"اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ"، عبارة أخبر الله تعالى أنه أجراها على ألسنة جميع الرسل، فما بعث الله رسولاً إلا بها ولأجلها، ولئن وضع الأنبياء أيديهم على سائر أمراض المجتمع، إلا أنهم يفعلون ذلك انطلاقاً من هذه القاعدة "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ"، فشعيب عليه السلام قال لقومه: "وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ" هود: من الآية84، وقال: "وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" هود: من الآية85، وقال: "وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً" الأعراف: من الآية86، ولكن قبل ذلك كله قال: "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" هود: من الآية84.
ولوط عليه السلام قال لقومه: "أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ" الشعراء:165، وقال: "أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ" العنكبوت: من الآية29 ولكن قبل ذلك قال: "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" الشعراء:162، 163.
وباختصار شديد يوجز الله تعالى هذه الحقيقة فيقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" "الأنبياء:25"، ويقول تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" "النحل: من الآية36"، إذاً فالدعوة إلى التوحيد هي الأساس الذي انطلق منه الأنبياء لإصلاح جميع أشكال الفساد في مجتمعاتهم، وذلك لما أوحى الله لهم من البدء بالعقيدة وتصحيحها، لأن كل أشكال الفساد سوف تكون ما هي إلا أعراض لفساد المعتقد، ولا بد للطبيب الحاذق أن ينظر في أصل المرض للقضاء نهائياً على أعراضه.
ومن هنا فإن تقييم كل دعوة والحكم على نسبة موافقتها للحق يكون بمعيار اهتمامها بالتوحيد، وكذا الأمر على مستوى الدعاة، فالداعية الناجح المصلح حقاً هو الذي يولى أساس الدين الذي هو توحيد الله تعالى أكبر الاهتمام والجهد، ولقد برهن التاريخ أن الدعوة للتوحيد وإن شقت على الناس لكثرة المخالف إلاّ أنها أنفع وأدوم، فشيخ الإسلام ابن تيمية مات منذ سبعة قرون ولم يزل آلاف المسلمين يهرعون إلى كتبه التي اختص أكثرها ببيان العقيد السليمة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب قامت على دعوته للعقيدة الصحيحة دولة ثابتة الأركان، ولم يزل الناس يرجعون إلى كتاب التوحيد ويتحفون به، ويحفظونه في الصدور، ويدرس في حلقات العلم وقاعات الدراسة.
وقد درست دعوات ليس لكونها لم تكن تريد الإصلاح، أو لم تسع إليه، وإنما لكونها لم تسلك طريق الأنبياء والمرسلين، الذي أول معالمه الدعوة إلى توحيد الله تعالى.
والتوحيد ليس علماً نظرياً لا أثر له في الواقع، بل هو الذي يحرك الحياة قال الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" الأنعام:162، 163، أول المسلمين أي أول المنقادين لله في جميع شؤون الحياة، وفي كافة مجالتها، وبنص هذه الآية فالتوحيد هو المحرك لحياتنا الخاصة في بيعنا وشرائنا وجميع شؤوننا، وقد ذكروا أن أحد الأخيار أراد أن يظهر لبعض تلاميذه فضل أحدهم فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال: ليذهب كل واحد منكم مكاناً لا يرك فيه أحد فاذبحها، فذهب كل واحد منهم وعاد بالدجاجة مذبوحة، إلا ذلك الطالب النجيب جاء ودجاجته تصيح في يده، فلما سأله لم لم تذبحها؟
قال: لم أجد مكاناً لا يراني فيه الأحد الصمد لأذبحها فيه!
فالتوحيد هو الذي يبلغ بالعبد درجة الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ويراقب الله تعالى في تعامله مع الخلق، ويخشى الله تعالى في خلواته وهذا غاية الإصلاح الذي ينشده الدعاة.
والتوحيد هو الموجه للمجتمع قاطبة، فهو الذي يرشد الأمام للسير على ما يرضي الله ويصلح الرعية قال الله تعالى: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" النساء:65.
فهل من منهج أصلح من منهج الأنبياء فالتوحيد أساس دعوة الأنبياء، وهل من غاية لمصلح أعظم من استقامة شؤون المجتمع على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة؟ وتحقيق التوحيد ضمين بتحقيق ذلك الهدف، فهل يستقيم بعد هذا أن يختار معشر الدعاة والمصلحين طريقاً غيره؟