نستكمل في القسم الثاني من المادة ما بدأناه عن قواعد دخول العلماء على الأمراء، بعد أن استعرضنا مدخلاً فيها، وأوردنا قصة القاضي عمر بن حبيب في مجلس الرشيد. وبيّنا بعض النقاط الهامة في القضية، لنتابع تبيان النقاط المتبقية منها:
رابعاً:
من الأمور المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الحكام داخلون تحت ولاية العلماء، وذلك أن واجب الحكام أن يحكموا وفق الشريعة الإسلامية، والعلماء هم المرجع في بيان الشريعة الإسلامية وتوضيح أحكامها، فكان الحكام من هذه الناحية داخلون تحت سلطان ولاية العلماء وخاضعون لطاعتهم فيما يبينونه من الأحكام الشرعية.
ومن الأقوال المشهورة في بيان هذا عبارة أبي الأسود الدؤلي الذي قال: "ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك"(1)
ومن النقول التي توسعت في بيان هذه العلاقة بين العلماء والحكام ما قرره الأمام ابن القيم، بعد حكايته للقولين في تفسير أولي الأمر أنهم العلماء أو الأمراء، فقال:
"والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء)(2).
خامساً:
حين استعرضت أقوال ومواقف العلماء والمحتسبين حيال موضوع الدخول على الحكام والسلاطين وجدت أن مواقفهم متباينة وسبب هذا التباين في نظري راجع إلى أمور:
أ) اختلاف الفترة الزمنية أو الرقعة الجغرافية من بلد لآخر:
وفي ذلك أسهم مؤسس علم الاجتماع وعالم نقد التاريخ عبد الرحمن بن خلدون الذي حاول في مقدمته المشهورة أن يضع الأسس المهمة التي تساعد على تفهم الدول وتقلباتها وأسباب اضمحلالها، فقد نبه إلى ناحية مهمة وهي:
تبدل أحوال الناس وتطورهم من حالة إلى حالة في كثير من العادات والتقاليد أو طريقة التفكير وتناولهم للأمور، أي: يجب أن تفهم طبيعة العصر الذي عاش فيه فلان أو قامت فيه الدولة الفلانية، وأن لا تقيس عصر مضى – بعصرك الذي تعيش فيه – في كل شيء، فالبيئة العلمية التي تكون في عصر ما، هي التي تساعد على ظهور علماء مجتهدين، والذي يظن أنه يجب أن يكون بيننا الآن من أمثال هؤلاء العلماء دون أن يكون هناك بيئة علمية فهو واهم، وقس على ذلك البيئة الجهادية التي بدأها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين والتي كان من نتائجها صلاح الدين الأيوبي. ا.هـ بتصرف.
ب) اختلاف طبيعة الحاكم والبيئة المحيطة به:
إن لاختلاف طبيعة الحاكم ومدى التزامه بالشرع الأثر البالغ في تقريب أهل العلم وجعل ذلك دافعاً لمجالستهم ومناصحتهم.
فقد ترزق الأمة بحاكم كعمر بن عبد العزيز، يحكم بالعدل ويقرب العلماء ويحفظ الرعية ويحافظ على بيت مال المسلمين فقد ورد في سيرته أنه قال لعمرو بن مهاجر: "إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يديك في تلبابي، ثم هزني ثم قل: يا عمر ما تصنع".
وقد تبتلى الأمة بحاكم ك (محمد بن إسماعيل الخزرجي) المتوفى سنة 763 ه لما استولى على السلطة بالأندلس فكان لئيم الخلق، سيء السيرة، حتى أنه من عجائب ما يحكى عنه (أن امرأة رفعت إليه أن دارها سرقت، فقال: إن كان ذلك ليلاً بعد ما قفل باب الحمراء علي وعلى حاشيتي فهي والله كاذبة إذ لم يبق هناك سارق!!)(3).
يقول إبراهيم بن أدهم: (كل ملك لا يكون عادلاً فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقياً فهو الذئب سواء، وكل من ذل لغير الله فهو الكلب سواء).
فالحكام في أمّس الحاجة إلى من يذكرهم بالله، ويصارحهم بأخطائهم ويرشدهم إلى الخير. وهكذاكالان الخلفاء فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله.
وفي المقابل فإن الحاكم إذا اتسعت الجفوة بينه وبين العلماء الربانيين كان ذلك سبباً في شقائه بل وشقاء الأمة المسلمة التي يتولاها، وهذا بالفعل ما كان حاصلاً عند هجوم المغول على الدولة الخوارزمية حيث كان السلطان خوارزم شاه معرضاً عن نصح العلماء والتشاور معهم بل إن الأمر عنده تعدى ذلك إلى التضييق على العلماء ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية، ونفي البعض الآخر وتغريبه، فلما غزا المغول دولتهم أصبح المسلمون كالأيتام على موائد اللئام، فلما طغت شهوة الحكم وقدمت على مصلحة الأمة أفسدت كل محاولات العلماء، ولا أدل على ذلك ما قام به الإمام محيي الدين ابن الجوزي عندما أرسله الخليفة العباسي المستعصم بالله إلى السلطان جلال الدين منكبرتي بعد استباحته لإحدى مدن المسلمين، فلما دخل ابن الجوزي عليه وجد السلطان جلال الدين يبكي وبين يديه المصحف، محاولاً خداع ابن الجوزي, فصاح ابن الجوزي في وجهه وقال له: (تقرأ في المصحف وتبكي، وأنت تفعل بالمسلمين ما تفعل، لقد قتلت عشرين ألف مسلم، وسبيت نسائهم، وفعلت ما فعلت؟).
ج) اختلاف طرق وأساليب العلماء والمحتسبين من حيث الشدة واللين، والحزم والتساهل:
قال الشافعي – رحمه الله -: (أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف).
فمن علماء السلطان من لا يزيدوا السلطان الحاكم إلا خبالاً، ولا يهدوهم إلا سواء السبيل، فبدل أن ينفقوا أوقاتهم في إحياء الأمة من رقادها، أنفقوها في الكيد لقرين، أو التسابق في طريق الوشاية عند السلطان!!
ولهؤلاء يقول الفضيل بن عياض: (إذا رأيت العالم يتردد على أبواب السلاطين فاعلم أنه لص).
بل وصل الأمر عند بعضهم أن تجرأ بالكذب على رسول الله من أجل إرضاء الحاكم، كما فعل غياب بن إبراهيم النخعي إذ دخل على المهدي، وأمامه حمام يلعب به فقال له: "عن فلان عن فلان أن النبي قال: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح) فزاد أو جناح فأمر له المهدي ببدرة – أي صرة من المال –. فسود هذا الموقف قرطاس تراثنا الإسلامي!
وكان كذلك مقاتل بن سليمان البلخي، من كبار العلماء بالتفسير، يتقرب إلى الخلفاء بوضع الأحاديث المكذوبة التي تروقهم(4)
فالعقوبة الإلهية أحياناً قد لا تكون خسفاً ولا صيحة ولا طوفاناً – والعياذ بالله – بل تكون حرماناً من العلماء الربانيين الذين يقولون كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم.
ومن العلماء من لا يدخل على السلطان حتى يؤذن له في كاف الخطاب، وتاء المواجهة، ويتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض ويركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا انحياش، متلبس بكريم الخلق، تاركٌ لما كره الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فيه الرحمة بالمخالف والرفق في الأمر والنهي، أخذ بقوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ..." الآية (آل عمران: من الآية187).
سفيان الثوري: قاطع مجالس السلاطين واعتزلها، وتفرغ للحديث ولطلبته، وقابله أنموذج آخر من المحدثين هو محمد بن شهاب الزهري، فقد دخل على خلفاء بني أمية، ومع دخوله لم يعط الدنية لدينه فها هو يقف كالجبل أمام الخليفة هشام بن عبد الملك كما ذكر ذلك الذهبي في السير لما قال له: من الذي تولى كبره منهم؟ فقال: هو عبد الله بن أبي، قال: كذبت هو علي بن أبي طالب، فقال الزهري: أنا اكذب (لا أبا لك) فو الله لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي.
ومثله في الصدع بالحق، أحمد بن محمد الخراساني النوري صاحب الجنيد، كان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه، نزل يوماً فرأى زورقاً فيه ثلاثون دناً، فقال للملاح: ما هذا؟ قال: ما يلزمك؟ فألح عليه، فقال: أنت والله صوفي كثير الفضول، هذا خمر للمعتضد – الخليفة العباسي – قال: أعطني ذلك المدرى فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع، فأخذه ونزل فكسرها كلها، فأدخل على المعتضد فقال: من أنت ويلك؟ قال: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين! فأطرق، وقال: ما حملك على فعلك؟ قال: شفقة مني عليك! فتركه وأخلا سبيل(5).
فيا علماء ويا محتسبون: الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى مواقفكم، تلك المواقف التي تشبه مواقف الرعيل الأول حيث صارعت الباطل فصرعته.
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..." الآية (المائدة: من الآية67).
وصلى الله وسم على نبينا محمد.
_______________
(1) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي: 1 / 47.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين. 1 / 10.
(3) المختار المصون من أعلام القرون: 1 / 183.
(4) اختصار علوم الحديث. ص 72.
(5) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء: 2 / 1022.