الحكم الشرعي لمسألته تبعاً لتغيِّر المناط .
وعليه ، فلا يدخل في مجالات إعمال السياسة الشرعية ما يُعرف بالثوابت في ذاتها ، التي منها ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العقدية ، كالإيمان بالله ووحدانيته والإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتصديقهم ، والإيمان بالكتب والملائكة ، والإيمان باليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشرِّه ، وتحريم الشرك ، وتحريم موالاة الكفَّار ؛ فهذه وأمثالها ثوابت في الدِّين لا يمكن أن تتغير ، وكذا " الأحكام الشرعية التي تتضمن قواعد هذا الدِّين وأسسه ، والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ، والأحكام التي تحث على الأخلاق والفضائل ، بل وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تُبن على العرف أو المصلحة أو التي لم تُناط بعلة أو التي لم تصحبها ضرورة ؛ فإنَّها ثابتة ولا يصح جعلها محلّ نظر وتغيير "
(2) .

و الجوانب العملية في الشرعيات ليست على إطلاقها ، بل هي من الأمور المتشعِّبة المتشابكة التي تتطلب استقراءً لمسائلها ليصدق ضبطها ضبطا دقيقا يقرِّب فقه السياسة الشرعية فيها لطالب العالم تقريباً يعينه في تطبيقها ؛ وإنما هذه خطوط عريضة في بيان مجالات السياسة الشرعية من حيث المسائل والأحكام ، مع شيءٍ من ضبط هذه المجالات ؛ فيُقال :
المسائل الفقهية من حيث دخولها تحت السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، وعدمه ، تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يختص به أولو الأمـر ، وليس داخلاً في تدبيرهم بالولاية .
ومجال هذا القسم : الأحكام التي أنيطت وربطت بأسبابٍ متى وُجِدَت وُجِدَت هذه الأحكام ، دون تعلق بالولاية ، فهذا القسم ليس مختصّاً بأولي الأمر ؛ إذ إنَّه يتبع سببه الشرعي (3) ، فمتى وُجِدَ السبب وُجِدَ الحكم ، كإقام الصلاة ، وإيتاء ما يجب في الأموال من زكاة . ويتجلَّى هذا الأصل في عامَّة المسائل التي توصف بالثوابت كالعبادات ، وأصول الأخلاق والآداب الشرعيَّة وما في معناها .
وهذا القسم ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، التي هي من تدبير أولي الأمر وتصرفاتهم المنوطة بالمصلحة الشرعية .
تنبيه :
لا يدخل في هذا القسم ما يتعلق بإطلاق ولي الأمر الشرعي ( قاضيا شرعيا أو مفتياً خبيرا ) وصفاً عقدياً يترتب عليه أحكام عملية للموصوف به في ذاته أو في علاقته بغيره أو علاقة غيره به ، فقد يوجد فيها جوانب عملية تتطلب حكماً شرعياً سياسياً ، ومنها ما يعرف اليوم بأسس التعايش السلمي في المجتمعات وكذلك ما يناقضه ، ولعله يتضح بالمثال في حينه إن شاء الله تعالى ، وإنما أشرت إليه هنا لأهمية استحضاره .

القسم الثاني : ما كان موكولاً إلى تدبيـر أولي الأمـر .
ويتجلَّى هذا القسم في المسائل التي تتوفر فيها الأسباب والأوصاف التالية ، أو بعضها (4) :

1) أن تكون هذه المسائل مما يحتاج إلى نظر وتحرير ، وبَذْل جُهدٍ من عالم بصير ، حَكمٍ عَدْلٍ ، في تحقيق أسبابها ، ومقدار مسبَّباتها ؛ كالتعزيرات ؛ فإنَّها تفتقر إلى تحرير في مقدار الجناية وحال المجني عليه ، حتى تقع المؤاخذةُ على وفق ذلك من غير حيف ؛ وهكذا جميع ما وُكِلَ تقديره إلى اجتهاد الأئمة والحكَّام ، ومن في حكمهم .
2) أن تكون مما يفضي تفويضه لجميع الناس إلى الفتن و الشحناء ، والقتل والقتال ، وفساد النفس والمال ؛ كإقامة الحدود ، فمع " أنَّها منضبطة في أنفسها ، لا تفتقر إلى تحرير مقاديرها ، غير أنَّها لو فُوِّضت لجميع الناس ، فبادر العامة لجلد الزناة ، وقطع العُداة بالسرقة وغيرها ، اشتدَّت الحَمِيَّات ، وثارت الأَنَفَات ، وغَضِبَ ذوو المُروءات ، فانتشرت الفِتَنُ ، وعَظُمت الإحَنُ ؛ فحسم الشرعُ هذه المادَّة وفَوَّض هذه الأُمورَ لولاةِ الأمور ، فأذعن الناس لهم ، وأجابوا طوعاً وكرهاً ، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة " (5) ، وجباية الجزية ، وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها (6) .


3) أن تكون مما قَوِيَ الخلاف فيه مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق ؛ أو تقاربت فيه المدارك ، وكان النِّزاع فيه في أمر دنيوي ؛ كالأملاك و الرهون والعقود وغيرها ؛ فهذا مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ الحَاكِم - و إنشاء حكم من هذا القبيل ليس لكل من ولي ولاية ؛ قال العلامة القرافي : " لا خلاف بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكلّ أحد ، بل إنَّما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وهو ولاية خاصَّة ، ليس كل الولاية تفيد ذلك " ؛ ثم سرد رتب الولايات وبيَّن أحكامها ، وأنَّ من رتب الولايات التي يدخل فيها هذا النوع من الأحكام : الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء - (7)؛ فإذا حكم فيها حُكماً مما يقبله ذلك المحلُّ تعين فيه ؛ فلم يُنقض ، ولزم الإذعان إليه (8)؛ لمصلحة الحكم ؛ " لأنَّ الأحكام لو نُقِضت بالاجتهاد لَمَا استقرَّ حكم ؛ لأنَّ القضاة لو نقضوا الحكم بالاجتهاد لأدَّى ذلك إلى أن ينقض كلُّ حاكم حكمَ من قبله ، ويفضي ذلك إلى تضرُّر المحكوم لـه ، والمحكوم عليه ؛ لأنَّه يُنْزَعُ الحق من أحدهما ، ويُعطى الآخر ، ثم يُنزع من الآخر و يُعطاه غريمه ، ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية لـه ، ولا يخفى ما فيه من الفساد " (9) ؛ سواء كان ذلك بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر ؛ كما يلزم من ذلك اضطراب الأحكام و عدم وثوق الناس بحكم الحاكم ؛ فتفوت المصلحة التي نُصب الحاكم لأجلها ، ولا تُفصل الخصومات (10) .

4) أن تكون مما يُشرع نقضه من تصرفات الولاة والحكَّام ، وهي المسائل التي صدرت عن حكم قضائيٍ مخالفٍ لما يوجِبُ نقضَه ، من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ (11)؛ أو التي لم تصدر عن حكم قضائيٍ ، ويسوغ لغيرهم من الولاة والحكام النظر فيها ونقضها أو تغييرها ؛ للمصلحة الشرعية ، لا لمجرد التشهي والغرض ، ومن أمثلة ذلك (12) :
- تولية النوَّاب في الأحكام ، و تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا وغير ذلك من الولايات .
- و الصرف من بيت المال وتقدير مقاديره في كل عطاء ، في الأرزاق للقضاة والعلماء وأئمة الصلاة ، وفي أجور موظفي الدولة عموماً .
- وتقدير الخراج على الأرضين ، و ما يؤخذ من التجار الأجانب غير المسلمين .
- واتخاذ الأحمية (13)، من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين .
- وعقد الصلح بين المسلمين والكفار .
فهذا كلُّه ؛ لمنْ تصرَّف به ولغيرِ مَنْ تَصَرف به أو قرَّره أو عقْده من الولاة أن يعيد النظر في السبب المقتضي لذلك هل يقتضيه فيبقيه ، أو لا فغيره أو ينقضه ويبطله . وهذا كله مقيد بقاعدة : (تصرف الولاة على الرعية منوط بالمصلحة ) ؛ " فإنَّ كـل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحلّ له أن يتصرف ، إلا بجلـب مصلحة أو درء مفسدة " (14). فهذه الأسباب تكاد تكون ضوابط ، لما هو موكولٌ إلى تدبير الحكام و ولاة الأمور ؛ بل ذكر القرافي أنَّ ما اشتمل على أحد الأسباب الثلاثة الأولى ، أو اثنين منها ، صار مفتقراً للحاكم إجماعاً ؛ فإذا لم يوجد شيءٌ منها تَبِعَ حُكْمُ المسألة سَبَبَهُ الشرعي كالقسم الأول ، حَكَمَ به حاكم أو لا (15) .

والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم – الذي وُكِل تنفيذه إلى أولي الأمر - أنواع ، يأتي بيانها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

-------------------------
(1) يحسن مراجعة حلقة مدلول السياسة الشرعية لاستحضار مدلولي السياسة الشرعية ، قبل الدخول في موضوع المجالات ليسهل على طالب العلم استجماع كلياته .
(2)ينظر : وسطية الإسلام وواقعيته ، للأستاذ الدكتور حسين الترتوري :47 وما بعدها ، مكتبة دنديس : الخليل .
(3)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي :158 ؛ و أنوار البروق في أنواء الفروق ( الفروق ) ، له أيضاً :4/48 .
(4)نصَّ على ضبط الأسباب والأوصاف الثلاثة الأولى وأفادها العلامة القرافي – رحمه الله – في جوابه على السؤال ( الثاني والثلاثون ) : ما ضابط ما يفتقر إلى حكم الحاكم ولا يكفي فيه وجود سببه الشرعي … ؛ فبيَّن أنَّ مُوجِب الافتقار إلى حكم الحاكم ثلاثة أسباب ، فبيَّنها بالأمثلة ، كعادته . ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 151-161 . وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 1/109 وما بعدها .
(5)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :153 .
(6)ينظر : المصدر السابق ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 41 .
(7)المصدر السابق ، للقرافي : 162 و ما بعدها .
(8)ينظر : المصدر السابق ، للقرافي : 157،80-81 ؛ والفروق ، له : 4/52 ؛ وإدرار الفـروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط : 4/52 ، وهي حاشية على " الفروق " مطبوعة معه ؛ و المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] : 4/511 ؛ و مختصر الفتاوى المصرية ، لأبي العباس ابن تيمية : 356 ؛ و فتاوى ابن الصلاح : 284- 289، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي ، دار الوعي : حلب ، ومطبعة الحضارة العربية : القاهرة .
(9)قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين ابن عبد السلام : 405 ، ط1-1413، تحقيق/ عبد الغني الدقر ، دار الطباع : دمشق . و ج2 ص 47 من طبعة دار القلم بتحقيق الشيخين : د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية ( وهي الطبعة الأكمل ، والله أعلم ) .
(10)ينظر : الإحكام في أصول الأحكام ، للآمدي :4/203 ، تعليق الشيخ / عبد الرزاق عفيفي ، المكتب الإسلامي : دمشق ، بيروت ؛ وجمع الجوامع ، لتاج الدين السبكي [مع شرح المحلي بحاشية البناني] : 2/391 ، دار الفكر : بيروت ؛ والمختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، لابن اللحام : 166 ؛ والمصادر السابقة .
وعدم نقض الاجتهاد المستوفي لشروطه إذا اتصل به حكم حاكم ، من القواعد المقررة لدى العلماء في الجملة ، وإن اختلفوا في طريقة تأصيله ؛ وقد حكى الاتفاق على هذه القاعدة عدد من أهل العلم ، منهم الآمدي ، وتاج الدين ابن السبكي ، وابن اللحَّام ، في المصادر السابق ذكرها هنا . وواقع كتب الفقه وشروحها تشهد لذلك ، وإن وقع خلاف في بعض التفريعات .
(11)ينظر : موجبات نقض الأحكام ، في المصادر السابقة .
(12)ينظر تعداداً لكثيرٍ من هذه المسائل : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :180-190 ؛ وتبصرة الحكام ، لابن فرحون : 102-109 ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 38-41 .
(13)الأحمية : جمع حمى ، وهو الحريم ؛ لأنَّه يُحْمَى ، أي : يُحفظ . ينظر : طلبة الطلبة ، للنسفي : 103. وصفته في الأصل : أن يحمي إنسان أرضاً من الموات ، يمنع النَّاس رعي ما فيها من الكلأ ؛ ليختص بها دونهم . وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق ، و جاءت الشريعة بضبط ذلك بضوابط ؛ فليس لأحد من الناس سوى أئمة المسلمين ، وليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئا ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصدقة ، وضوال الناس منها ، التي يقوم الإمام بحفظها لهم ، وماشية الضعيف من الناس ؛ على وجه لا يستضر به من سواه من الناس . وينظر : المغني مع الشرح الكبير : 6/185( ط دار الفكر) .
(14)الذخيرة ، للقرافي :10/43 ، والقاعدة معروفة مشهورة .
(15)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 158.