العهود والمواثيق في المجتمع
29 صفر 1428

انطلاقًا من عناية الإسلام ببناء المجتمع المسلم الصالح، جاء الاهتمام بكل قضية تتعلق بالأسرة والمجتمع، وتوالت الآيات والأحاديث التي ترصد كل صغيرة وكبيرة في كيان الأمة الإسلامية في طور نشأتها الأولى، حتى قام صرح شامخ قوي البنيان متين الأركان، لا تهزه العواصف، ولا تفككه الرياح، تهابه الأعداء، وتحسب له ألف حساب، ومن تلك الوسائل التي كونت دعامة أساسية في بناء هذا المجتمع، تلك العناية الفائقة التي أولاها القرآن الكريم لهذه الأمة تربية وإعدادًا، ومن ذلك الآيات التي جاءت تعالج القضايا الاجتماعية، وتكون أسسها ومنطلقاتها، وفي هذا المجال جاء مصطلح العهد والميثاق لبنة قوية من تلك اللبنات المباركة.

ففي سورة البقرة يبين لنا الله سبحانه ما أخذه على بني إسرائيل من ميثاق يتضمن عددًا من القضايا الاجتماعية الأساسية؛ فالبر بالوالدين، وصلة الأرحام، والعطف على اليتامى، والإحسان إلى المساكين، والقول الحسن لجميع الناس، أمور يجب أن يتحلى بها الأفراد ويلتزم بها المجتمع، فهي من أهم عوامل انسجام تركيب بناء المجتمع: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84).

وهذه الآية جاءت مبينة أخذ الميثاق - أيضًا - في قضيتين اجتماعيتين هامتين: عدم جواز قتل الإنسان لأخيه مثلما أنه لا يحل له قتل نفسه، فالحكم واحد والنتيجة واحدة. والثانية أنه لا يجوز له أن يخرج أخاه من داره وبلده، أو أن يرتكب عملاً يؤدي إلى إخراجه هو من مسكنه وبلده.

بل يجعل الإخلال بهذا الميثاق كفر يستحق صاحبه أشدّ العذاب: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) (البقرة: من الآية85).

وقضية الزواج والطلاق قضية اجتماعية يؤخذ الميثاق الغليظ على جزئيه فيها مما يدل على خطورتها وأثرها: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء:20، 21).

وما حدث بين يعقوب وبين أبنائه مثال رائع على ما أتحدث عنه: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (يوسف:66)، (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) (يوسف: من الآية80) فالميثاق كان عاملاً حاسمًا في بداية ونهاية هذه القضية الاجتماعية.

وأولو الألباب -كما في سورة الرعد- هم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وهم كذلك يتصفون بصفة لازمة للصفة الأولى وهي أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل من صلة الوالدين والأرحام وحقوق الجوار وغيرهما مما أمر الله به: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: 20، 21) وضد أولئك من نقض عهده وقطع رحمه وأخل بما أمر الله به.

ولعل المتأمل الناظر في القرآن تتضح له استعمالات شتى للعهد والميثاق في القضايا الاجتماعية، فجدير بنا أن نهتم بها وأن نرعاها لما يؤدي التفريط فيها من مفاسد تعصف ببنية المجتمع وكيانه.
والله هو الموفق وهو يهدي السبيل.