اقتحام العقبة
7 ربيع الثاني 1428

كثيراً ما كان المفكر الجزائري مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ يتحدَّث عن أنَّ المسلمين بحاجة ماسَّة لعقليَّة الاقتحام، والبعد أيَّما بعد عن عقليَّة الهروب والانكماش والانزواء.
والحقيقة أنَّ الوضع الإسلامي وإن بدا ينمو تدريجيَّاً إلاَّ أنَّ أفراده وجماعاته بحاجة شديدة إلى تفقُّه معاني الاقتحام والعمل، والتشمير عن ساعد الجد، والمضيِّ نحو الهدف المنشود، بعزمة وثَّابة وإرادة توَّاقة.

وإذا كان المرء المسلم صاحب إرادة وهمَّة ولديه إرادة الاقتحام، فإنَّ ذلك لا يعني أن يكون سبعاً ضارياً، أو متهوراً طائشاً كما قال الشاعر:


ولكنَّما أهلي بوادٍ أنيسُهُ سِبَاعٌ تبغَّى الناس مثنى وموحد

كما لا نريده أن يكون خروفاً يمدُّ رأسه للجزَّار يستبق الموت أمامه كما قال أحدهم:

هِزَبر عدا في شِرْعَة الرُّمح، والعدا غدوا بقراً يستسهل النحر والذبحا

لا؛ فلا نقصد هذا ولا ذاك!
بيد أنَّ الأمَّة المسلمة لن تصحو من غفوتها ولن تقوم من كبوتها، إلاَّ إذا اتَّخذت قول الله ـ تعالى ـ شعاراً: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: من الآية105) وكذلك مدلول قوله تعالى: "فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ" (البلد:11).

إنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على أن ينزل النصر على عباده المؤمنين، ولكنَّه يريد أن يرى منهم قوَّة وعملاً على نيل ما هم مطالبون به، ويا للعجب! حين نتأمَّل في قوله ـ تعالى ـ: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً" (مريم:25) فإنَّه ـ عزَّ
وجل ـ قادر على أن يسقط الرطب اللذيذ المثمر عليها، إلاَّ أنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ يريد منها حركة وهمَّة تُبْعَثُ في النفس فتولد الإرادة ومن ثمَّ التطبيق والعمل.

فلن تدرك الراحة إلاَّ بترك الراحة، والنعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر، ولقد تكلَّم أحد الدعاة عن أهميَّة الاقتحام والعمل وبذل الجهد، وأنَّ المرء إذا أراد أن يعلم كم كانت همومه ومتاعبه اليوميَّة للعمل لنصرة هذا الدين: أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتـنام وجدت لركبتيك أنيناً، و في عضلاتك تشنجاً، لكثرة ما تحركت في نهارك.

والإنسان المسلم لا يتوانى ولا يكل ولا يعجز، بل هو يمتثل قوله تعالى:"ادخلوا عليهم الباب" ويوقن بعدها بالغلبة كما قال تعالى: "فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ" (المائدة: من الآية23)، ولهذا فإنَّه يقتحم ويبادر ولا ينتظر الأوامر إلاَّ من لدن الله ـ عزَّ وجل ـ، ويرى أنَّ هذه العوائق والعقبات التي تعترضه في طريقه أمر لا بدَّ منه، ولا مفر عنه، فيزمُّ نفسه بالعمل ويبذل الجهد والطاقة لينال رضا الرحمن ومن ثمَّ رضا الذات، كما قال القائل:

وما أنت بالمستسيغ القعود ولو كبَّلوك بهذي الحفر

فالمعادلة إذن تقضي بهذه الطريقة: (نيَّة + إرادة وعزيمة + قدرة = عملاً وتطبيقاً) وحين نرجع لقوله تعالى: "فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ" (البلد:11-16) نجد أنَّ كثيراً من المفسرين وقف عند معنى اقتحام العقبة المراد بهذه الآية وهو: الزكاة وتحرير الأرقاء من قيد الرق والعبوديَّة لسيدهم، ولكنَّ المتأمِّل يجد أن المعنى أوسع من ذلك بكثير؛ فالعقبة هي الحياة الدنيا وزخرفها، والله تعالى أمر المسلمين بأن يقتحموا هذه العقبة لينالوا رضا الله تعالى وجنَّته. ومن اقتحام العقبة المحمود أن يعرف المسلمون سبب ضعفهم، ومن ثمَّ يبدؤون في رسم طريق النهضة، والعمل والكدح من أجل البناء.... بناء التوحيد والإيمان في قلوب الناس، وتشييد سقف الحرية والكرامة والعدالة على أرض الله، فيكونوا خير أمَّة أخرجت للناس، ولا يكونوا كما قال زهير بن أبي سلمى:

وكان طوى كشحا على مستكِنَّة فلا هو أبداها ولم يتقدمِ

إنَّ تأمُّل قوله تعالى: "وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ" (صّ: من الآية6) وعزم أولئك الكفرة المشركين على المضي في نصرة باطلهم والصبر عليه وعلى التضحية لأجله، يعطينا دلالة واضحة على ضرورة أن يكون للمسلمين مواقف مضادَّة ذات إرادة واقتحام لأجل الوصول إلى الحق والحقيقة؛ فإذا كان أهل الكفر والضلال أشد عزماً على مواصلة الليل بالنهار، لأجل نصرة مبدئهم فلِمَ لا يكون المسلمون أقوى وأمضى في نصرة حقهم؟ وصدق عمر بن الخطَّاب حين قال: (اللهم إني أعوذ بك من جَلَدِ الفاجر وعجز الثقة).

صور بحاجة إلى اقتحام:
هناك صور كثيرة من الأزمات التي يعاني منها عالمنا الإسلامي هي بحاجة للعقلاء وقادة الفكر والرأي والقرار أن يكون لهم دورهم الزاكي في القيام باقتحام الطريق الصحيح، والتطويح بأي عقبة تعترضهم، ومن ذلك في نقاط مختصرة:
1ـ صياغة موقف جماعي تجاه الوضع الاقتصادي الربوي، وتقديم البدائل والحلول الناجعة التي تفيد العالم الإسلامي باقتصاد منضبط بأصول الشريعة.

2ـ نقل المعلومات المكدَّسة في عالم الأذهان إلى عالم الواقع الظاهر للعيان، وجعل هذه الأفكار الجميلة والطيبة تتحرك في عالم الوجود وتتدحرج لتصيب كل عامل إلى الإسلام بسهم.

3ـ مقاومة حالة الركود الفكري والحركي التي تتَّسم بها بعض الحركات الإسلاميَّة، والتي بقيت على تراث مؤسِّسيها وقادتها، ممَّا أدَّى إلى ضعف في البنية المعاصرة ووجود حالة من الاهتراء الداخلي، وما يسمى بالإيدز الحركي التي تنخر فيها وهي لا تشعر!
ومحاولة التجديد (المنضبط بأصول الشريعة طبعاً) والإنضاج الفكري والحركي، أسُّ من أسس النجاح الحركي والتواصل البيني مع الأتباع والجماهير.

4ـ تفعيل حالة النقد الذاتي، والنصح لكل مسلم، مع التعامل الحسن والحديث الطيب مع الآخرين لكي يُقْبَلَ الحق، فقد قيل: الحق حلو؛ فلا تفسده بمرارة أسلوبك.

5ـ نحتاج المزيد والمزيد من التأكيد ومن ثمَّ القيام ببرامج تربويَّة تستوعب الشباب المسلم الضائع، لكي يعرف سبب وجوده؛ فينطلق بعدها إلى العالم الرحب لينشر دين الله، ويدعو إلى الله، ويكون مبنياً على أسس العقيدة والأخلاق.

6ـ أهميَّة وجود القناعة ويليها التطبيق العملي لاستثمار المسلمين أموالهم في البلاد الإسلاميَّة، ومحاولة جلبها بقدر الإمكان من الدول الغربيَّة الكافرة، ليكون المردود والربح مآله إلى البلاد الإٍسلاميَّة ولو قلَّ الربح؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

7ـ حين يُختار بعض الدعاة أو المنتسبين للعلم والفكر لإدارة مؤسَّسة أو إلقاء درس أو استضافة في قناة أو حوار معه في مجلَّة وما إلى ذلك؛ يتردد بعضهم، بل سمعت من أحدهم قوله: لا أتقدَّم إلى أمور مثل هذه إلاَّ إذا وصلت سنَّ الأربعين! وأرى أنَّ هذا فيه مبالغة وورع بارد.

عذراً على قسوة هذه الكلمة؛ فإنَّ وضع أمَّتنا الآن بحاجة لكل أصحاب الهمم والطاقات المؤثِّرة في ساحات الميدان وحقول العمل الإسلامي، وليست الدعوة إلى الله محدَّدة أو مقرَّرة بسن معيَّن؛ فكم من إنسان داعية كبير في السن ضعيف العلم والقدرة على التأثير، وكم من داعية دونه في العمر يكون له في الدعوة وساحات البناء والعمل صولات وجولات، والعبرة بالحق وإخلاص النيَّة ومتابعة الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أمَّا النواحي الشكليَّة أو الفنيَّة فإنَّها لا تنال إلاَّ بعد مضي السنين، وكثرة التجارب، واعتراك الحياة.

وأمَّا الكمال في العلم أو الفقه بالدعوة والفكر، فإنَّ المرء لو بلغ ما بلغ من العلم والفكر فليعلم أنَّه علم شيئاً وغابت عنه أشياء، وأنَّه كلَّما اتَّسعت دائرة المعلوم فإنَّه يتَّسع من ورائها دائرة المجهول، ولنا في قصَّة الغلام المؤمن عبرة وسند؛ حيث إنَّه قد يكون العبد؛ مع قصر عمره؛ أقوى وأشد مفاصلة في الحق والثبات عليه من كثير من الشيوخ، فقد قال الشيخ لذلك الغلام: (أنت الآن أفضل مني، ولكن إذا سألك الملك عني فلا تدله علي) (القصَّة موجودة في البخاري ومسلم).

8 ـ حاجة الإنسان المسلم لمن يتبنَّى همومه، ويجلس لحلِّها وخصوصا من الحركات الإسلاميَّة، بتأسيس المؤسَّسات التي تعنى برعاية الإنسان المسلم ومعالجة مشكلاته الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والوقوف ضدَّ المظالم التي يواجهها.

9ـ تأسيس وتكوين (لجنة متابعة) مجتمعة من شتَّى الحركات والجماعات والجهات الإسلاميَّة التي لها دور واضح في الميدان والحقل الإسلامي، ومحاولة التنسيق بينها لتتعاون على البر والتقوى، إذا لم تستطع أن تتوحَّد بالكليَّة.

وقد يقول قائل: يا له من حلم وردي رائع ولكن أنَّى له التطبيق في عصر تسوده الاختلافات بين المسلمين، فأقول لهؤلاء: إنَّ للكلمات صدى وتأثيراً، يتبعها أناس جنَّدوا أنفسهم لنصرة الحق والتأليف بين أتباعه، ودعونا نحلم قليلاً أحلاماً ورديَّة، فأحلام اليوم يكون كثير منها حقائق للغد!

نعم! إنها أمور كثيرة تحتاج لإرادة واقتحام لإصلاحها؛ فأين الإنسان بل الجماعة بل الأمَّة التي تبحث عن سبيل الخلاص لها؟ لقد كانوا قلَّة وصاروا أقلَّ من القليل، ولهذا فإنَّ أفضل حلٍّ أن نبحث عنهم، كما كان الفيلسوف اليوناني (ديوجين) يحمل مصباحه ويدور به في وضح النهار وبياضه، وحين سئل عمَّا يصنع بمصباحه؟ قال:(أفتش عن إنسان).

إنَّ أمَّتنا بحاجة ماسَّة لمن يشعرها بأنها أمَّة ذات رسالة وفاعليَّة وينبغي أن تكون كذلك، لتكون فعَّالة ومتفاعلة، وليست منفعلة تحترق وتشتعل حين المصيبة، ثم إذا خبت وضعفت جذوتها تركت المشكلة بلا حل، وانتظرت المصيبة الأخرى.....!!
أمَّا كيف تكون صاحبة مبادرة لتعود إلى التأثير الإيجابي في مجالات الحياة المختلفة، فلعلَّه يكون لذلك مقالاً آخر، أو دراسة متكاملة أرجو أن يكون ذلك قريباً....