اتهام الطبري _رحمه الله تعالى_ بالتشيع
21 صفر 1428

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فمن العجائب أن يتهم إمام من أئمة المسلمين الكبار، وشيخ المفسرين على الإطلاق ابن جرير الطبري _رحمه الله تعالى رحمة واسعة_ بالتشيع، فهذا مما يتعزى به العلماء والصالحون من بعده إذا ما اتهم أحدهم بأمر هو منه براءٌ.

وفي هذا المقال سأبيّن حقيقة هذا الاتهام وسببه وبطلانه وأقوال بعض العلماء في عقيدته. والله المستعان.

أولاً: حقيقة ما اتهم به:
ليس المراد باتهام الطبري- يرحمه الله- بالتشيع مجرد حب علي رضي الله عنه وشيعته ومعرفة فضل آل البيت،فهذا جزء من الدين , وهو من عقيدة أهل السنة والجماعة , ولكن المراد بالاتهام التشيع المرفوض والمذموم الذي يغالي في حب علي رضي الله عنه وآل البيت , ويتطرف في حبهم ويصل إلى الطعن في بقية الصحابة وازدراء مواقفهم وسبهم سراً وعلناً(1).

ثانياً: سبب الاتهام(2):
يرجع سبب الاتهام- والعلم عند الله- إلى عدة أمور وهي:
1- تصنيفه في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2- إثباته الأسانيد والروايات لحديث غدير خم.
3- مناظرته مع داود الظاهري الذي نتج عنها أن صنف ابن داود الظاهري واسمه محمد كتابا ًفي الرد على الطبري ورماه بالعظائم والرفض , كما ذكر ذلك عوام الحنابلة في بغداد.
4- اشتباه اسمه باسم أحد الروافض وهو محمد بن جرير بن رستم أبوجعفر الطبري.
5- إكثاره من الرواية عن لوط بن يحيى ويكنى بأبي مخنف وقد روى عنه خمسمائة وسبعاً وثمانين رواية , وهو إخباري تالف لا يوثق به كما قال عنه الذهبي وقد رمي بالرفض والكذب.

ثالثاً: بطلان هذه التهمة:
لاشك أن الإمام الطبري رحمه الله تعالى إمام من أئمة أهل السنة والجماعة فقد قال عنه الخطيب البغدادي:
(كان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله , ويرجع إلى رائه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم مالم يشاركه فيه أحد من أهل عصره)(3).

وقال مؤرخ الإسلام الحافظ أبو عبد الله الذهبي:
(الإمام الجليل المفسر أبوجعفر صاحب التصانيف الباهرة......من كبار أئمة الإسلام المعتمدين)(4).

وقال ابن كثير:
(....بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله)(5).

يتبين من خلال كلام هؤلاء العلماء الجبال أن الطبري رحمه الله من أئمة الإسلام المعتمدين ومن أهل السنة والجماعة وهو بعيد كل البعد عن هذه التهمة.

و أما عن الأمور التي نقمت وشغب بها عليه فيقال فيها ويجاب عنها بما يأتي:
أولاًً: تصنيفه في فضائل علي رضي الله عنه.
هذا ليس دليلاً على تشيعه وذلك أن أهل السنة والجماعة يقرون بفضله رضي الله عنه وإمامته وأنه رابع الخلفاء الراشدين وله من الفضائل والمناقب الشيء الكثير الذي لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب السنة.
ثم إنه رحمه الله صنف كتابا ًمن فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهذا مالا تصنفه الروافض.

ثانياً: تصحيحه لحديث غدير خم وجمعه للروايات والأسانيد فهي من ناحية حديثية بحتة, ولا يلزم من تصحيحه للحديث إن يكون شيعياً رافضياً.
قال ياقوت:
(كان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب خبر غدير خم، وقال: إن علي ابن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم بغدير خم.... وبلغ أبا جعفر ذلك، فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب؛ وذكر طرق حديث غديرخم)
قال ابن كثير: (رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غديرخم في مجلدين)(6).

ثالثاً: أما ما كتبه محمد بن داود الظاهري في الرد على ابن جرير الطبري فهو مجرد دعوه مفتقرة إلى الدليل, ثم إن كلام الأقران يطوى ولا يروى وينبغي أن يتأنى فيه وينظر ويتمهل سيما إذا لم يوافقه غيره فيه.

رابعاً: أن ابن جرير الطبري رحمه الله قد وفقه أحد علماء الرافضة باسمه واسم أبيه وكنيته ولقبه ومعاصرته وكثرة تصانيفه.
قال الذهبي رحمه الله:
(أقذع أحمد بن علي السليماني الحافظ , فقال:كان يضع للروافض , كذا قال السليماني, وهذا رجم بالظن الكاذب , بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين , وما ندعي عصمته من الخطأ , ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى , فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأنى فيه , لا سيما في مثل إمام كبير , فلعل السليماني أراد الآتي)(7). ويقصد بالآتي أبو جعفر محمد بن جرير ابن رستم الطبري قال الذهبي عنه: (رافضي له تواليف, منها كتاب الرواة عن أهل البيت رماه بالرفض عبدالعزيز الكتاني).

قال ابن حجر في لسان الميزان معلقا على كلام الذهبي:
(ولو حلفت أن السليماني ما أراد إلا الآتي لبررت , والسليماني حافظ متقن كان يدري ما يخرج من رأسه فلا أعتقد أن يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل)(8).
وقد كان ابن رستم هذا يقول بقول الشيعة في مسح الأرجل في الوضوء فنسب خطأً إلى صاحبنا الطبري.

خامساً: أما روايته عن ابن مخنف فقد بين رحمه الله في مقدمة تاريخه موقفه من رواية أبي مخنف وغيره.
فقال رحمه الله:
(وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمامه في كل ما أحضرت ذكره مما شرطت اني راسمه فيه، أنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى روايتها فيه..
إلى إن قال:
فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه , أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لا يعرف له وجهاً من الصحة , ولا معنىً من الحقيقة , فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا , وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا , وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا)(9)
ويضاف إلى هذا أن منهج عدداً من المحدثين الرواية عن بعض المهتمين والجاهيل والضعفاء لعرف حالهم وحال مروياتهم.

رابعاً: أقوال العلماء في عقيدتة:
(1) أبو القاسم اللالكائي:
قال رحمه الله:سياق ما روي من المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية بحفظها قرناً بعد قرن ثم ذكر رحمه الله عقيدة الثوري والأوزاعي وابن عينية وابن حنبل وابن المديني وأبي ثور والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والتستري وابن جرير الطبري.
ثم ذكر طرفاً من عقيدته التي رواها عنه اللالكائي بالإسناد الصحيح وبقيتها مطبوعة في صريح السنة.
(شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي،والتصبير في معالم الدين مقدمة المحقق 29).

(2) ابن تيمية:
أشار إلى عقيدة الطبري الشيخ ابن تيمية في قاعدة الاسم والمسمى من مجموع الفتاوى 6/187 فقال:(...كما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه "صريح السنة" ذكر مذهب أهل السنة في القران والرؤية،والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك.
وذكر أن مسألة اللفظ ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛كما قال لم نجد فيها كلاماً عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في كلامه الشفاء والغناء، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى أبو عبد الله أحمد بن حنبل فإنه كان يقول:اللفظية جهمية.ويقول:من قال لفظي بالقران مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.
وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التى لايعرف فيها قول لأحد من الأئمة....) ا.هـ

(3) الذهبي:
ذكره من ضمن السلف الذين يثبتون علو الله عز وجل واستواءه على العرش ونقول قول الطبري بالإسناد: (وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر)
ثم قال وتفسير ابن جرير مشحون بأقوال السلف على الإثبات.
(العلو للعلي الغفار للذهبي، ومختصر العلو للذهبي تحقيق الألباني)

(4) ابن القيم:
قال ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية: قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الإمام في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ واللغة والنحو والقران قال في كتاب صريح السنة ونقل كلامه وعده من جملة السلف الذي يرجع لأقوالهم في مسائل الاعتقاد. . (اجتماع الجيوش الإسلامية /194)
والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_____________
(1) كتاب الإمام الطبري شيخ المفسرين د.محمد الزحيلي(58).
(2) أنظر المصدر السابق (50)، وأراء الطبري الكلامية لطه محمد رمضان (19/27)، وتحقيق مواقف الصحابة من الفتنة في ضوء روايات الطبري والمحدثين (1/187201)، وحقبة من التاريخ لعثمان الخميس (18)، والإمام الطبري لعبد الله المصلح (39)
(3) تاريخ بغداد (2/163).
(4) ميزان الاعتدال (3/498).
(5) البداية والنهاية 11/145،146
(6) مقدمة تاريخ الأمم والملوك (65)
(7) ميزان الاعتدال (3/499)
(8) لسان الميزان (5/100)
(9) تاريخ الأمم والملوك (1/8).